جائحة كورونا وهجرة الذكاء المَغاربيّ

جائحة كورونا وهجرة الذكاء المَغاربيّ
Spread the love

شجون عربية _ بقلم: د. الحبيب استاتي زين الدّين _
أكاديمي وكاتب من المغرب/

يُحيّرك مَن اكتشف فجأة أهميّة البحث العلميّ عندما لزم الناس جميعاً بيوتهم خوفاً من عدوى “فيروس كورونا”. فمتى تسلَّلت إلى ذهنه فكرة أنّ صناعة اللّقاحات أو الأدوية أو المنتوجات الأساسيّة تستلزم التسلُّح بحسن النيّة لا الاتّكال؟ كما يدهشك أنّ مَن كان يغذّي معارفه بقراءة سرديّات التحكُّم والمؤامرة، فطن إلى ما تستطيع الدولة فعله، إنْ هي راهنت على الذّات. هل استوعب الدرس جيّداً؟ العِلم قوّة، والدولة سنده ومُحرّكه؛ ومن خلال أجهزتها المختصّة تُحدّد الميزانيّات الموجّهة لكلّ قطاع، وهي التي بإمكانها أن تحتضن الذكاء وترعاه.

من داخل هذا الدرس الواقعي تنبثق إشكاليّة هجرة العقول أو “نزفها” من باب التدقيق. بداية، يذكّرنا هذا اللّفظ بالتعبير الصحافي الذي شاع في نهايات الستينيّات من القرن الماضي بعدما بدأت بلدانٌ غربيّة مُصنِّعة، كما هو حال إنكلترا وكندا، تفقد بعض كفاءاتها المواطنة لدول غربيّة أخرى، هي في حال اقتصادية أفضل منها، على غرار الولايات المتّحدة الأميركيّة. ولأنّ هجرة “الكفاءات” أو “العقول” Brain Drain لا تكون “فرصة” إلّا حينما تكون الهجرة ظاهرة طبيعيّة تُساعد على توسيع الخبرة والاطّلاع على الثقافات والحضارات الأخرى وتنعكس إيجاباً على المُجتمع الذي خرجت منه هذه المجموعات، فإنّها تُصبح خطراً واستنزافاً عندما تتحوّل إلى ظاهرة مجتمعيّة تسبِّب نقصاً في الطاقات البشريّة المتميّزة والقادرة على إحداث التغيير في المُجتمع سواء في جانبه الاقتصادي وليس المالي فقط، أم جانبه الثقافي والفكري، أم جانبه الإداري. على هذا النحو، يجدر التنبيه إلى أنّ عدم توافر الظروف المُلائمة التي تجتذب أصحاب الكفاءات وتحفّزها على البقاء، يُشكِّل إحدى المشكلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تعاني منها البلدان النامية أو التي تسير في طريق النموّ، منذ أن باشرت هذه البلدان بوضع البرامج للنهوض بأوضاعها المتردّية الموروثة عن عقود طويلة من الحكم الاستعماري والهَيمنة الأجنبيّة.

تشير معظم التحليلات والإنتاجات العِلميّة المُرتبطة بموضوع الكفاءات المغاربيّة المهاجرة (على الرّغم من تباعُد المدّة الزمنيّة بينها أو اختلاف طبيعتها) إلى دَور “الوظيفة والبنية الحاضنة” في تعزيز الاعتقاد بأنّ تطوير الوضع الشخصي والمهني وتحسينهما يتحقّق خارج الوطن لا داخله. تتولّد عن هذا الاعتقاد إشكالات كثيرة تستدعي البحث، أساساً، في دوافعه وآثاره على الرأسمال البشري المغاربي المؤهَّل. بلوغ هذا الرهان البحثي، يرتبط بمُحدِّدَين مُتداخلَين: الأوّل بطابع وظيفي يحيل على ضعف السياسات العموميّة في استقطاب الكفاءات الوطنيّة وتحفيزها معنويّاً وماديّاً، على الرّغم ممّا يُبذل من مُبادرات ومَساعٍ للتخفيف من وتيرتها بلغة الأرقام. لا تغفل هذه النقطة عن التحوّلات العالَميّة والإقليميّة المتعلّقة بالتطوّر التكنولوجي وتشجيع حريّة التنقّل وحركة رؤوس الأموال والكفاءات، لكنّها تُشدِّد على أنّ الآثار أبلغ وأعمق في الدول التي لا تزال تبحث عن المداخيل الأنسب لتحقيق التنمية المرغوب فيها، وخصوصاً أنّ جذْب المواهب وتوفير الفُرص الملائمة لقدراتها يمتدّ من المادّي إلى الرمزي، ومن الامتيازات الماليّة إلى الرعاية النفسيّة والإعداد الجيّد لظروف العمل.

التحدّيات الأخطر أمام الدول المغاربيّة

على الطرف الآخر من دائرة الإبداع، وجود بيئة عمل عالية الفساد يشكِّل عاملاً مُثبِطاً في سياق تزايُد التنافُس الدولي وتنامي الطلب على الابتكار والتجديد العِلمي. سيكون لدى المقاولات الكبرى والمتوسّطة، في هذه البيئة، حافزٌ غير قويّ للاستثمار في البحوث والتنمية إذا ضعف الاطمئنان إلى إمكانيّة الاعتماد، مثلاً، على النظام القضائي للدفاع عن ملكيّتهم الفكريّة. هذا الضعف متعدّد الأوجه والمَداخل في العالَم العربي أو الإفريقي. العالَم الذي لم يفهم بعد أنّ الاتّحاد والتكتّل ليسا مسألة سياسيّة، وإنّما هما قبل كلّ شيء مسألة بقاء. أزمة الدول المُنتمية لهذا العالَم معروفة منذ عقود، وهي أنّ النموذج التنموي الذي تمّ اختياره من طرف المسؤولين، هو عدم الاعتماد على الذّات، واللّجوء عوض ذلك إلى المساعدة الفنيّة والتعاون الدولي، في حين أنّ الحلّ الوحيد هو الاعتماد على النفس وخلق النموذج التنموي الذاتي.

من زاوية تاريخيّة، نسجِّل أنّ أخطر التحدّيات التي تُواجه الدولة في البلدان المغاربيّة، هو، إمّا عدم القيام بأيّ شيء كمُبرِّر لعدم القدرة على مُواجَهة التطوّرات والاضطّرابات المحليّة والإقليميّة بسبب تعقيدها، أو الاستمرار في الوضع الرّاهن واستدامته بالمُمارسات السابقة نفسها التي لم تتخلّص بعد من الاعتقاد بجدوى “المُقارَبة الأمنيّة”، مع ما ينتج عن ذلك من تأجيل فاتورة الإصلاح الاجتماعي والسياسي الضروري والمُنتظَر منذ عقود. ما يزيد من خطورة هذه التحدّيات أنْ لا أحد يعرف حقيقة أين سينتهي كلّ شيء. الكثير من المال يُنفق على أجهزة الدفاع وقوّات ضبْط الأمن وحفْظه، لكنْ ألن يكون هذا المال أكثر فائدة ومردوديّة لو استُثمر جزءٌ ضئيل منه في تنمية الفكر وفضاءاته؟ إنّه سؤال بريء.

يشعر المرء بالفخر للوهلة الأولى عندما يسمع أو يقرأ عن كفاءات مغاربيّة تألَّقت عالَميّاً في الفلك والفيزياء والكيمياء والطبّ والأدب والفلسفة والقانون وغيرها من المجالات الفكريّة. لكنْ سرعان ما يخبو هذا الشعور عند استحضار الدوافع والحيثيّات التي أثَّرت في اتّخاذ قرار استقرار الذكاء المغاربي خارج حدود الوطن الأصلي.

لفهْم هذا الأمر، نتوقّف عند بعض النماذج على سبيل المثال لا الحصر، لأنّ هناك حالات كثيرة لا يتّسع المقال لذكرها، على الرّغم من الحظوة العِلميّة التي بلغتها، وأخرى لم تنل حظّها من التعريف اللّازم، ولم تُسلَّط عليها الأضواء بما يكفي ليعرف الناس مَسارها وإنجازاتها، والأهمّ اجتهادها في سياقات ومجالات تجعل من الكفاءة وحدها الشرط الأساس للدعم والاحتضان وحتّى التجنيس. تحضرني اللّحظة بعض الأسماء في مجال العلوم، منهم التونسيّون سفيان كمّون من جامعة كامبريدج في المَملكة المتّحدة في مجال بيولوجيا النبات، وروجر تمّام من جامعة إنديانا في الولايات المتّحدة الأميركيّة في اختصاص الرياضيّات، وهادي مطوسي من جامعة فلوريدا في الولايات المتّحدة الأميركيّة في مجال الكيمياء. وقائمة طويلة من المَغاربة، أذكر، من باب التمثيل لا غير، كوثر حافظي، مديرة قسم الفيزياء في مختبر “أرغون” الأميركي الوطني، ومريم شديد، أوّل عالِمة فلكيّة مغربيّة وعربيّة تطأ قدماها القطب الجنوبي، ورشيد اليزمي، مُخترِع بطّاريّة اللّيثيوم، صاحب التجارب الطويلة في المُختبرات والمَراكِز العالَميّة، آخرها الالتحاق بالمعهد الوطني للطاقة في سنغافورة، وكذلك عبد الواحد الصمدي الذي راكمَ براءات اختراع عدّة في مجال صناعة الأدوية لعلاج مرض الزهايمر والباركنسون. هذا إلى جانب طاقات عِلميّة جزائريّة من أمثال إلياس زرهوني الرئيس السابق للمعهد الوطني للصحّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة الذي يُعَدّ أكبر منشأة طبيّة في العالَم بميزانيّة تفوق ثلاثين مليار دولار سنويّاً، والفيزيائي نور الدّين مليكشي، ومطوِّر “الروبوتات” The robots السريعة كمال يوسف تومي.

حسرة إلياس زرهوني

في كلّ لقاء صحافي، يحرص رشيد اليزمي على التأكيد على ما يملكه المغرب من إمكانات ومؤهّلات كبيرة وهائلة. المطلوب تشجيع الناس ذوي الإرادة الصالحة الذين يريدون تحسين مستوى المعيشة. الخطاب موجَّه إلى المسؤولين المَغاربة من أجل توفير الدعم للباحثين في الجامعات وللعُلماء حتّى يُسهموا في تطوير البلد وتنميته. فلِمَ لا تتمّ الاستفادة من خبراته وعلاقاته في إحداث السبق العالَمي في مجال تخصّصه، والأكثر أهميّة توسيع “حلم” الأجيال المقبلة؟! هل الأمر يتعلّق بعائق سيكولوجي أم بإكراهات ماديّة أم بضغوط محليّة أو خارجيّة غير مُعلَنة؟ عسى أن يكون السؤال آليّة حجاجيّة توقظ الأجوبة المكبوتة بشأن ضعف احتضان الذكاء الوطني.

قريباً من أوجه هذا الضعف، تحدّث العالِم الجزائري الياس زرهوني بحسرة عن قرار مُغادرته الجزائر صوب الولايات المتّحدة الأميركيّة. يقول إنّ هذه الأخيرة وضعته في الصفّ الأوّل، “في الوقت الذي وضعه بلده الأصلي الجزائر، في الصف الأخير”، مبيّناً أنّ بداية التفكير في هجرته تمَّت عقب استشارته عميد كليّة الطبّ في الجزائر وقتها، ناصحاً إيّاه بالهجرة إلى أميركا وجامعاتها. وبنبرةٍ لا تخلو من خَيبة أمل، أكَّد في برنامج “موعد في المهجر”، الذي تبثّه قناة الجزيرة، أنّه لا يستطيع ربّما العودة إلى البلدان العربيّة، وفي مقدّمتها الجزائر، لأنّ الميزانيّة التي تضعها واشنطن تحت تصرّفه تمثِّل مجموع ميزانيّات دول عربيّة عدّة مُجتمِعة، كما أنّ هذه الأخيرة في نظره لا تشجِّع، لا العِلم ولا التكنولوجيا، عكس ما هو عليه الأمر في الولايات المتّحدة الأميركيّة.

لا يختلف مواطنه كمال يوسف تومي مع هذه الفكرة. بكلمات عميقة ومُنتقاة بذكاء يؤكِّد أنّ الاستثمار في العقل هو أفضل استثمار على الإطلاق، لأنّه ببناء العقل يُمكن بناء المُجتمع. وجواباً عن سؤالٍ بخصوص رأيه في مُبادَرة وزارة التعليم العالي والبحث العِلمي في الجزائر تشجيع الأدمغة الجزائريّة المُهاجرة على العودة والمُشاركة في النهضة العِلميّة الوطنيّة، يقول: “مُبادَرة جيّدة للغاية، لكنْ ليس المهمّ عودة الباحثين الجزائريّين إلى الوطن، بل دراسة كيفيّة الاستفادة من أبحاثهم من منظور نقل تكنولوجيا المعرفة، فالجانب النظري في الجزائر مُمتاز، لكنّ مجال التطبيق ضعيف للغاية، ومع المَوارِد الماليّة الكبيرة، يجب الاستثمار في مثل هذه التكنولوجيا”.

من ضمن هذا التصوّر، يرتسم الأمل في أن يحصل الاقتناع بأنّ البحث العِلمي والأكاديمي ليس مجالاً للاستقطاب أو التهافُت السياسي، وأنّه ليس لعبة في يد “السياسويّين” أو مُمتهني الضحالة العِلميّة أو مُناصريها، وإنّما هو أساس بناء وطن يحتضن الكفاءة ويحرص على دعمها، ويجتهد في الاستخدام الأمثل للثروة بمختلف أشكالها ويتصدّى لاحتكارها أو سوء استعمالها. القول بهذا رضوخ لحركيّة الزمن في أُفق التفكير في طريقٍ سالك للنهضة والتنوير الحقيقيَّين بالاعتماد على الموارد الذاتيّة في الدرجة الأولى. فالإنكار أو التجاهُل مُكابَرة وتعامٍ لا غير، بل و”زيغ” عن القيَم الحقيقيّة التي ينبغي الحرص على غرسها في نفوس الناشئة وعقولهم لترسيخ احترام العِلم والعُلماء والباحثين وعدم الاستخفاف بهم أو التراخي في توفير مناخ سليم ومُشجِّع على الإبداع والتألُّق العِلمي. فوجود بيئة مناسبة وإرادة صلبة يحوِّلان التعثُّر والإخفاق إلى نجاحٍ حقيقي.. والعكس صحيح.