رؤية إسرائيلية: لماذا لن ننتصر في الحرب المقبلة

رؤية إسرائيلية: لماذا لن ننتصر في الحرب المقبلة
Spread the love

بقلم: رون بن يشاي – محلل عسكري إسرائيلي —

في الحرب المقبلة إسرائيل لن تُهزَم، لكنها أيضاً لن تنتصر. وسواء كانت هذه معركة في غزة، أو حرب لبنان الثالثة أو حرب الجبهة الشمالية الأولى (لبنان وسورية)، أو مزيج محتمل منها كلها، فنحن محكومون بأن تنتهي من دون حسم واضح، وبإحساس من المرارة، بينما سيخرج العدو من تحت الأنقاض، ينفض عنه الغبار، رافعاً شارة النصر.
بالتأكيد سنحقق ردعاً سيصمد في أحسن الأحوال عدة سنوات، وتسوية لإنهاء القتال بواسطة وسطاء دوليين، ستكون من ناحيتنا معقولة. لكن غياب نصر عسكري واضح وعلى صعيد الوعي في ساحة القتال سيقضم هذا الردع، ونتيجة ذلك سيقصر مهلة الهدوء حتى المواجهة العسكرية الكبرى. إن وجود فترات هدوء طويلة بين جولات القتال الكبرى أمر مهم، لأنها تسمح بنمو اقتصادي وتؤمّن نوعية الحياة لمواطني إسرائيل.
بعد أيام قليلة من توليه منصبه، عقد رئيس الأركان أفيف كوخافي اجتماع عصف فكري استمر بضعة أيام بمشاركة كبار مسؤولي الجيش. وكان الغرض منه واحد: توضيح مغزى مصطلح “انتصار” وتحديده. أي ما الذي يجب أن يحققه الجيش الإسرائيلي في الحرب المقبلة كي يكون واضحاً في نهايتها أنه انتصر ولم يخسر. استنتاجات اللقاء لها أهمية عملانية لذلك بقيت سرية. لكنني أسمح لنفسي بالتنبؤ بأن إسرائيل لن تنتصر في الحرب المقبلة.
نحن لن ننتصر، ليس لأن الجيش غير مستعد للحرب أو لأنه غير قادر على إخضاع العدو. في تقديري أن الجيش الإسرائيلي اليوم قوي وعلى مستوى عالٍ من الجهوزية، سواء من أجل خوض حرب غير متناسبة أو حرب تقليدية على جبهتين أو ثلاث جبهات في آن معاً. ما يمنع الحسم العسكري والانتصار هو ظواهر اجتماعية وعقلية سياسية نمت في المجتمع المدني وفي علاقات المجتمع بالجيش في إسرائيل بعد حرب يوم الغفران [حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973].
في تلك الحرب التي شنتها مصر وسورية بصورة مفاجئة في تشرين الأول/ أكتوبر 1973، تكبدنا خسائر بشرية كبيرة ثمناً للجمود الفكري (النظري)، الناجم عن غطرسة شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي، وعن عدم جهوزية القوات، وأداء عسكري سيء في المعارك. لكن على الرغم من ظروف بداية الحرب التي انطبعت كصدمة في وعي الجمهور الإسرائيلي، انتهى القتال على بعد 101 كيلومتر من القاهرة و40 كيلومتر من دمشق، وكان انتصاراً ساحقاٌ مادياً وعلى مستوى الوعي.
تأثير حرب يوم الغفران على الجمهور في إسرائيل كان معقداً وبرز من خلال ظاهرتين:
من جهة، ضعف الخوف على الوجود المغروس في نفوسنا منذ إعلان ديفيد بن – غوريون إقامة الدولة اليهودية في أرض إسرائيل. ومن جهة أُخرى ازدادت حساسية الجمهور في إسرائيل حيال الخسائر بين الجنود، وتطورت نظرة غير عقلانية تقارب حدود هستيريا عامة بشأن موضوع الأسرى والمفقودين.
هاتان الظاهرتان تسببتا بمسارات تضر بالمناعة الوطنية، وتخرب بصورة بارزة قدرتنا على الانتصار في الحروب وعلى ردع أعدائنا.
الخطِر بصورة خاصة هو الضرر اللاحق بالأمن الناجم عن الحساسية غير المتناسبة حيال الخسائر. منذ عملية السور الواقي في سنة 2002، يشوش هذا الإتزان لدى متخذي القرارات في المستوى السياسي- المدني، واستعدادهم للمخاطرة لدى إقرارهم عمليات القوات البرية. أيضاً تآكل الحافز لدى القادة الميدانيين، والاستعداد للسعي للاحتكاك والإصرار على تنفيذ المهمة نتيجة ضغط الجمهور عليهم، وتفضيله المحافظة على حياة عناصرهم على أي اعتبار آخر.
في حرب لبنان الثانية، على سبيل المثال، والتي أُديرت بعدم حرفية وفهم من السياسيين وأيضاً من العسكريين، أُعطيت في جميع الحالات تقريباً الأولوية لإخلاء المصابين وليس لتنفيذ المهمة العسكرية. مرة تلو الأُخرى، في اللحظة التي تكبدت فيها قواتنا خسائر جرّاء نيران حزب الله، ركّز رجالنا على معالجة المصابين وإخلائهم، بدلاً من السعي لتنفيذ المهمة (أيضاً لأن تحديد المهمات في هذه الحرب كان غامضاً وغير واضح). ليس غريباً أن يترسخ في عقلية الجمهور خدش ذهنبي بحسبه، “سلامة أولادنا” (الجنود) تأتي قبل سلامة المواطنين الذين يدافعون عنهم. وهذه العقلية ما تزال موجودة الآن أيضاً.
في الإمكان تفسير ذلك بعدم وجود رغبة وإرادة لدى الجمهور الإسرائيلي لقبول الثكل وخسارة أرواح الجنود، وفقدان الثقة بالزعامات السياسية، وبانتقادات وسائل الإعلام التي تنتقد، بصدق أو عدم صدق، قادة الجيش من مختلف الرتب. يؤدي هذا بصورة غير مباشرة خلال فترات القتال وبعدها إلى اضطرار القادة في أوقات كثيرة إلى مواجهات مع العائلات الثكلى التي تتهمهم بالمسؤولية عن خسارة أحبائهم.
إن الحاجة إلى إعادة الأسرى والجثامين والمفقودين إلى الوطن بأي ثمن خلق لدى أعدائنا حافزاً بعيد المدى لخطف وقتل جنود ومدنيين وإجراء مفاوضات تستهدف الوعي، مهينة ومنهكة على جثامين وأسرى، وهي تجذب العدو إلى الضغط علينا تحديداً في المكان الذي يؤلمنا. منذ خطف غلعاد شاليط وإطلاق سراح أكثر من 1000 مخرب في مقابل ذلك، حولت “حماس” وحزب الله خطف الإسرائيليين، جنوداً ومدنيين، إلى هدف أعلى للقتال. وأي عملية خطف حتى لجثة، تتحول بمساعدتنا إلى عملية انتصار على الوعي بالنسبة إليهما.
استنزاف اليهود حتى يرحلوا

لكن الأضرار الناجمة عن الحساسية المبالغ فيها وغير المبررة إزاء المصابين والأسرى والمفقودين لا تقتصر على ذلك. إن الضرر الاستراتيجي يتمثل في الضعف الذي تبثّه هذه الحساسية لشعوب المنطقة؛ إن مظهر الضعف يضر بردع دولة إسرائيل، ويمنح أملاً استراتيجياً لأعدائنا، على المدى البعيد، بإزالة إسرائيل ككيان مستقل عن خريطة الشرق الأوسط.
المحور الشيعي الراديكالي، منظمات الإرهاب الفلسطينية والإسلامية السنية السلفية الجهادية، كلها أدركت أنها غير قادرة على القضاء على إسرائيل في عملية عسكرية عنيفة واحدة أو من خلال عمليتين، لذلك انتقلت إلى خوض حرب استنزاف استراتيجي ضدنا تجمع بين القتال التقليدي والحرب على الوعي. لذلك فإن كل جولة عنف أو حرب نتائجها ليست قاطعة لمصلحة إسرائيل هي في نظرهم مسمار إضافي في نعش “الكيان الصهيوني”.
من أجل القضاء مرة واحدة وإلى الأبد على استراتيجيا الاستنزاف هذه والدافع إليها، يتعين على إسرائيل الانتصار عسكرياً وعلى مستوى الوعي في كل المواجهات والحروب المقبلة. أي مواجهة كبيرة في المستقبل يجب أن تنتهي بانتصار إسرائيلي مادي وعلى مستوى الوعي، وقاطع إلى أن ييأس أعداؤنا من فرصة إبادتنا بواسطة الاستنزاف.
في هذه الأثناء هذه هي “الاستراتيجيا الكبرى” الوحيدة التي لديها فرصة إجبار أعداء إسرائيل على قبول وجودنا. لقد أدرك هذا كله بن – غوريون حين حاول أن يبلور عقيدة أمنية لدولة إسرائيل بعد حرب 1948. لكن الواقع هو أنه منذ حرب الغفران وحتى اليوم نجحت إسرائيل في الانتصار بصورة قاطعة على أعدائها فقط مرة واحدة في عملية السور الواقي التي خاضها الجيش والشاباك بعد الهجوم الفتاك الذي أدى إلى مقتل عشرات اليهود في فندق بارك في نتانيا، والتي أدت إلى القضاء على إرهاب الانتحاريين الفلسطينيين وإخماد الانتفاضة الثانية.
كل شيء سياسة أيضاً في الحرب

إن ما يقلص من قدرة الجيش على الانتصار في ساحة القتال إلى حد كبير هو تسييس الأمن. لقد كانت هذه الظاهرة موجودة دائماً، لكن حتى حرب لبنان الأولى [1982] أثرت فقط في قرارات تنظيمية وشخصية معدودة اتخذها المستوى السياسي (تعيين موشيه دايان وزيراً للدفاع في حرب الأيام الستة، احتلال هضبة الجولان في نهاية تلك الحرب بضغط من كيبوتسات في الجليل).
حالياً، يسرّب وزراء معلومات عن جلسات المجلس الوزاري المصغر يسمح نشرها للعدو معرفة ما نعرفه عنه، والصيغة العامة، بما في ذلك حسنات وسيئات الخطط العملانية التي يعرضها الجيش على المجلس.
وما لا يكشفه السياسيون الذين يخوضون صراعات قوة ومعارك شخصية على حساب أمن الجمهور، تكمله وسائل الإعلام الإسرائيلية من خلال نقاشات المعلقين في الاستديوهات في بث حي وبرامج لا تنتهي على مدار الساعة.
من الصعب استكمال لائحة التفسيرات لماذا لن ينجح الجيش في الانتصار في الحرب المقبلة من دون أن نذكر خصخصة الأمن التي يُعتبر الأهل في إطارها شركاء كاملين في إدارة الخدمة العسكرية لأولادهم. هذه الظاهرة مفيدة بحد ذاتها طالما أن الأهل لا يتدخلون بالانضباط العسكري وبالإعداد المهني للجنود. لكن في واقع اليوم يستطيع أهل أي جندي الاتصال مباشرة بالهاتف الخليوي بقائد فرقة والطلب منه إلغاء عقوبة مهمة فُرضت على ابنهم أو تخفيف تدريباته. وإذا لم ينفّذ قائد الفرقة ما يريدونه، يتوجه الأهل في أغلب الأحيان إلى شخص أعلى رتبة، أو إلى إعلامي أو سياسي تسرّه مهاجمة الجيش والمسوؤلين عنه، وخصوصاً وزير الدفاع، ويرد الوزير على ذلك بتأنيب القائد الميداني – أحياناً بصورة مبررة وأحياناً غير مبررة.
أعود وأكرر، في تقديري الجيش الإسرائيلي قوي حالياً ومستعد أكثر من أي مرة في الماضي لخوض مواجهة مادية تقليدية وسيبرانية مع كل أعدائنا على جميع الجبهات. وعلى الرغم من صحة ادعاءات اللواء في الاحتياط يتسحاق بريك بشأن الخلل في جهوزية الذراع البرية في تنفيذ مناورة هجومية كبيرة، فإن الجيش ما زالت لديه القدرة على الانتصار.
أي مواجهة عسكرية كبيرة مع أي عدو في الساحة يجب أن تنتهي بحسم عسكري وانتصار للجيش الإسرائيلي، من دون خسارة الشرعية الأخلاقية والدولية. مصلحتنا الوجودية الآن كشعب وأفراد تتطلب التخلي عن كل ما يعرقل تحقيق هذا الهدف.

المصدر: موقع ynet الإسرائيلي، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole