حول إعادة إعمار العراق

حول إعادة إعمار العراق
Spread the love

بقلم د.محمد عبدالرحمن عريف — كان حدثاً هاماً للحصول على مساعدات أو الإستثمار في العراق بعد عام 2003، إنه مؤتمر (مدريد لاعادة الاعمار) في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2003 الذي حضره ممثلون عن أكثر من 25 دولة، وقد تم تجميع الأموال التي تدار في هذا المؤتمر من مصادر من جانب الأمم المتحدة والبنك الدولي. في حين أن جهود إعادة الإعمار قد أنتجت بعض النجاحات، نشأت مشاكل مع تنفيذ الممولة دولياً جهود إعادة إعمار العراق. وتشمل هذه الأمنية غير كافية، والفساد المتفشي وعدم كفاية التمويل وضعف التنسيق بين الوكالات الدولية والمجتمعات المحلية، وتشير العديد من المواقع التي كانت تعرقل الجهود التي يبذلها العراق من سوء فهم من جانب المجتمع الدولي إلى المساعدة في إعادة الإعمار.
لم يكن هؤلاء المعمرون في العراق بين عامي 2003 و2018 يعلمون شيئاً عن كتاب محو العراق تاليف (مايكل أوترمان، ريتشارد هيل، وبول ويلسون)، والذي يحتوي على ثروة هائلة من المعلومات الموثقة بدقة فائقة ولشهادات حية لأناس عراقيين بخصوص الجرائم الكارثية التي ألحقها الحصار الدولي على العراق وكذلك في فترة غزو العراق في عام 2003 وما بعدها. فالحقائق والوقائع الواردة في الكتاب لا يمكنها الا ان توصم جبين المحتل وكل من عمل معه او سانده، بشكل او بآخر، بالعار الى أبد الدهر. حيث يتحدث جميل ضاهر في توطئة الكتاب عن”الذبح اليومي المستمر للعراقيين، والغياب شبه التام للبنية التحتية العاملة، وواقع أن واحدًا بين كل ستة عراقيين لا يزال مهجرًا من منزله، أو واقع أن ما لا يقل عن 1.2 مليون عراقي ماتوا نتيجة الغزو الذي تقوده الولايات المتحدة واحتلال بلادهم.”
حيث نتج عن أكثر من ثمانين شهرًا من الاحتلال، وانفاق أكثر من ثمانمائة مليار دولار على الحرب (بحسب التقديرات المحافظة)، وتهجير داخلي لـ2.2 مليون عراقي، و2.7 مليون لاجئ، ومقتل 2615 استاذًا وطبيبًا وعالمًا بدم بارد، ومقتل 341 في حقل الاعلام، واساءت الحكومة العراقية استخدام ما يزيد عن 13 مليار دولار، ويحتاج الامر إلى 400 مليار دولار لإعمار البنى التحتية العراقية (بل يصل بعض التقديرات إلى الترليون الواحد). وتتراوح البطالة بين 25 في المئة و70 حسب الاشهر. هناك لا وجود للحياة الطبيعية في بغداد. يصح أيضًا أن العراق اليوم يشبه أكثر من ذي قبل الدولة البوليسية… وما من حديث عن تعويض العراقيين الموت والفوضى والدمار التي تسبب بها الاحتلال. ويمضي ضاهر في القول مؤكدًا “وتقدم الاحياء، التي ينفصل فيها السنة والشيعة، رؤية صارخة عن بلقنة العراق، ولا يزال الكثير من هذه الاحياء محاطا ًكليًا بجدران من الاسمنت المقاوم لعصف الانفجارات بارتفاع عشرة اقدام، فتستحيل معه الحياة الاعتيادية. ويلقي الخوف من تجدد العنف بثقله الشديد على العراقيين. و”يبدو الأمل في تحسن دائم في وجه من اوجه الحياة ساذجًا، وحتى خطرًا أيضًا”.
اتضحت نيات الولايات المتحدة في العراق منذ بداية الاحتلال، فتم تأمين الحماية لوزاراتي الداخلية والنفط فحسب، بينما تركت المتاحف والمكتبات، بل وحتى مخازن الذخيرة بدون حماية، وسمح البنتاغون، بعمليات النهب لتقويض الدولة العراقية”. فالكثير من القادة العسكريين قالوا يومذاك “ان النهب امر جيد، فالنهب يحرر، والنهب يقوض النظام القديم”. ووسط نهب ممتلكات العراق الثقافية وموارده العامة وبضائعه العسكرية، شرع الحاكم المعين حديثًا للعراق، بول بريمر، في تفكيك الدولة العراقية، في انتهاك لقوانين الاحتلال الواردة في اتفاقيات جنيف. تسلح بريمر بسلطات تنفيذية كاسحة فحل الجيش العراقي- وانتج فيضانًا من الرجال الغاضبين الذين تلقوا تدريبًا عسكريًا، وانضموا سريعًا إلى التمرد- وأصدر اوامر صممت لانشاء “نيرفانا” السوق الحرة المتناسبة مع المصالح الامريكية. وسمح القرار الرقم 39، على سبيل المثال، بتخصيص المؤسسات العراقية المئتين التابعة للدولة، وبحق التملك الاجنبي للاعمال العراقية مع تحويلات مطلقة معفاة من الضرائب على كل الارباح وغيرها من الاموال، وتراخيص ملكية مدتها اربعون سنة”. ولذلك “فان قراراته منعت العراقيين من الحصول على الافضلية في اعادة الاعمار، فيما سمحت للشركات الاجنبية، هاليبورتون وبكتل على سبيل المثال- بشراء الاعمال العراقية، والقيام بكل الاشغال وارسال مالهم كله إلى الديار، ومن غير المفروض عليها استخدام عراقيين لإعادة استثمار الأموال في الاقتصاد العراقي، وفي امكانها في أي وقت سحب استثماراتها مهما بلغت قيمتها”.
لضمان تطبيق هذه التوجيهات، طالب قرارا بريمر الرقمان 57 و77 “بوجود مدققي حسابات ومفتشين عامين تعينهم الولايات المتحدة، مدة ولايتهم خمس سنوات ويمتلكون سلطة كاسحة على العقود والبرامج والموظفين والأنظمة”. وسعى بريمر لضمان ربط السوق الحرة الجديدة، كما يجب، فاصدر القرار الرقم 17 الذي يمنح “المقاولين الاجانب، بما في ذلك المؤسسات الامنية الخاصة، حصانة كاملة من القوانين العراقية”. ولذلك فانهم “لو قتلوا، مثلًا، شخصًا، أو تسببوا بكارثة بيئية لن تتمكن الجهة التي لحقتها الاصابة من اللجوء الى النظام القضائي العراقي، بل يجب بالاحرى رفع الاتهامات إلى المحاكم الامريكية.
لقد سمحت قرارات أخرى للبنوك الأجنبية بشراء ما يصل إلى خمسين في المئة من البنوك العراقية، وبخفض ذي شأن في معدل الضرائب على الشركات، وخفض ضريبة الدخل، والغاء كل التعرفات والرسوم الجمركية ورسوم الترخيص والأعباء الإضافية المماثلة على البضائع التي تدخل على العراق او تخرج منه. وادى هذا إلى اغراق درامي فوري للسوق بالبضائع الاستهلاكية الاجنبية الرخيصة التي اجتاحت المنتجين والبائعين المحليين غير الجاهزين لمواجهة تحدي منافسيهم العالميين الجبابرة”. وعلينا أن نتذكر أن كل هذه القرارات صدرت من جانب واحد عن مسؤول موقت يمتلك سلطات تنفيذية ومن دون أي اعتبار جدي لحاجات الشعب العراقي ورغباته. ولقد أدت نتائج هذه القرارات إلى خلق مناخ اقتصادي مؤات للشركات الامريكية أكثر من قوانين الولايات المتحدة. واستبعدت نتيجة لذلك، الشركات العراقية والعمال العراقيون عن اعادة اعمار العراق.
لقد شرعت ادارة بوش في عملية محو العراق، في مشروع رجعي تضمن تفكيك البنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية العراقية، فضلًا عن أنه يفتح الأبواب أمام وصول الشركات الأمريكية إلى المصادر الطبيعية العراقية واعادة تجميع البلاد على صورتها. وفشلت خطة اعادة الهيكلة الاقتصادية الراديكالية بسبب انتفاء التفكير في الشرعية وفي اعادة البناء الاجتماعي. وسرعان ما تفكك العراق اجزاء كثيرة لا تجمع بينها سوى معارضة الاحتلال الذي تقوده الولايات المتحدة. ونادرًا في التاريخ ما نتج عن محاولات التوسع الاستعماري الفاشلة هذا المقدار من المعاناة. فباطلاق الولايات المتحدة وحليفاتها ما بلغ حد حرب المواد المشعة، دفعت جانبًا أي اعتبار حقيقي للآلام والمعاناة التي ستنزل بالشعب العراقي العادي.
بعد 15 عاماً من الغزو انطلقت في الكويت منتصف فبراير/شباط 2018 أعمال مؤتمر إعادة إعمار العراق الرامي لجمع أموال من المانحين الدوليين لدعم جهود عملية بناء المناطق المتضررة من الحرب، على مدى ثلاثة أيام بحضور عشرات الدول ومئات المنظمات والشركات ورجال الأعمال، وراهن العراق على الدول المانحة وخصوصًا القطاع الخاص للحصول على تعهدات مالية ضخمة، وتعهدت منظمات دولية غير حكومية مع أعمال بدء المؤتمر بتقديم مساعدات إنسانية بقيمة 330 مليون دولار، وإن كانت كلفة الإعمار قد تتجاوز 88 مليار دولار.
تصريحات مدير “صندوق إعادة إعمار المناطق المتضررة من العمليات الإرهابية” مصطفى الهيتي جاءت صريحة وكاشفة، حيث قال إن “العراق بدأ أولى خطوات إعادة الإعمار، إلا أنه لم يتمكن من انجاز سوى واحد في المئة منها حتى الآن”. وأشار الهيتي في كلمة في أولى جلسات المؤتمر إلى “وجود 2.5 مليون نازح بحاجة للمساعدة، وإلى وجود نحو 138 ألف منزل متضرر، فيما لحق الدمار بأكثر من نصف هذا العدد جراء الحرب”. كذلك وزير التخطيط العراقي سلمان الجميلي، حيث صرح بأن بلاده بحاجة إلى 88.2 مليار دولار لإعادة بناء ما دمرته الحرب، فيما أشار مدير عام وزارة التخطيط العراقية قصي عبد الفتاح إلى أن إعادة إعمار العراق تتطلب جمع 22 مليار دولار بشكل عاجل، و66 مليار دولار أخرى على المدى المتوسط. وكان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قد توقع في كانون الثاني/يناير الماضي أن يكلف المشروع الضخم لإعادة إعمار البلاد 100 مليار دولار، وهو المبلغ الذي كان يأمل العراق أن يجمعه من مؤتمر الكويت.
رأى البعض أن على أمريكا مهمة إعمار ما دمرته في العراق، فيما تشكك آخرون في مصير أموال المانحين، فأمريكا ليست فقط تتحمل العبء الأكبر من مسؤولية إعادة إعمار العراق ودفع تكاليف هذا المشروع، وإنما هي المسؤول الأول عن ذلك لأنها هي من قاد عملية التدمير وخرقت جميع المواثيق والقوانين الدولية وفي مقدمتها تحريم انتهاك السيادة الوطنية للدول. وقد يكون هناك دول أخرى تتحمل المسؤولية الأخلاقية فيما يتعلق بإعادة إعمار العراق بسبب مشاركتها في جريمة غزوه، ولكن هذه الدول كلها ما كانت لتقدم على هذه المشاركة لو لم يكن هناك ضغط أمريكي كبير عليه لإضفاء الطابع الجماعي على العملية العسكرية”. قد يكون المؤتمر توجّهٌ كويتي لدعم العراق، ولتضميد جراحه، بعد أن تمزّق هذا البلد على أسس عرقية ومذهبية، ويبقى الأمل معقود على الآلية التي سيتم تطبيقها في توزيع المساعدات ومشاريع الإعمار، وبما يضمن إخراج العراق من أزمته.
التصور بأنه حال عقد المؤتمر، فإن أموالاً ستجمع وتسلم للحكومة العراقية، هو تصور ساذج، وغير مطلع على ميكانيكية مؤتمرات من هذا النوع، فهي ليست أفضل الوسائل، لكنها مبادرة إبداء نوايا من المنظومة الدولية، باستعدادها لإعادة إعمار بلد عانى طويلاً التدمير والتكسير الممنهج. شارك المؤتمر 76 دولة، و107 منظمات دولية وإقليمية، و51 صندوقاً ومؤسسة تنموية، ونحو 2000 جهة قطاع خاص، وغطاه أكثر من 400 إعلامي من كل أنحاء العالم.
يبقى أن الإشكالية لم تكن أبدًا في عقد المؤتمر، وقد نجحت الكويت فيه، كاسرة حواجز كثيرة وكبيرة. الإشكالية أنه لم تكن هناك إجابة واضحة عن أسئلة، مثل: كيف ستدار الأموال، ومَن سيتولى التنسيق بين الأجهزة المستثمرة المتعددة؟، وكيف سيتم التعامل مع ملف الفساد الضارب في العمق؟، وما مقاييس الإنجاز؟، علمًا بأنها ليست بهذه الجودة، وكيف ستدار حملة إعادة الإعمار، وهل ستلتزم بمبادئ العدالة وعدم التمييز والتفرقة المناطقية أو العرقية أو الإثنية أو المذهبية، وكيف سيتم التعامل مع الحالة الأمنية والميليشيات المتعددة، وتأثير دول الجوار؟ تلك أسئلة مشروعة معقدة. فهل نجد إجابة عليها عند صانعي القرار؟.عندها يكون قد نجح المؤتمر.
يبقى أنه رغم كل تلك الاهوال والمآسي فإن مؤلفي الكتاب السالف ذكره عن محو العراق، لا يسعهم إلا الاستنتاج، بان “خيوط الهوية العراقية النابضة بالحياة بقيت على رغم الهجمات المنسقة على الشعب العراقي ومؤسساته. وهذا الكتاب مملوء بروايات الألم والمقاومة والأمل. فالعراق وشعبه يثابران رغم تعرضهما للضرب”. وعلى صانع القرار إدراك أن الاموال التي يمكن أن يحصل عليها من الدول تتأتى في الغالب من إيرادات دافعي الضرائب، وبالتالي لا يمكن أن يضحي صانعو السياسات في الدول المشاركة بناخبيهم وجماهيرهم في دفع أموالٍ لمؤسساتٍ يرونها في أغلبها فاسدة. والسؤال طرحه البعض: مؤتمر لإعمار العراق أم لسرقة المانحين؟. فمن غير المتوقع أن تستلم الحكومة العراقية ما تحلم بالحصول عليه نقدًا. لا لشيء إلا لأن ذلك النقد من وجهة نظر الجميع سيذهب إلى أرصدة الأحزاب التي تتقاسم ثروات البلد في ظل نظام المحاصصة.