هل نصب الأميركيون فخاً لصدام حسين- الحلقة الثانية

هل نصب الأميركيون فخاً لصدام حسين- الحلقة الثانية
Spread the love

بقلم: عبد المنعم علي عيسى* — كانت حسابات صدام حسين في العمق تقول ان الأميركيين سوف يتغاضون عن احتلاله للكويت بعدما انهك ايران بحرب دامت لثماني سنوات، وبعدما قدم تعهداً بالحفاظ على سعر برميل النفط لا يتعدى 25 دولاراً، ثم انه كان يعتقد بأن الأميركيين تهمهم أسعار النفط وليس آباره. وبناء عليه فقد كان يرى أن هؤلاء ومهما علا صراخهم أو حشد قواتهم فإنهم لن يقوموا بضربة والمؤكد انه ظل مؤمناً بتلك الرؤية حتى مطلع فجر يوم السادس عشر من كانون الثاني (يناير) 1991 عندما أفاق على خبر عاجل نقلته وكالة رويترز ومفاده أن طائرات أميركية قد اغارت على مواقع للجيش العراقي في الكويت.
يروي وزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع في كتابه “الرواية المفقودة” انه كان يحضر اجتماعاً وزارياً لمنظمة التعاون الإسلامي في القاهرة عندما تناقلت الوكالات خبر غزو العراق للكويت، وما جرى أن المؤتمر سرعان ما قام بتعليق جلساته والاستعاضة عنه باجتماع وزاري مصغر. ويضيف الشرع أن عبد الرحمن العوضي الذي مثل الكويت في ذلك الاجتماع بدلاً عن وزير الخارجية صباح الأحمد الصباح كان قد كلفه ليطرح فكرة إرسال سيارات أو طائرات عمودية لنقل العائلة المالكة ومن يلوذ بهم مع وزير الخارجيه السعودي سعود الفيصل. إلا أن هذا الأخير كان قد أبدى تبرماً تجاه عدم استعداد العائلة المالكة الكويتية لاستخدام السيارات للوصول الى الداخل السعودي فقد أصر هؤلاء على وجوب حضور طائرات لكي تقلهم لأن الجو كان حاراً جداً، وفق رواية السيد الشرع .
في خلال ذلك الاجتماع سابق الذكر حدث ان اتصل الرئيس الأميركي جورج بوش( الاب) مع الملك حسين وقال له: “هذا صاحبك صدام دخل الكويت، لماذا لا تسأله ماذا يريد؟” .
جدير بالذكر أن الرئيس المصري حسني مبارك كان يجلس في ذلك الاجتماع بالقرب من الملك حسين وهو يحاول استراق السمع او معرفة فحوى الحديث من خلال ردود هذا الأخير، وقد طال انتظاره لطلب الرئيس الاميركي التحدث اليه، إلا أن الأخير كان قد أنهى مكالمته من دون أن يفعل. وذلك أمر مهم فهو يشير الى تراتبية الثقة التي تمنحها واشنطن للزعماء العرب، ويؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الأميركيين ينظرون الى الملك الأردني على أنه الجدير الأول بثقتهم المطلقة .
في اليوم التالي سافر الملك حسين الى بغداد، إلا أن صدام كان قد اخبره بأن الجيش العراقي دخل الكويت لكي يبقى فيها، ولربما أبدى العاهل الأردني تفهماً للموقف العراقي وهو ما تأكد لاحقاً عبر المواقف التي أبدتها عمان تجاه ذلك الصراع لاحقاً، والغريب أن واشنطن لم تتخذ موقفاً متشنجاً اتجاه الموقف الأردني المؤيد لصدام في ما أقدم عليه، ولو فعل ذلك أي أحد آخر لما كان ممكناً أن يلقى التسامح الذي لقيه الأردن .
في غضون أيام أخذت تتبلور التراصفات في المنطقة تجاه ما حدث فالبعض أبدى “تفهمه” لما أقدم عليه صدام مثل الأردن واليمن ومنظمة التحرير الفلسطينية التي أبدت موقفاً متقدماً في تأييد صدام. وفي ذاك يقول الشرع إن المندوب الفلسطيني فاروق القدومي كان قد أخبره في الاجتماع الوزاري الذي عقد في القاهرة “أنهم يؤيدون احتلال منابع النفط التي لا يصلهم منها إلا برميل واحد، وأن هناك الآلاف من الفلسطينيين في الكويت وهم لن يتوانوا عن حمل السلاح جنباً الى جنب دفاعاً عن صدام، في حين جاء موقف القاهرة متشدداً لكن في مقلب آخر، فقد كشفت وثائق بريطانية نشرتها جريدة الحياة على مدى حلقات في اعدادها الصادره في شهر كانون الأول(ديسمبر) 2016 وتشير إحداها الى ان صدام كان قد حاول رشوة حسني مبارك بمبلغ 25 مليون دولار. كما تشير الوثيقة الى ان صدام كان قد استشاط غضباً عندما نقل ذاك العرض اليه من قبل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح حتى انه نعت هذا الاخير بـ”الشاويش” نسبة الى عمله في الجيش قبل ان يصبح رئيساً. الا ان صدام ما كان له ان يقدم على خطوة من هذا النوع او اي نوع آخر تجاه دمشق ليس بسبب العداء المستفحل ما بينه وبين الرئيس حاظ الأسد وانما لأن هذا الأخير ليس له مصلحة في تعاظم قوة خصمه وهو لن يتوانى عن الوقوف في وجه اي محاولات من هذا النوع ما استطاع الى ذلك سبيلاً .
بعد ساعات من اتصال الرئيس بوش بالملك حسين حضر الى القاهرة سعيد حمادي لكي يترأس الوفد العراقي، وفي ذلك الاجتماع ذهب هذا الأخير الى التصعيد بدرجة قصوى، كما حاول اللعب على الوترين السوري والمصري مذكرا اياهما بأن الكويت قد عمدت الى خنق كل منهما وكلتاهما دولتان فقيرتان بل ومن دول المواجهة. أنذاك باءت محاولات حمادي بالفشل وقد قيل ان احد اعضاء الوفد المصري الذي كان حاضراً الاجتماع عندما كان حمادي يذهب الى التحريض او التذكير بـ”البخل” الكويتي، كان قد سأل هذا الأخير في الكواليس: وهل اذا اصبحت الكويت تحت السيطرة العراقية سيتغير ذلك الوضع؟ بمعنى هل سيظهر العراق كرمه على دول المواجهة في حال ضمه للكويت، كان ذلك سؤالاً خبيثاً وهو يريد القول إن هذه الاكاذيب لا يمكن لها ان تنطلي على احد وهي بالتأكيد ترصد حقائق الأمور وأعماقها .
ليس من الصعب تلمس الحال الذي اضحى عليه الخليجيون عامة والسعوديون خاصة بعد غزو العراق للكويت، فقد عمدت الرياض الى ابقاء الخط الساخن الذي يربطها بواشنطن على مدى أيام لحين ظهور الأمير الكويتي في البيت الابيض الى جانب الرئيس الأميركي الذي طمأنه بان كل شيء سوف يعود الى سابق عهده ولسوف يدفع العراق ثمن فعلته تلك. لكن على الرغم من ذلك لم يشعر السعوديون بتزايد حالة الاطمئنان لديهم. فالتصريحات والوعود شيء والتنفيذ شيء آخر الى ان أرسل الاميركيون طلائع قواتهم لحماية المملكة في السادس من آب (أغسطس)، ثم اوفد بوش وزير دفاعه ديك تشيني الى الرياض لتهدئة القيادات السعودية التي لم تعد تستطع الاحتمال أكثر ولا شيء يمكن له ان يعيدها الى سابق عهدها الا عندما تغمض عين ثم تفتحها لترى ان كل ما مضى كان كابوساً وقد انتهى الى غير رجعة. وبعد يومين على زيارة تشيني للرياض اعلن صدام عن ضم الكويت لتصبح المحافظة التاسعة عشرة للعراق. كان ذلك خطأً استراتيجياً فادحاً ولطالما ارتأت واشنطن فيه هدية نزلت من السماء او ان ناقلها “الأحمق” أضاع العنوان فأعطى الهدية الى خصمه.
وفي العاشر من آب (أغسطس) زار سعود الفيصل دمشق وقال أمام الاسد ان موقفه من الحرب الايرانية العراقية كان صائباً منذ الأيام الاولى، ولذا فإن صدام يجب أن لا يفلت هذه المرة. وفي اليوم نفسه التأمت القمة العربية الطارئة في القاهرة وفيها حقق الأسد نجومية قصوى، كان الكل ينظر اليه نظرة إعجاب، والكل يريد ان يستمع لما سيقوله. فجأة اضحى الأسد محور السياسة العربية بعد ان كان العديد من العرب يرى فيه زعيماً خارجاً عن الصف العربي. ولم لا والرجل قد أثبت أنه نافذ البصيرة وهو يتمتع بحكمة قل نظيرها. ولذا فإن هذي الأخيرة تقضي السماع له أولاً وثانياً وثالثاً، وكتكريس عملي لكل ذاك كان مبارك قد اشترط لكي يرسل قواته للمشاركة في تحرير الكويت أن يرسل الأسد طلائع قواته أولاً.
خرجت تلك القمة بقرار هام وخطير ولسوف تكون له تداعيات مستقبلية خطيرة حيث سيصبح مسطرة يمكن ان يجري القياس عليها. فقد أقر العرب بجواز الاستعانة بالقوات الأجنبية لتحرير الكويت. وفي أعقابها أضحت دمشق ما بين آب (أغسطس) 1990 وبين شباط (فبراير)1991 قبلة العرب وبيضة القبان التي تحدد – وتوزع- الأثقال في المنطقة. وفي أتون تلك المرحلة سجلت الأحداث مفاجآة من العيار الثقيل. فقد كان من بين الزائرين الرئيس التركي تورغوت أوزال ليكون أول رئيس تركي يزور دمشق منذ العام 1918 .
كان طارق عزيز هو من يزود صدام بما يجب أن يقوله في تلك الظروف العصيبة ومن بين ما أشار عليه ان نصحه بربط انسحابه من الكويت بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في العام 1967. كان الجميع مدركاً للأهداف التي يرمي اليها صدام من وراء مناورته تلك فهو هنا لا يخاطب أنظمة وانما يخاطب شعوبها التي عرف كيف يدخل الى شعاب – وشغاف- دواخلها لكي تصبح عاملاً ضاغطاً على حكامها مما يمكن أن يؤدي الى حالة من عدم الاستقرار تهدد تلك الأنظمة التي لم تقف معه. كان التقدير خاطئاً بدرجة كبيره فالشعوب العربية التي كانت تختزن مشاعرها القومية والوطنية كانت في الآن ذاته عاجزة عن ترجمة ذلك المخزون الى وقائع أو حقائق عملية بعدما استطاعت الأنظمة في غالبيتها سحق أصغر النوى لديها تلك المسؤولة عن تحديد المفاهيم الأهم في مسيرة الشعوب والتي يتوقف بناء وتطور المجتمعات على وجود توافق عام ما بين شرائحها على تلك المفاهيم. لكن على الرغم من ذلك فقد أدركت واشنطن خطورة الطرح العراقي وأيقنت انها بحاجة الى المزيد من الجهد للتغلب عليه. وفي هذا السياق طلب الرئيس الأميركي لقاء الرئيس حافظ الأسد ثم حدد له ثلاثة عواصم لكي يلتقيه فيها فاختار الأسد منها جنيف وهو اللقاء الذي حصل في 23 تشرين ثاني (نوفمبر) 1990، وفيه أكد بوش للأسد بأنه جاد في إخراج القوات العراقية من الكويت وأن عديد قواته على حدودها قد بلغ ما يزيد على 400 الف جندي. ولم ينسَّ أن يغري الأسد بما لا يستطيع مقاومته فقال له بأنه يتعهد بعقد مؤتمر دولي للسلام في أعقاب تحرير الكويت لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي على أساس القرارين 242 و338 الصادرين عن مجلس الامن لعامي 1967 و1973 على التوالي. ثم ذهب الى ابعد من ذلك ليعطي الأسد ضوءاً اخضر لإزالة حكومة ميشيل عون التي كانت تنغص على هذا الأخير احساسه بالنجاح في لبنان، وهو ما فعله الأسد يوم 13 تشرين ثاني (نوفمبر) 1990 من دون تأخير. فهو كان أذكى من ان ينتظر لكي يتم دحر القوات العراقية من الكويت أولاً. وفي هذا السياق لم ينسَ هذا الأخير أن يراكم في جعبة زعامته العربية كلما تبدى أن ذلك أمر ممكن، فقام بإرسال رسالته الشهيرة لصدام عبر الأثير وهو يدرك أن صدام قد يستمع الى أي أحد غيره. إلا انه بالتأكيد لن يكون بوارد الاستماع له. وسرعان ما جاء رد صدام سلبياً، وكذلك كان ايضاً تجاه مبادرة واشنطن الاخيرة فقد رفض طارق عزيز استلام الرسالة التي نقلها وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر اليه يوم 9 كانون ثاني (يناير) 1991 لينقلها بدوره الى رئيسه بذريعة انها تحمل تهديداً امريكياً للعراق. ثم تهادت التطورات حبواً نحو “عاصفة الصحراء”، ليجد العراق نفسه أمام حالة استسلام شبيهة باستسلام اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من بقاء البنود التي تصمنتها اتفاقية “خيمة صفوان” الموقعة يوم 3 آذار(مارس)1991 ما بين الأميركيين والعراقيين، إلا أن ما تلاها يشير الى أن تلك الاتفاقية كانت مجحفة بحق العراق إن لم تكن مهينه أيضاً.
خرجت القوات العراقية من الكويت بعد أن دمر أكثر من نصف الجيش العراقي وعندما أعلن جورج بوش عن وقف إطلاق النار يوم 28 شباط( فبراير)، كان الطريق الى بغداد مفتوحاً، الأمر الذي يطرح سؤالاً عريضاً هو لماذا لم تكمل القوات الأميركية نحو العاصمة العراقية لإسقاط نظام صدام حسين؟ ولربما كان ما تكشف مؤخراً من وثائق كفيلة بإعطاء إجابة شافية للسؤال السابق. وفي إحداها كان صدام قد أعطى لقادة جيشه أمراً بتحميل صواريخ سكود التي كان يطلقها على إسرائيل برؤوس كيمائية إذا ما أحس هؤلاء بأن النظام آيل للسقوط لا محالة.

*باحث سوري.

المقالة تعبّر عن رأي كاتبها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع.