الصراع الذاتي والتنظيم السياسي

فلسطين
Spread the love

بقلم: بكر أبوبكر/

يحيط بالكيان سواء أكان كيانا بشريا، إنسان، او سياسيا أو اقتصاديا…الخ مجموعة من الدوائر تلك القريبة منها، سندا ودعما وحماية، والأخرى البعيدة.
وكلما اقتربت الدائرة كلما كان تأثيرها على المركز أكبر، ومن هنا فإن مسعى الجاهل أوالأحمق اوالانتهازي هو تفجير الدوائر، أو نقل مكونات الدوائر البعيدة منها الى الأبعد، والقريبة الى البعيد.

فكرة تدمير المركز تأتي سواء بأفعال مهدفة أو أفعال طائشة، بينما الحكمة تقتضي تغليظ حدود الدائرة القريبة والعمل على توسيع نصف قطرها لما لها من جدار حماية متين للمركز.

المركز-مركز الدائرة قد يكون أنا، أو نحن، أو الكيان مثل المؤسسة أو البلد أو الأمة، وهنا يهمنا في هذه المعادلة فلسطين.

في قاعدة تكثيف العناصر الداخلة في نطاق الدائرة الأولى، لا يعني المرور بحالة رياضية تقرّب أو تبعد كما الحال مع واحد زائد واحد، وإنما تعني خوض الصراع الداخلي،والخارجي.

إذ أنه بقدر ما يجب فهم الآخر، وطريقة التعامل معه، ضمن رؤية واضحة للهدف وديمومة النضال وتعدد وسائله بقدر ما قد نتمكن من جلبه وتقريبه لدائرتنا، او الدائرة الثانية وهكذا.

النواة الصلبة وخوض الصراعات
تمثل الثوابت الفكرية عوامل غير قابلة للتغيير في المرحلة، فالثورة أو النضال يفترض وجود نواة بشرية صلبة مؤمنة بالفكرة والهدف والوسيلة وتنشر وتدعو وتدافع عن ذلك.

النواة الصلبة من مهامها توسيع الدائرة حول الفكرة، وحول الهدف وحول القضية المركزية، بخوضها النضال بكافة أشكاله.
نحن نخوض نضالات على مستويات عدة، فنحن نخوض النضال (الجهاد) الذاتي التغييري، والنضال في المحيط سواء القريب أو البعيد، والنضال الاكبر ضد العدو الرئيس.

أن خوضي نضالي الذاتي بتغيير طبيعة شحنات عواطفي اليائسة، أوبتغيير أفكاري القاتمة أوالسلبية أو اليائسة بجرعات الإرادة المنفتحة على الأمل المفهعم بالإيمان هو قرار ذاتي قابل للشحن والشحذ والتمرين على حجر الوعي الذي يجعل من قضية الصراع بأبعاده المختلفة وعيا أوليا لايمكن الاجتياز للعقبات أو العبور للشط الآمن بدونه.
أن الصراع لكي يحقق الهدف يحتاج لصراع وصراعات، وكل نتيجة تتحقق من صراع يكون في بطنها بذور صراع جديد، ومن هنا فإن معادلة الصراع تظهر كأنها متوالية لا تتوقف.

تأتي هنا قضية الثابت والمتغير، فمتى كان فهمنا لمتغير الصراع واضحا يصبح “متغير” الصراع هو الثابت، وتصبح مجموعة من الأركان الداعمة لهذا الفهم ضرورة.
التنبّه وثوابت الفكر النضالي.

من ثوابت الفكر الثوري الفلسطيني هو تكثيف النقاط الداخلة في نطاق الدائرة الأولى المحيطة بنا أي المحيطة بالمركز، وعدم إلقاء المخالفين في البحر الواسع البعيد عن دوائرنا الثلاث الرئيسة، وإنما خوض الصراع معهم وبهم، بما يعيد الضم للدائرة الأقرب، فالنصر يتأتى من معادلة الإيمان والعمل والدعم والإسناد من هذه الدوائر-على اختلاف درجة تأثيرها ومستوى دعمها- بلا أدنى شك.

إن الدوائر المحيطة بالقضية الفلسطينية كمركز تنبّه للوعي القومي، والوعي الحضاري، والوعي الوجودي، والوعي التحرري ترتبط بفكرة النضال والثورة حتى تحقيق النصر.

إن كانت دائرتنا ]الجماهيرية[ الأولى في السياق النضالي التحرري لفلسطين، هي الجماهير الفلسطينية المتحلقة نحو الفكرة، نحو مركز التنبه نحو فلسطين، فأننا بأمس الحاجة لجعل الدائرة متينة، ثم تتسع لتحول الدائرة الثانية وهي الجماهير العربية الى الأولى، لأن الأمة المرتبطة بنا جغرافيا وبشريا ولغويا وتاريخيا وحضاريا ودينيا (المسلمين والمسيحيين في دائرتنا العربية)، هي الجدار الحامي وهي الحاضنة ما ثبت بحقائق التاريخ القديم، والحديث منذ النكبة عام ١٩٤٨م. ثم يلحقها الدائرة الثالثة الممثلة بجماهير الدول الإسلامية الأخرى، وأحرار العالم.
أما الدائرة ]الفكرية[ الأولي فلا تقف عند حدود الجنسية بقدر ما تتصل بجميع أحرار العالم الذين يؤمنون بفكرة فلسطين والحق الفلسطيني والنضالية الفلسطينية بغض النظر عن دين أو جنسية الشخص، لأن الارتباط هنا في مفهوم الدوائر ارتباط فكري وحقوقي، وفي الحد الأدنى سياسي مصلحي، يرى بالعدالة المتحققة في فلسطين مكسبا له كما هي دعم لنا. وبغض النظر عن حجم التأييد هذا إن كان من المستوى الأول (الدائرة الأولى) سواء فهمت أنها تحرير فلسطين وإقامة الدولة الديمقراطية لكل سكانها من مسلمين ومسيحيين ويهود، أو فهمت استقلال دولة فلسطين على حدود ١٩٦٧ فأننا نحتاج للفئتين في سياق الصراع الفكري في الدائرة الاولي ما بين الهدفين وما بين الأولوية أو فكرة المرحلية بمعنى صحة فكرة أن هذه تؤدي لتلك.

مركز التنبه الأساس أيضا هنا، ومنطلق الصراع الوجودي الرئيسي هو وضوح الرؤية بالعدو الرئيسي، الذي لا يتغير –وهو في حالتنا الاحتلال الاستعماري الصهيوني-مهما قام الخصوم أوالمتناقضون الثانويون بحرف المسار، كما حصل في مراحل كثيرة من عمر الثورة.
في مراحل عدة قام النظام السوري أوالنظام العراقي أوالنظام المصري أوالنظام الليبي أوغيرها من الأنظمة العربية، بحرف الثورة والمسيرة عن مركز التنّبه، وعن تناقضها الرئيس مرات عديدة، ولكنها -أي تلك الأنظمة جميعا- لم تكن في تلك الفترات ولا اليوم لتمثل بالنسبة لنا إلا التناقض الثانوي، مهما بدا حينها عملاقًا من القذارة يغطي لوح الشمس، ومهما بدا أولوية في لحظات الصراع الشديد.

معادلة النصر
في مركز التنبّه للقضية يفترض الوعي أن معادلة النصر تأتي بالتضحية والإيمان، فبدون تضحية بالوقت والجهد والعطاء والمال والنفس فلا نصر أبدا.
بدون إيمان الله سبحانه وتعالى ونصره الأكيد ضمن شرائطه ، وبدون إيمان لا يتزعزع بحقنا التاريخي والقانوني وروايتنا الحقيقية والأصيلة، وبدون أيمان بالعدالة والديمومة، وبقدرة شعبنا الجبارة تضمحل الأهداف وتنتحر الشخصية الوطنية أو تتساقط على درب المغريات والامتيازات فتصبح عالة على الثورة أو خنجرا في ظهرها.
إن مركز التنبّه في الدائرة أيضا يفترض العمل بلا كلل بالمطلق لقضية فلسطين، التي هي دون سواها تشكل مركز التنبّه لنا، في العقل، وفي الروح. ومركز التنبه في ذات الأمة الواحدة، ومركز التنبه في مجال الحركة التي يجب ألا تهدا من قِبَلي، وقِبَلك، ومن قِبَل من أسخّر نفسي لتكثيرأعدادهم ليكونوا مثلي من دُعاة المركز، والدائرة الأولى (جماهيريا وفكريا ونضاليا) حول مركز التنبه ممثلا بفلسطين.
الأمة نحو الدائرة الأولى دومًا.

فلسطين عبر التاريخ لم تقم لها قائمة الا بتحالفات الداخل مع تحالفات المحيط العربي والإسلامي دائرة دائرة، وهذا ماكان من شأن كل حروبها التحررية المعروفة، أو غير المعروفة حديثًا مثل التحالف الفلسطيني المصري الذي أقامه ظاهر العمر الزيداني في القرن الثامن عشر فأنشأ أول دولة فلسطينية في العصر الحديث.
لم يكن النفس العروبي والاسلامي في منطقتنا عنصريا وإنما هو حاجة تاريخية حضارية ثقافية ترتبط بالدائرة الأولى، التي تضم وحدة اللسان، وما يرتبط بها من ثقافة وحضارة أمة أسعدها الله بنعمة التوحيد ما بين المسيحيين والمسلمين، وما الدوائر الأخرى المنبثقة عنها من شعوب أوقوميات الا توسعة هامة لهذه الدائرة، وليس حلولًا في مكانها أبدا.

الدائرة الأولى حول القضية الفلسطينية التي تشكل الثابت الأصيل هو محور التمسك بالقضية والايمان بقدسيتها وعدالتها وتحرير فلسطين ضمن شعار الفلسطينيين الخالد ثورة حتى النصر.
إنه النصر الذي من أبرز مقوماته الإيمان والعمل والوحدة الداخلية وإن تعددت الآراء فالوحدة المطلوبة هي وحدة الارتباط بفلسطين، ووحدة الارتباط بالتحرير ووحدة الارتباط بالإطار الجامع الذي استطاعت الثورة الفلسطينية أن تشكله من خلال منظمة التحرير الفلسطينية، لذا كان في الثورة الفلسطينية حتى ضمن الدائرة الفكرية النضالية الأولى مختلف القوميات والأديان والمذاهب الفكرية.
في هذا التنوع المحمود حول الهدف تكون الدائرة الأولى حول المركز قد اتخذت هيئتها، ومن يحاول أن يُسقط الدائرة أو يفجرها فهو قطعًا خارج عن الصف والهيئة والتنبّه.

وفي الدائرة الثانية مرتكز أصيل وحائط لا يمكن الاندفاع دون الاستناد له، فإن لم يكن الحائط الثاني (الجماهيري) صلبًا ومؤيدا وداعما –حتى على ركاكة أو ضعف أو عدم اكتمال الدعم منه- فنحن في حالة الاستفراد والتخلي التي معها نضطر لخوض النضال تحت شعار “يا وحدنا” الذي كلما ابتعدنا عنه بفهم طبيعة التناقضات وحسن إدارة التعامل معها كلما اقتربنا من بشائرالنصر.

توسيع الدائرة
إن الدوائر اليوم تلك التي يجب تنميتها بحقيقة الالتفاف حول النضال الفلسطيني تبدو ضعيفة وغير متماسكة وتبدو العناصر المكونة لها مختلطة بحيت لا تستطيع أن تستبين شكلها من الداخل والخارج.
أين نحن من الدائرة الأولى؟ فكريا وجماهيريا ونضاليا وأين دول العرب من الدائرة الثانية، وأين الأمة أو الأحرار والأبرار في مقابل الفجار والكفار؟ بينما يشدنا التحزب والالتفاف نحو الشخوص والايديولوجيات والزائل، والاقليمي، بعيدا عن مركز التنبّه؟ وبعيدا عن المشتركات والمباديء الجامعة؟
فلسطين مركز التنبّه، وكلما اتسعت الدائرة المحيطة بها، وكلما زحزحنا الآخرين بشخوصهم أو فكرهم أو نضالهم (الميداني) معنا ليقتربوا من الدائرة الثانية فالأولى كلما اقتربنا مقدارا كبيرا من النصر.

نحن جزء لا يتجزا من هذه الأمة بحضارتها وتاريخها ومستقبلها، ويزداد نضالنا قوة بها، ونضعف كلما تفتّتت تحت ضربات الصهيونية، أوتحت ضربات القوى الإقليمية، أوالعالمية التي لا تسعى الا للهيمنة وتحطيم الأمة فداء لمصالحها الاقتصادية وهيمنتها وفداء للكيان الصهيوني.
مهما يكن الاختلاف مريرًا فإن الوعي بضرورة الارتقاء للعودة لمركز التنبه، هي من الثوابت التي تجعل من الأخ أخًا من الحياة حتى الممات، لذا فإن علوّ صوت المنبه الأساسي وهو القضية المركزية تصبح القاعدة والثابت التي تقضي على النباتات المتسلقة والطفيليات المتمحورة فقط حول المكتسبات التنظيمية او الشخصية او السلطوية .

ما بين خوض الصراع القريب والصراع البعيد مسافة، لابد أن تبدأ من المنطقي وهو القريب ولكن كثير من الناس من يستسهل ذاك البعيد ويستصعب القريب، فالقريب صراع في النفس في الذات في الشخصية ولهذا الصراع أدوات تحتاج لدأب ومثابرة، كما تحتاج لتحريك الفكرة باتجاه التنفيذ عبر مركب الإرادة والتي ما هي الا ناقل الحركة من سرعة الى سرعة وبدونه يظل المسار الداخلي بطيء الايقاع ولا يحدث نتيجة عدم التسارع أي تغيير.

الصراع القريب

إن الصراع القريب هو الصراع الحميم في نفس الوقت، وهو الصراع الذي أخوضه يوميا مع نفسي بالحوار/الصراع الداخلي الذاتي لتثبيت مجموعة من القيم والمفاهيم والتوجهات في نفسي، فلكي أكون صادقا مع نفسي وأمام الآخرين لا يكفي التعبير عن ذلك لفظًا، ولكي أدعو الناس للصبر فلا يجب أن أكون ملولا، وعندما يكون المحيط قابلا للانفجار أكون قد راكمت عناصر التحليل مسبقا لآلية ردّات الفعل.

الصراع القريب هو صراع النفس الإنسانية، وحوارها الصعب الذي حضّت عليه الديانات عامة، بواقع التأمل والتفكر وجهاد النفس، كما حضّ عليه القرآن الكريم الذي جعل للنفس درجات من الأمارة بالسوء، والموسوسة، والمطمئنة واللوّامة والراضية المرضية، وجعل لكل درجة عناصر قوتها وضعفها ومسارها الذي يجب أن تسير عليه.

إن النفس هي حقيقة الشيء وعينه وجوهره كما ورد في تاج العروس، وفيها الوساوس والظنون والخلجات وما يتحدث به الانسان عن نفسه وغيره، وظنونه وأفكاره ومواقفه وضميره.
والنفس هي بؤرة الصراع/الحوار الداخلي القريب بين قوى الخير والشر، بين الايجابية والسلبية بين العبوس والابتسام….، و لها صفات وخصائص كثيرة؛ منها: القدرة على إدراك الخير والشر، والتمييز بينهما، والاستعداد لهما، والقدرة على التحريك والتغيير.

لذا فإن البدء من حيث ما أملك أجدر أن تتم العناية به من البعيد الذي قد يكون صديقك أوشريكك أو أخيك، أو قد يكون القضية التي تحملها وتصارع في داخل التنظيم أو المؤسسة لتمثلها والدعوة لها أو لإحداث التغيير فيها.

الثائر والمجاهد، والانسان الحقيقي من يبدأ بنفسه، فيعمل جاهدا على تنقيتها، وعلى اتساع عناصرها ويعمل على تحويل المركّبات السيئة النشِطة فيها الى مركبات إيجابية، وهو الذي يتهم نفسه أولا بالنظر والحوارالداخلي والتساؤل ومحاسبة ونقد الذات قبل أن يوجه أصبع الاتهام للآخرين او قبل أن يقوم بتمزيق الآخرين بقنابل السخرية والشتائم والتجريح والاتهام.

الثائر والانسان الواعي والمجاهد الحقيقي من يركّز على العمل، وعلى الموقف وعلى النتيجة، وهو من يوجّه نقده للعمل والموقف والنتيجة، فيعيد تركيب مكونات القوة فيه وإن كان من انحدار أو مخالفة من الآخرين في أي منها يقوم بنقده وفق مقتضيات الحوارالعام وآداب الحديث مع الأخرين وبما لا يضر بمنطق الاحتفاظ بالعناصر الإيجابية ضمن الدائرة المحيطة بالذات.