حركة عبد الكريم الشواف وصراع القوميين والشيوعيين في العراق

حركة عبد الكريم الشواف وصراع القوميين والشيوعيين في العراق
Spread the love

حركة عبد الكريم الشواف 1959 في العراق.. صراع القوميين والشيوعيين
د.محمد عبدالرحمن عريف
بدأت بالتحرك على أنها ثورة وامتداد لثورة 14 تموز/ يوليو 1958م، وتعديل لمسيرتها التي أستطاع عبد الكريم قاسم بتأييد من الحزب الشيوعي العراقي الخروج عن مبادئها وذلك من خلال سيطرته على مقاليد الحكم وحصر كافة الصلاحيات الهامة بالمناصب التي كان يشغلها وهي منصب القائد العام للقوات المسلحة، ورئاسة الوزراء ووزير الدفاع، وعمل على محاربة الأحزاب القومية وبعض المعارضين لحكمه، وأرسل بعض قادة الضباط المترردين إلى السجن، وأخذت توجه إليهم التهم المنوعة مثل (خائن، متآمر، عدو الشعب).
نعم قضت حركة تموز/ يوليو 1958 على الحكم الملكي في العراق بسهولة ويسر نظرًا للظروف التي أحاطتها، لهذا أعتقد الكثير من الضباط بأن القيام بثورة ضد النظام والإطاحة به أمر سهل وميسور ومضمون العواقب بالقياس إلى انقلاب تموز/ يوليو 1958، ونتيجة ذلك إنضمت مجموعات كبيرة من الضباط إلى تنظيم الضباط الوطنيين وأبدت استعدادها التام للمساهمة في الإطاحة بعبد الكريم قاسم.
وما إنقلاب الشواف إلا حركة قامت في العراق في مدينتي الموصل وكركوك ضد حكم عبد الكريم قاسم، بقيادة العقيد عبد الوهاب الشواف في شهر آذار/ مارس من عام 1959، حيث بدأ الصراع الفعلي بين عبد الكريم قاسم والقوميين منذ اعتقال عبد السلام عارف في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1958، ثم تقديمه للمحاكمة التي حكمت عليه بتاريخ 5 شباط/ فبراير 1959 بالاعدام شنقاً حتى الموت وبطرده من القوات المسلحة، ورغم عدم تنفيذ حكم الاعدام فقد دفع هذا الاجراء القوميين في العراق إلى الاصطدام مع نظام عبد الكريم قاسم، وقد أختلفت ردود فعل القوميين تجاه هذه القضية التي فسروها أنها تحرك ضدهم، فمنهم من استقال من حكومة عبد الكريم قاسم ومنهم من بدأ يتآمر على النظام والتخطيط من أجل تغييره.
لقد استقال محمد مهدي كبة من مجلس السيادة، وكذلك استقال الوزراء القوميون من الحكومة بتاريخ 6 شباط/ فبراير 1959م وهم محمد صديق شنشل وفؤاد الركابي وجابر عمر وناجي طالب بالاضافة إلى وزيرين مستقلين هما محمد صالح محمود (تركماني مستقل) وبابا علي الشيخ محمود (كردي مستقل)، ومن ناحية أخرى فقد بدأ مجموعة من الضباط القوميين التآمر لإعداد إنقلاب على عبد الكريم قاسم، وأبرزهم الزعيم ناظم الطبقجلي، آمر الفرقة الثانية في كركوك، والرئيس محمود عزيز، معاون آمر اللواء الخامس في الموصل، والمقدم عزيز أحمد شهاب معاون آمر الفرقة الثانية في كركوك، والعقيد رفعت الحاج سري، رئيس الاستخبارات العسكرية، والرئيس عبد الجواد حميد، آمر للسرية الثانية من الكتيبة الثالثة في اللواء الخامس في الموصل، والعقيد عبد الوهاب الشواف، آمر اللواء الخامس في الموصل.
بدأت المعلومات تصل إلى عبد الكريم قاسم بوجود تحرك انقلابي ضده ينطلق من الموصل، وازدادت مصادر المعلومات عن هذا التحرك ضد النظام القائم، مع الخطورة التي تمثلها الموصل المشهورة بكونها خاضعة لنفوذ قومي وهي مدينة مُحافِظَة أيضاً، وكانت كذلك موطن ما يتراوح بين ربع وثلث مجموع ضباط الجيش، بالاضافة إلى قربها من الحدود السورية التي تمثل الجبهة القومية المعادية لنظام عبد الكريم قاسم. وكان يقدر عدد سكان الموصل بـ(180) ألف نسمة، بينما كان عدد الحزب الشيوعي فيها نحو (2000) شخص، بينما هناك تقدير آخر أكثر رجحاناً بأن عددهم هو (400) شخص، ومهما كان العدد الصحيح بينهما فهو رقم ضئيل قياساً لحجم سكان المدينة.
والواقع أن قاسم شعر ومعه الشيوعيون أن نسبة القوى لم تكن في صالحهم داخل الموصل ولذلك قرروا استباق الاعداء بدل أن يضرب هؤلاء في الوقت الملائم لهم، فأعلنوا عن تجمع لأنصار السلم يعقد يوم 6 آذار/ مارس، استهدفوا من خلاله إغراق الموصل بمؤيديهم، وفي 27 شباط/ فبراير، أعطى عبد الكريم قاسم موافقته على عقد تجمّع السلام المذكور، وعمل على ضمان نجاحه بأن وظّف في خدمته كل وسيلة حكومية ممكنة من الأجهزة الأمنية والإذاعة إلى التلفزيون والسكك الحديد حيث وضع قطاراً خاصاً يعمل إلى الموصل بنصف الأجر، وقد تلقى الشيوعيون تعليمات من قيادتهم تقول بأنّه “إذا ما ترددت السلطات فإن عليهم أن يقمعوا بأنفسهم أية مؤامرة ضد الجمهورية بكل ما يمتلكون من قوة ووسائل”، وبدأ الناس في الاحياء القومية والمحافظة في الموصل بإتخاذ تدابير الحماية لأنفسهم كما لو كانوا سيواجهون غزواً، وسرت إشاعات في كل الاتجاهات تقول بأن “مجزرة” ستحصل!.
لقد وصل الرعب بالطبقات المالكة خصوصاً أقصى درجاته، كل تلك الأمور جعلت المعارضة تتحرك بأسرع مما كانت تخطط نحو الانقلاب وأرسل العقيد رفعت الحاج سرّي رسالة من بغداد يطلب فيها أن تتم العملية يوم 4 أو 5 آذار/ مارس، أي قبل مهرجان السلام، ولكن الرسالة لم تصل إلى الموصل أبداً وبدلاً من ذلك وصلت إلى الموصل نصيحة بالمراوحة في المكان وذلك من خلال أشخاص مخلصين لعبد الكريم قاسم تسللوا إلى الحركة، وفي يوم 5 آذار/ مارس، بدأ تدفق الحشود إلى الموصل وقد وصل عددهم إلى (250) الف شخص، مؤيد لعبد الكريم قاسم، وقد سار كل شيء بسلام عدا حادث صغير لا يكاد يذكر، وبقي القوميون والمحافظون في بيوتهم رغبة منهم في عدم دخول المعركة في ظل شروط غير ملائمة، وفي يوم 7 آذار/ مارس بدأ أنصار السلام بمغادرة الموصل، وحدثت في هذا اليوم بعض المصادمات والحوادث حيث هجم بعض القوميين على مكتبات ومقاهي لشيوعيين، وحدث إطلاق نار ووقوع إصابات، فتدخل الجيش وفرض منع التجول، وفي فجر يوم 8 آذار/ مارس بدأ تحرك الشواف وجماعته، وفي السابعة من صباح ذلك اليوم أعلن بيان الانقلاب من راديو الموصل.
لقد واجه تحرك الشواف الفشل منذ بدايته، ومظاهرها تدل على أنها كانت عملاً لم يدرس بنضج وأنها جرت بتسرّع، فمحطة البث التي قدّمتها الجمهورية العربية المتحدة للمتآمرين كانت على الموجة القصيرة ووصلت متأخرة وفي حالة سيئة ولم تبدأ العمل على الهواء إلا بعد الساعة التاسعة صباحاً، ولم يكن بيان الانقلاب مصادق عليه من قبل الضباط في بغداد، ولم يجد تحرك الشواف أي تجاوب خارج مدينة الموصل عدا إنضمام حاميتي عقرة والعمادية إليه، ولم يحرك رفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي أصبعاً لتأييد الشواف فقد كانا مراقَبَين من قبل عبد الكريم قاسم واتباعه الشيوعيين، ثم أجبر الطبقجلي على الاعلان عن تأييده لحكومة عبد الكريم قاسم في الساعة الخامسة عصراً، وتجاهلت الجمهورية العربية المتحدة تعهدها بإرسال المغاوير أو بتقديم الغطاء الجوي للمتمردين، وزعم جمال عبد الناصر بعد ذلك أن الفشل السريع لتحرك الشواف هو الذي منع وصول المساعدات اليهم من الجمهورية العربية المتحدة! وكأن إرسال الطائرات او قوة المغاوير المحمولة جواً تحتاج إلى أيام!.
في تقديرنا فإنَّ جمال عبد الناصر أراد أن يتبين حقيقة الموقف وإمكانية نجاح تحرك الشواف فعلاً قبل أن يتورط بدعمه، “وفي هذه الاثناء وجّه رؤساء الاتحادات والمنظمات التي يرعاها الشيوعيون – الاتحاد العام للطلاب وإتحاد جمعيات الفلاحين وأنصار السلم ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، إلخ، نداء إلى “المواطنين الشجعان” في كل مكان للاستعداد للقضاء على “الخيانة” في مهدها ولـ”سحق” كل من حاول “تدمير” وجود الجمهورية أو معارضة “ابن الشعب البارّ عبد الكريم قاسم”، ودعوا كذلك “الزعيم المخلص” إلى تعبئة الجماهير وتسليحها، ونظراً لأن قاسم كان يشك في إخلاص معظم الضباط فإنه لم يكن يملك مصدر دعم آخر، الأمر الذي جعله يستجيب جزئياً لهذه الدعوة واطلق يد قوات المقاومة الشعبية، ولكنه استمر في منع الذخيرة عنها. كمت منح الشيوعيين وعشرات الآلاف من مؤيديهم في الوقت نفسه حق السيطرة على شوارع بغداد وغيرها من المدن. وهذا ما استكمل شلّ القوميين والمحافظين، ولم يسيطر المتمردون إلا على الوضع في الموصل، وحتى في الموصل فقد كانت هناك عناصر كثيرة موالية لعبد الكريم قاسم عملت على إخماد الثورة في نفس يوم إنطلاقها.
هنا نجد حنا بطاطو يقول :”فقد كان بإستطاعة المتمردين أن يشعروا مع هبوط ليل 8 آذار/ مارس بالقدر المشؤوم الذي يواجهونه”، وقد بلغ سوء حال المتمردين في اليوم التالي لتحركهم، أن قائد الحركة عبد الوهاب الشواف قد قتل في صبيحة اليوم التالي لتمرده، كما أنَّ جنوداً من فوج الهندسة في الموصل مسلحين بالعصي والقضبان الحديد اقتحموا السجن العسكري في معسكر الحجرية ففتحوه عنوة، رغم افتقارهم للسلاح العسكري، واطلقوا سراح الضباط وكل المعتقلين الشيوعيين، كما أن مطار الموصل العسكري أصبح موالياً لعبد الكريم قاسم والطائرتان اللتان انطلقتا منه وقصفتا وزارة الدفاع في بغداد عند عودتهما وجدتا المطار تحت سيطرة أنصار عبد الكريم قاسم فألقي القبض على الطيارين، وكذلك فقد أعلن كثير من رجال المدفعية والمشاة في معسكر الغزلاني انحيازهم إلى جهة عبد الكريم قاسم وبدأوا يظهرون تأييده، وتبعت ذلك صدامات دموية.
رغم أن تمرد الشواف لم يستمر أكثر من يوم واحد، فقد بدأت حشود الميليشيات المؤيدة لعبد الكريم قاسم بدخول مدينة الموصل، وهذه الميليشيات مكونة بالاضافة إلى المقاومة الشعبية التي يترأسها عبد الكريم قاسم نفسه من “حشود اليزيديين وقبائل البرزاني الكردية والفلاحين الآراميين الآتين من تلكيف من الريف إلى مدينة الموصل استجابة لنداءات بغداد ورموا بأنفسهم في المعمعة، وسارت عناصر من الكتيبة الثالثة بقيادة الملازم الثاني الشيوعي غازي جميل وهاشم قاسم إلى ترسانة السلاح ووزعتها على الشيوعيين وأبناء الشعب، والظاهر أن هناك تحركاً شعبياً مؤيداً لتمرد الشواف.
لقد ذكر حنا بطاطو أن الأحداث وصلت إلى حد الحرب الأهلية، وهو أمر مبالغ فيه نظراً لفجائية تمرد الشواف وعدم التحضير له لفترة معتد بها، وعدم وصول المساعدات العسكرية من الجمهورية العربية المتحدة، فلم يكن بالإمكان تسليح عدد كبير من الأهالي بهذه السرعة، كما أن تمرد القوات العسكرية في الموصل في اليوم التالي لتحرك الشواف ومقتل الشواف نفسه في اليوم التالي لتحركه، كلها عوامل تؤيد عدم إمكانية حدوث تحرك شعبي كبير مؤيد للشواف.
ويزعم البعض أن ردة الفعل من قبل أنصار عبد الكريم قاسم ضد المدنيين من أبناء الموصل بتهمة إنتمائهم السياسي هي ردة فعل وحشية وغير مبررة على الاطلاق. فالخلاف السياسي وحتى الإصطدام العسكري لا يجوز أن يتطور ليشمل الأبرياء من المدنيين مهما كانت عقيدتهم السياسية. ويقول البعض أن “سيطرة الميليشيات القاسمية غير المنضبطة على مدينة الموصل فتحت الباب على حصول هجمات على مدنيين أبرياء بدافع الكراهية الشخصية أو إنطلاقاً من رغبة بالثأر أو بسبب نزاعات عائلية، وكانت عمليات الانتقام العاجلة التي لجأ إليها الجنود والجموع المسلحة في لحظات غضبهم الوحشي -في جزء كبير منها- سداداً لحساب النزيف الرهيب الذي عانوا طويلاً منه، وكان للعنف أن يسيطر ثلاثة أيام أخرى ولم يبقَ مدى لم يذهب إليه، وعندما وصل الزعيم حسن عبود إبراهيم، الشيوعي والآمر الجديد لحامية المدينة، إلى الموصل مساء 10 آذار/ مارس، وجد الاضطراب في ذروته، والجيش يقتل ويسلب بمساعدة الناس الذين قدموا من ضواحي المدينة، وانتقلت عمليات الانتقام ضد المدنيين إلى تطور آخر بتشكيل الميليشيات للمحاكم المحلية، وأصبح أحد مراكز الشرطة مقراً لقيادة الميليشيات ومقر لـ”محكمة الشعب” في الوقت نفسه، وأخذوا في إعدام المدنيين بتهمة الانتماء للاحزاب القومية> واتهم مهدي حميد (قائد المقاومة الشعبية في الموصل) بعد إنقلاب 8 شباط/ فبراير 1963م وأثناء محاكمته، عبد الكريم قاسم بأنه أصدر يومها أوامره بـ”إبادة كل من أظهر مقاومة أو حمل السلاح ضد الحكومة” وأن هذا شجّع الأعمال المتهورة والأفعال الانتقامية وادّعى كذلك أن قاسم أشار في لحظة معينة وعبر قائد الحامية إلى أنه “لا حاجة إلى إرسال مثل هذا العدد الكبير من المعتقلين إلى بغداد، فماذا سنفعل بهم هنا؟ تخلصوا منهم هناك في الموصل، ورغم أن كلام مهدي حميد هذا قد صدر منه في موضع الدفاع عن نفسه ومحاولته إنقاذ نفسه من الاعدام في أثناء محاكمة البعثييين له بعد إنقلابهم سنة 1963م وبعد مقتل عبد الكريم قاسم نفسه، ولكن هناك شواهد عديدة تؤيد صحة كلامه ابرزها أن عبد الكريم قاسم لم يحاسب أبداً من قام بالافعال الاجرامية في مجزرة الموصل ولم ينطق بأي إدانة بحقهم ولم يشكل أي لجنة تحقيقية في الموضوع على أقل تقدير! بل على العكس فقد كانت هناك مكافآة لمن ساهم في تلك المجازر، فبعد فترة قصيرة من أحداث الموصل دعا عبد الكريم قاسم مهدي حميد وقادة شيوعيي الموصل إلى بغداد واطرى إخلاصهم وقدم لهم مسدسات هدية وقدم منحة للحزب الشيوعي قيمتها 1500 دينار، كما أنه قبل مهدي حميد مجدداً في الجيش ورفعه إلى رتبة رئيس وأسند إليه قيادة قوات المقاومة الشعبية في كل الجزء الشمالي من البلاد، وهناك إعدامات قد حدثت بحق المدنيين حتى بعد أن هدأت الاضطرابات كلها في الموصل، مثل حادثة إعدام (17) شخص في الدلماجة، مما يدل على إن الذين قاموا بالمجازر هم جزء من المنظومة الأمنية الحاكمة.
لقد علقت صحيفة “إتحاد الشعب” لسان حال الحزب الشيوعي العراقي، على أحداث الموصل الدامية في عددها الصادر في 13 أزار/ مارس 1959 والذي نشره الكاتب صلاح الخرسان في كتابه صفحات من تاريخ العراق السياسي الحديث والذي ورد فيه (علقت وسحبت جثث المجرمين القتلة في مدن الموصل وقراها وانجلت المعركة فإذا بالعشرات من المجرمين الشرسين العتاة مدنيين وعسكريين صرعى في دورهم أو على قارعة الطريق في الموصل وتلعفر وعقرة وزاخو وفي كل زاوية).
في مقال آخر بتاريخ 16 أزار/ مارس 1959م نشر ضمن مذكرات العميد الركن المتقاعد جاسم كاظم العزاوي عن انقلاب تموز/ يوليو 1958 جاء فيه (لنا من الأعمال البطولية في الموصل خبرة وافرة في سحق الخونة، إنَّ مؤامرة الموصل وسحقها وسحل جثث الخونة في الشوارع ستكون درساً قاسياً للمتآمرين وضربة بوجه دعاة القومية)، وهكذا تحول الصراع السياسي إلى صراع دموي رهيب واسع النطاق.
لقد ذكر عبدالفتاح علي البوتاني (من كلية الاداب/ جامعة دهوك) مذكرة أرسلها الحزب الشيوعي إلى عبد الكريم قاسم بتاريخ 11 آب/ أغسطس 1959م، وقد جاء فيها (هذه هي الظروف التي تعيش فيها منظماتنا الديمقراطية اليوم في الوقت الذي اكدتم مراراً ولازلتم تؤكدون وتثمنون الدور البطولي الذي قامت به من أجل صيانة الجمهورية ودعم مسيرتها الظافرة وخاصة الدور المجيد الذي قامت به في احباط مؤامرة الشواف وانقاذ الجمهورية وجماهير الشعب من تلك الشراذم الفوضوية المتعطشة للدماء والتدمير، إن هذه المنظمات اثبتت اخلاصها باستجابتها السريعة لندائكم من اذاعة الجمهورية العراقية على اثر اعلان العصيان المشؤوم في الموصل، إذ نفذت بابداع وتفان ونكران ذات ما جاء في ندائكم بالقضاء على تلك الشراذم، كما وأنها قامت بدور فعال في انقاذ ارواح المئات من المواطنين وصيانة ممتلكاتهم بعد أن فقد الأمن في مدينتنا عدة أيام، وكانت هي وافراد جيشنا المقدام الحصن المنيع الذي تحطمت امامه تلك المؤامرة الدنيئة).
المذكرة السابقة تكشف بوضوح أن تحرك الميليشيات التي ارتكبت مجازر الموصل في شهر آذار/ مارس 1959م إنما كان بأوامر صريحة من عبد الكريم قاسم نفسه، وقد نقل المؤرخ ليث عبد الحسن الزبيدي في كتابه ثورة تموز/ يوليو 1958 في العراق شهادة نعمان ماهر الكنعاني السكرتير السابق لعبد الكريم قاسم في شؤون الصحافة وهو يتحدث عن عبد الكريم قاسم حيث قال (كانت نزعته ضد القومية العربية واضحة وضد مدينة الموصل بالذات، لذلك نراه قد استباح المدينة عند حدوث حركة الشواف فيها في آذار/ مارس 1959م).
سبق وقال منير رزوق في كتابه (مؤامرة عبد الناصر) المطبوع سنة 1959م في بغداد (وكان للأكراد من رجال القبائل الدور الكبير في إخماد حركة الموصل، حيث ظهر خمسة آلاف رجل كردي مسلح قدموا من مختلف النواحي والقرى الكردية وعسكروا على تل نينوى قرب الموصل حيث وضعوا أنفسهم تحت تصرف السلطات الحكومية، وبالفعل نزل ألف منهم إلى شوارع الموصل واشتركوا في مقاتلة القائمين بالحركة حتى تم اخمادها وبقي افراد العشائر الكردية يشتركون مع قوات الجيش وافراد المقاومة الشعبية يجوبون شوارع الموصل لمدة اسبوع حتى تم انسحابهم استجابة لنداء الحاكم العسكري العام اللواء أحمد صالح العبدي).
عدنان جليميران عضو اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في مدينة الموصل أثناء حركة الشواف أعترف بتاريخ 28 آذار/ مارس 1963م بما يلي (في رأيي أن أبرز الجرائم التي نتحمل نحن الشيوعيين مسؤوليتها الكاملة مجزرة الموصل ومذبحة كركوك، ففي الموصل كانت لدى الحزب أوامر قاطعة باتة من القيادة بإبادة القوميين حالما يتحركون، وبعد حركة الشواف اندفعنا لتصفية القوميين واقمنا المحاكم البروليتارية التي شكلت بالجملة حيث كان كل شيوعي على رأس محكمة تحاكم وتقتل وتعلق جثثهم، وكنا نحن الشيوعيين أبطال مجزرة الدملة ماجة التي راح ضحيتها سبعة عشر شخصاً انتزعناهم من الموقف بعد أن انتهى كل شيء في الموصل، وهناك في موقع الدملة ماجة فتحت النار عليهم، وبإنتهاء مسلسل العنف في الموصل بالشكل الذي أنتهى إليه أصبح مؤكداً لقيادة الحزب الشيوعي بأن الوقت قد حان لقطف الثمار واستلام الجائزة من شخص الزعيم بالذات، مما شجع (سلام عادل) لتوجيه رسالة إلى زعيم الجمهورية بتاريخ 31 أزار/ مارس 1959م طالبه فيها بعلاقات أوثق مما هي عليه بين الجانبين”، “وبلغت حملة الحزب الشيوعي العراقي نصابها الرسمي في النداء الذي وجهته اللجنة المركزية في 29 نيسان/ أبريل 1959م ونشر في إتحاد الشعب وطالبت فيه بالمشاركة في الحكم محددة حصتها باربعة حقائب وزارية بضمنها وزارة الداخلية”، غير أنَّ عبد الكريم قاسم لم يعطهم ما ارادوا.
لقد كان هو قائد تلك العمليات والشيوعيون مجرد أدوات فاعلة في الساحة، وكان قاسم يدرك جيداً أنَّ مشاركة الشيوعيين في الحكم ستؤدي في النهاية إلى تسلطهم عليه وإزاحته بدعم من القوى العظمى الشيوعية السوفيتية أو الشيوعية الصينية، لذلك فقد كان حريصاً على تحجيم الحزب الشيوعي “وقص جناحيه”، فلا هو يقضي عليه ولا هو يتركه ليطير بحريته في الفضاء العراقي، وفي الرسالة الأخيرة التي تركها سلام عادل، سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، قبل إعدامه -تم الاعلان الرسمي عن إعدامه يوم 7 آذار/ مارس 1963م، أي بعد 4 سنوات من تاريخ بداية مجازر الموصل- حمَّل عبد الكريم قاسم مسؤولية إنقلاب 8 شباط/ فباير 1963م واتهمه بالاستسلام للـ”قوى السوداء”، ووصفه بالدكتاتور، فقال (إنَّ السبب الرئيسي الذي أدى إلى سيطرة الانقلابيين على الحكم هو العزلة التي أصابت تدريجياً دكتاتورية قاسم عن الشعب وعن القوى الوطنية، ولكن الانقلاب الرجعي الراهن يبدأ بعزلة أشد من تلك العزلة التي أنتهت إليها دكتاتورية قاسم)، مع أن الشيوعيين اليوم يمجدون عبد الكريم قاسم ويغضون النظر عن تقييم سلام عادل لفترة حكمه المشؤومة ودكتاتوريته الواضحة التي جلبت الويلات على الشعب العراقي.
هكذا انقلب شركاء مجازر الموصل إلى خصوم، يحاول كل منهم أن ينفرد بالسلطة التي من أجلها أراقوا سويةً دماء الابرياء بغير حساب، بعد تلك الاحداث تمت احالة الكثير من المشتبه بهم وبضمنهم قائد حركة مايس عام 1941م، رئيس الوزراء الأسبق رشيد عالي الكيلاني، والذي تجاوز الثمانين من العمر، والعميد ناظم الطبقجلي وزجهم مع المتهمين في محكمة الثورة المعروفة بمحكمة المهداوي، حيث أعلن الكثير من المتهمين أمام المحكمة التي نقلت مباشرة عبر أجهزة التلفاز بأنهم قد أهينوا أو عذبوا، كما وصفت قيادات الحركة محكمة المهداوي بكونها محكمة “هزيلة”، وكانت تلك المحكمة العسكرية الخاصة العليا تقوم بمحاكمة اركان النظام الملكي وأيضاً جيء بالكثير ممن ليس لهم علاقة بمركز القرار واعدم الكثيرين مجرد لأنهم كانوا مسؤولين في النظام الملكي.
تلك الفترة من تاريخ العراق والتي تسمى بفترة السحل وتدهورت الأوضاع فيها لغاية أن المقدم فاضل المهداوي رئيس المحكمة يعلن أمام وسائل الإعلام عن الزهو باعدام عبد الوهاب الشواف سحلاً في شوارع مدينة الموصل، مهدداً بأن الموت سحلاً سيكون مصير العصاة، وهذا ما شاهده الناس عبر شاشات التلفاز، وتم اعدام رئيس التنظيم العقيد رفعت الحاج سري مع أصحابهِ الضباط أعضاء تنظيم الضباط الوطنيين ونفذ حكم الإعدام يوم 20 ايلول/ سبتمبر 1959م، في ساحة أم الطبول، ومن الشخصيات المهمة التي أتهمت بالخيانة، رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني وأحمد مختار بابان، وتم إخلاء سبيلهما، نتيجة الضغوط الكبيرة من الخارج، وسافرا خارج العراق حال إطلاق سراحهما.
رغم كل ما أسلفناه يبقى أن عبد الكريم قاسم، من أكثر الشخصيات إثارةً للجدل التي حكمت العراق بعد إنقلاب 14 تموز/ يوليو، الخالد في ذاكرة العراقيين، حيث تمت الإطاحة بالنظام الملكي وأُعلن عن قيام الجمهورية العراقية بعد تصفية العائلة المالكة. وكان عبد الكريم قاسم رئيسا للوزراء وقائداً عاما للقوات المسلحة ووزيرًا للدفاع وكالة في العراق وأصبح أول حاكم عراقي بعد الحكم الملكي من 14 تموز/ يوليو 1958 ولغاية 8 شباط/ فبراير 1963. وهو من ساهم مع قادة التنظيم بالتخطيط لحركة 14 تموز/ يوليو 1958 التي قام بتنفيذها مع زميله في التنظيم عبد السلام محمد عارف والتي أنهت الحكم الملكي وأعلنت قيام الجمهورية العراقية. الزعيم الأوحد هو عسكري عراقي عرف بوطنيته وحبه للطبقات الفقيرة التي كان ينتمي إليها، وقد اتُهم من قبل أعدائه بعدم فسحه المجال للآخرين بالإسهام معه في الحكم واتهم من قبل خصومه السياسيين بالتفرد بالحكم حيث كان يسميه معظم الشعب العراقي باستثناء اعدائه في الشارع ووسائل الاعلام آنذاك بـ”الزعيم الأوحد” حبًّا به لتفرده في محبة الفقراء. رغم ذلك كانت النهاية.. أن أعدم عبد الكريم قاسم اثر انقلاب 8 شباط/ فبراير عام 1963 ونُفذ فيه حكم الاعدام رميًا بالرصاص في مبنى إذاعة دجلة في العاصمة بغداد.