لماذا انقلبت ميليشيات «الإخوان »على حكومة الوفاق الليبية في طرابلس؟

Spread the love

بقلم: توفيق المديني * — شنّت ميليشيات تابعة لحكومة المؤتمر الوطني المنتهية ولايته، يوم الجمعة 14تشرين الأول الجاري، هجوماً مسلحاً على مقر المجلس الأعلى للدولة في طرابلس الذي يترأسه عبد الرحمن السويحلي، معلنة السيطرة على السلطة في ليبيا، ومنقلبة على المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج. فقد عمقت عملية الاقتحام هذه الأزمة في العاصمة الليبية طرابلس التي باتت مسرحاً لاقتتال الجماعات المتشددة والانتهازية التي تبدل ولاءاتها وتنقلب على تحالفاتها بهدف تحقيق مصالحها بعيداً عن المصلحة الوطنية العليا.وقد أعلن يوم السبت الماضي رئيس حكومة المؤتمر الوطني المنتهية ولايته، خليفة الغويل، أن حكومته هي الحكومة الشرعية، وذلك عقب سيطرته على مقار السلطة في العاصمة الليبية، طرابلس. ودعا الغويل الذي يرفض الرحيل إلى حكومة وحدة، مطالباً جميع الوزراء ورؤساء الهيئات والتابعين لحكومة الإنقاذ إلى ممارسة مهامهم وتقديم تقاريرهم وتسيير مؤسساتهم، خاصة فيما يتعلق ويمس الحياة اليومية للمواطن.
من جانبها، أمرت حكومة الوفاق باعتقال كل من تورط في اقتحام المقار في طرابلس، متهمة إياهم بمحاولة زعزعة الاستقرار السياسي والأمني.وخطوة الغويل الانقلابية تعكس النزاعات المستمرة منذ أشهر على السلطة في طرابلس بين الميليشيات التي حاولت حكومة الوفاق المدعومة من الأمم المتحدة احتواءها بعد أن بدأت عملها في أيار الماضي، لكن نهجها الانتهازي كان الفيصل الوحيد في عملية تحديد ولاءاتها. والميليشيات التي اقتحمت قصور الضيافة تدين بالولاء للغويل وأعضاء من المؤتمر الوطني العام الذين كانوا قد انقلبوا، عام 2014، على الشرعية بعد فشلهم في الانتخابات النيابية، ليوجهوا بهجومهم على قصور الضيافة ضربة جديدة للشرعية، هذه المرة ضد المجلس الرئاسي المنبثق من اتفاق الصخيرات. ولا بد من الإشارة إلى أن المقر المستهدف يتبع للمجلس الأعلى للدولة، وهو مجلس استشاري يقوم بتقديم الاستشارات لحكومة الوفاق التي يرأسها فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي في الوقت نفسه، حسب اتفاق الصخيرات (المغرب) الذي توصل إليه فرقاء ليبيون برعاية الأمم المتحدة في نهاية سنة 2015.ولكن، على الرغم من التوافقات اللاحقة لاتفاق الصخيرات، ظهرت حالة من الصراع على السلطة التشريعية، وصارت تشكل محوراً مهماً في الأزمة السياسية الراهنة. ولعل المعضلة الأساسية كانت في القيود على تفسير الاتفاق السياسي، فبينما اتجهت الأمم المتحدة إلى عقد جلسات للجنة الحوار، فإن مجلس الدولة اتجه في 25أيلول 2016، إلى تفعيل المادة 13 من الأحكام الإضافية، وإلى تشكيل اللجنة الخماسية لتفسير الاتفاق، ومناقشة آليات تنفيذ الاستحقاقات المشتركة بين المجلسين.
وقد عدّ مجلس الدولة (21 أيلول 2016) أن تفاقم الصراع العسكري في ليبيا أطاح فرص المصالحة الوطنية ، بسبب المعارك التي نشبت أخيراً من أجل السيطرة على «الهلال النفطي»، وأكدت مرّة أخرى انسداد الأفق السياسي في ظل احتداد الأزمة الاقتصادية، والتراجع الكبير في الخدمات العامة، والخوف من عودة الديكتاتورية بسبب التقدم الذي أحرزه المشير خليفة حفتر في الشرق و الوسط الليبي، حيث يعدّ بيان «المجلس» أن إطاحة المؤسسات المدنية في شرق ليبيا يقترب من حالة انقلاب عسكري. ويأتي بالتزامن مع تصاعد وتيرة الأزمة في طرابلس وتالياً أزمة المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق بعد تفجر الخلافات بين الميليشيات التي تخوفت من خسارة مصدر دخلها الأساس، إثر نجاح الجيش الوطني في استعادة السيطرة على الهلال النفطي، في أيلول الماضي.
إن الصراع على السلطة في ليبيا، هو صراع بين الميليشيات المتحاربة، حيث باتت عملية نقل البندقية من كتف إلى آخر نهجاً ثابتاً لهذه الميليشيات التي كانت تشكل ما يسمى تنظيم«فجر ليبيا» القوة الضاربة لتنظيم «الإخوان المسلمين» ولحكومة المؤتمر الوطني العام ،قبل أن تعصف بها الخلافات والانشقاقات وتُدخل طرابلس في دوامة من العنف والاقتتال الدامي. وخريطة تحالف الجماعات المسلحة، باتت معقدة ويصعب على المتابع للشأن الليبي تحديدها بسهولة، فبعضها يعلن الولاء للمجلس الرئاسي، وأخرى تساند فلول المؤتمر الوطني، وجماعات تأتمر من المفتي المعزول الصادق الغرياني، والهدف الأكبر هو تحقيق مصالحها.وتتحدث التقارير الوافدة من العاصمة طرابلس أن «ولاءات الميليشيات دائماً ما تتغير، فمن يدفع رواتب أفرادها يتحصل على حمايتها»، أي أن هذه الجماعات ليست إلا مجموعة من العصابات المؤلفة من عناصر مرتزقة تعرض خدماتها على الجهة المستعدة لتقديم أعلى أجر. والعملية الانقلابية الأخيرة تأتي حتماً في هذا السياق، فمنذ انتخابات المؤتمر الوطني عام 2012 كانت قصور الضيافة المقر الرسمي للمؤتمر، ولكن السويحلي استطاع طردهم قبل عدة أشهر ليتخذها مقراً لمجلس الدولة قبل أن يخسرها يوم الجمعة 14تشرين الأول الجاري، لمصلحة الغويل.
لكن المشهد السياسي الليبي لم يقتصر على صراع «ليبيرالي – إسلامي معتدل» (ظل الإسلاميون المتشددون في منأى عنه)، إذ سرعان ما دخلت قوى الأمر الواقع «الجهوية» والقبلية طرفاً في التنافس على «الغنيمة»، وكلهم حملوا لواء «ثورة 17 فبراير» وسعوا إلى احتكار النطق باسمها. وازداد الأمر تعقيداً مع تصاعد النزعات الجهوية وبروز دعوات إلى الفيدرالية في الشرق الليبي (بنغازي) لمقارعة المركزية بحجة أنها «ظاهرة بغيضة» من ظواهر حكم القذافي الذي ركز حكمه في العاصمة، ما يؤكد أن الأزمة في طرابلس ليست سوى صراع مصالح بين ميليشيات ومجموعات مرتزقة، تمارس القتل، و الاختطاف، بهدف الحصول على فديّة مالية.
رغم إجراء انتخابات ديمقراطية في ليبيا، فإن القوى السياسية الليبية على اختلاف مشاربها الأيديولوجية والسياسية، أخفقت في بناء نظام ديمقراطي في ليبيا عقب سقوط نظام العقيد القذافي، واتجهت نحو السيطرة على السلطة أكثر من كونها اتجهت إلى إقامة نظام الدولة، وهو نظام في منتهى الصعوبة في هذه المرحلة من التطور السياسي في ليبيا، هذه المرحلة في تحقيق هذا الهدف، وتالياً فإن أقصى ما حققه المواطنون من نجاحات سياسية انحصر في مدى اقتراب البعض من السلطة والحصول على الامتيازات التي كانت تحقق النجاح للبعض.
وحين نصل أخيراً إلى التجانس الاجتماعي الذي يعني تذويب القوميات المختلفة والقبائل المتناحرة لتشكيل نسيج اجتماعي جديد يقوم على التجانس وفق رؤى عصرية للحياة لا تقبل التمييز بين المواطنين، فإننا نجد أن الوضع في ليبيا ما زال غارقًا في البداوة القبلية والجهوية. ويبدو أن تأسيس مجتمع متجانس يعلو على القبيلة والجهوية مسألة تحوطها الشكوك، نظراً لتجذّر البنى الاجتماعية التقليدية، ومقاومة أنصارها لأي انفتاح ديمقراطي، فمعنى ذلك أننا إزاء انتفاضة شعبية لم تتحول بعد إلى «ثورة» حقيقية!!.
تتميز ليبيا تاريخياً بضعف جهاز الدولة وهشاشته وقصر عمره السياسي، فليبيا من أقطار المغرب العربي التي لم تعرف تقاليد الدولة الوطنية وفق المفهوم الحديث للمصطلح، فقد ظلت مقسمة إلى أقاليم ثلاثة رئيسة هي برقة وفزان وطرابلس قروناً عدة.وجاءت السنوسية، وهي ثاني حركة إسلامية سلفية، أسسها محمد بن علي السنوسي (1787-1859)، كمحاولة لتوحيد إفريقيا الإسلامية أولاً، وتوحيد العالم الإسلامي ثانياً، بعد أن احتلت فرنسا الجزائر، وعجز السلطنة العثمانية عن رّد العدوان الفرنسي. وقاومت الحركة السنوسية الغزو الإيطالي لليبيا سنة 1911، مجسّدة بذلك الجهاد الإسلامي، وكانت معادية للاستعمار الغربي، وغير ودّية مع السلطة العثمانية. وحاولت السنوسية توحيد أقاليم برقة، وفزان، وطرابلس التي كانت تتمتع بصفات إدارية مختلفة، لكن هذه المحاولة اصطدمت بالاستعمار الإيطالي الذي حارب بلا هوادة المقاومة الوطنية من 1911-1932، ولعل ما يفسّر رفض الليبيين للحكم الإيطالي ومقاومتهم له سواء في إطار السنوسية أو في إطار الجهاد المسلح بقيادة المجاهد عمر المختار يقع في إطار رفض السياسة التي فرضها المستعمر الإيطالي.
خلال الحرب العالمية الثانية استخدم البريطانيون جماعة السنوسية الأقوياء، القاطنين في الشرق، بهدف مقارعة القوات الإيطالية- الألمانية. وليبيا التي كانت مستعمرة إيطالية وضعت آنذاك تحت انتداب الأمم المتحدة حتى سنة 1951. بعد ذلك شجعت بريطانيا على إقامة مملكة مستقلة مع إدريس السنوسي، المنتمي إلى الجماعة السنوسية. واستقلت ليبيا عبر النظام الفدرالي الاتحادي برعاية الأمم المتحدة، حيث صدر قرار عن المنظمة الدولية في سنة 1949 قضى باستقلال البلاد في سنة 1951، على أن يتم ترتيب شكل الدولة والدستور وفقاً للحقائق التاريخية للأقاليم الثلاثة.
قبل سنة 1951، لم تكن دولة بهذا الاسم، بل كانت ثلاثة أقاليم هي برقة وفزان وطرابلس، وقد تم تأسيس الدولة من قبل لجنة ضمت 60 عضواً، بمساعدة الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص أدريان بيلت، وقد راعت هذه اللجنة في تشكيلها التمثيل العادل المتساوي بواقع 20 ممثلاً عن كل إقليم والملك السنوسي أقام عاصمة البلاد في البيضاء حتى الانقلاب العسكري ضده سنة 1969. حتى عندما استقلت ليبيا سنة 1951، ظلت ليبيا اتحاداً فيدرالياً من 1951 إلى 1963 خلال حكم الملك إدريس السنوسي، كانت مقسمة إلى ثلاثة أقاليم هي برقة(الشرق)، وطرابلس(الغرب) و فزان (الجنوب الغربي).
ودامت تجربة الدولة الفيدرالية في ليبيا نحو 13 سنة، أي حتى سنة 1963، حين تم تعديل الدستور وألغيت الفيدرالية بشكل مخالف للدستور، حيث جرى استحداث عشر محافظات بما لا يلائم الطبيعة الليبية -حسب رأي بعض المدافعين عن العودة إلى النظام الفيدرالي القديم-. ويعدّ أهل الشرق الليبي أن هناك تمايزات ثقافية وعرقية بين الأقاليم الثلاثة، وأن تركيبة ليبيا تلك تفسر الصياغة التي اعتمدها دستور الاستقلال سنة 1951، حيث يعدّه أنصار الملكية أنه الدستور الوحيد الشرعي.
وعندما استولى العقيد القذافي على السلطة في 1أيلول سنة 1969، قام ببناء نظام استبدادي طوال العقود الأربعة الماضية، سماه بالنظام الجماهيري الذي بقي قائماً على البنية القبلية للحكم. واللافت في هذا النظام الاستبدادي أن جماعة القذافي، لم يختاروا رئيس دولة، بل قائداً، حيث إن القذافي تمسك بتلك الهوية القبلية ورفض النمط الاجتماعي الحضري معاوداً إنتاج الزعامة القبلية. وكان النظام الجديد الذي أرساه على أنقاض السنوسية، وهي طريقة صوفية عسكرية، قد اتسم بازدواجية فريدة تجمع بين حاكمية جيدة على الورق تتيح للشعب إدارة شؤونه بنفسه، أي تكريس الديمقراطية المباشرة، ونظام فعلي يقوم على الحكم المطلق، حيث يمسك بالنفوذ الحقيقي قائد الثورة والجيش والقبائل المسلحة.
لقد ظلّت قبائل الشرق ملكية ولم تعترف يوماً بسلطة القذافي الذي ينتمي إلى قبيلة القذاذفة الصغيرة، المقيمة في سرت، ولاسيما أن القذافي كان يكره بنغازي وأهلها، باعتبارها حاضنة السنوسية والملك السنوسي الذي انقلب عليه سنة 1969. وكانت سلطة القذافي تستند، إضافة إلى قبيلته، إلى قبيلتين أخريين هما: الورافلة الذين تجدهم في الجهاز الأمني، والمقارحة الموجودون في الإدارة والعاملون في التجارة. وقد استبعد القذافي قبائل الشرق من جهاز الدولة وحرمهم من أرباح النفط. وحوّل مركز السلطة إلى طرابلس الغرب، كما في عهد الاستعمار الايطالي. المعارضون الديمقراطيون للنظام والملكيون عملوا كلهم من الخارج، من مصر والسودان والتشاد. واستهدفت سياسة نظام القذافي الإفريقية في الثمانينيات خلق أنظمة«صديقة» كان المطلوب منها طرد المعارضين الليبيين من أراضيها، فلجأ هؤلاء إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وسويسرا.

*كاتب تونسي

المصدر: صحيفة تشرين

Optimized by Optimole