كورونا وباء ضدّ الإنسانيّة

كورونا وباء ضدّ الإنسانيّة
Spread the love

أحمد فرحات _ مؤسّسة الفكر العربي/

سواء أكان نِتاج غضب الطبيعة على الإنسان أم نتيجة “اللّعب” بالمُختبرات الخاصّة بالأسلحة الجرثوميّة العائدة إلى دُولٍ كبرى بعَيْنِها، أم نتيجة لتناول بعضهم في الصين وجبات الخفافيش والنمْل الحرشفيّ وأنواعاً أخرى من الحشرات الآسيويّة، فإنّ وباء كورونا صارَ أمراً “أبوكاليبتيّاً” واقِعاً فَرَضَ نفسه على الجنس البشريّ برمّته ووضَعه أمام تحدٍّ واحدٍ لا مَحيد عنه: إمّا المُواجَهة الشاملة للقضاء المُبرَم عليه أو الفناء المُتمادي إزاءه.

كلّ ما عدا ذلك بات لا أهميّة له في هذه المرحلة المُرعبة والرّاعِبة من تاريخ البشريّة العامّ، وعليه لا يفيد بشيء كلّ هذا التراشُق السياسي المتهافت حول مَنشأ الفيروس، ومَن المُتسبِّب به، والبحث عن أدلّة لتحميله وحده مسؤوليّة التسبُّب بالجائحة.. وغير ذلك من مُتهافتات وصلت حدّ التفكير بإقامة الدعاوى ضدّ الصين في المَحاكِم الدوليّة، كما بدأنا نقرأ عن ذلك في الولايات المتّحدة الأميركيّة مؤخَّراً، وكذلك في بعض الدول الأوروبيّة التي أعلنت تأييدها للخطوات القضائيّة الأميركيّة المُعتزَم اللّجوء إليها.

باختصار، ما تزال السياسات الدوليّة الرّاهنة جميعها، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً دون المستوى المطلوب في مُواجهة وباء كورونا المُستجِدّ، والوقوف القاطِع والحاسِم ضدّه على أساس أنّه وباء ضدّ الإنسانيّة قاطِبة، وأنّ على الأطراف الدوليّة جميعاً أن تأتلِف بدَورها لمُواجهته دونما تلكّؤ ولا مُوارَبة ولا التهاء بسياسات ومَواقف استعراضيّة لا تزيد الأمور إلّا تعقيداً على تعقيد، وتَحُدُّ، بالتالي، من سياسة تشجيع العُلماء والأطبّاء المُختصّين ودعمهم أينما كانوا على أرض هذا الكوكب، وإلى أيّ شعبٍ أو أمّة انتموا، بكلّ ما يحتاجونه من أدوات وعناصر وأموال تُساعد على إنجاح مهمّتهم الإنقاذيّة الكبرى، بعيداً من أيّ مُتاجرات احتكاريّة مسبّقة بمُنجزهم المُنتظَر. المهمّ أن يولَد هذا الدواء أو اللّقاح العتيد المُنتظَر، ويَضع حدّاً نهائيّاً لهذا الوباء الوبيل، ودائماً من مَوقِع أنّ الاقتصاد هو في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة الاقتصاد أوالربح لمجرّد الربح.

هكذا إذاً، فهذا الوباء غير المعهود في تاريخ البشريّة، لا تهمّه البلدان الكبرى المتقدّمة ولا نظيراتها النامية أو الفقيرة.. لا يهمّه الحاكِم والمحكوم، الأبيض والأسود، القويّ والضعيف، الغنيّ والفقير؛ فالكلّ أمامه سواسية.. لا فرقبين هذا أو ذاك، اللّهم إلّا بدرجة الوقاية، والكمّامة المُحكَمة، وانتقاء “العزلة الفعّالة” على حدّ مزحة أحد الأصدقاء.

كما لا يكترث وباء كورونا بكلّ إنجازات الحضارة الحديثة وثوراتها العِلميّة والتكنولوجيّة المُتقدّمة والضاربة عميقاً في مضمار الفيزياء الفلكيّة وعِلم الكَون.. علاوة على كلّ عمليّات اختراق الإنسان للنظام الشمسي وكواكبه وبدايات “التنبّؤ العِلمي” بمَصير الكَون وحتّى توسّعه، فكلّ شيء حتّى الآن يخضع لسلطان هذا الفيروس القاتِل، بل يَستسلم لجبروته الحاكِم الفاصل. ولا غرو، فقد تحوّلت الكرة الأرضيّة مع كورونا إلى غرفة موت صفراء واحدة، أو إلى مقبرة فانتازيّة معلَّقة في الهواء الشاحب المكروب.

أربعة أشهر على الجائحة

مضت أربعة أشهر على انتشار جائحة العصر: كورونا، فتغيّرت معها أشياء كثيرة في هذا العالَم كما عهدناه. فعدا التغيّر في أبسط أشكال عاداتنا الاجتماعيّة ومظاهرها التي تبدأ من السلام بالأيدي، وحضور مُناسبات الأفراح، والمُشارَكة في واجبات المآتم، ثمّ كسْر الضجر بالتردّد على المقاهي وسائر أمكنة الترفيه.. عدا ذلك كلّه، وما يشبهه ويتفرّع عنه، فقد تعطّلت الحياة الاقتصاديّة والفكريّة والتربويّة والثقافيّة والرياضيّة؛ وتغيّرت بنى وأشكال سائر الاجتماعات والمُفاوضات بين الجهات السياسيّة على اختلافها، المحليّة منها والعربيّة الدوليّة.

كما توقّفت صناعة السياحة والسفر بين الدول وكلّ ما يرتبط بها من مؤسّسات حيويّة كشركات الطيران المدنيّة ووسائل النقل البحريّة والبريّة المركزيّة، فضلاً عن الفنادق والمَطاعم وسائر المَرافق الخدميّة المُلحقة بها. وتكبّدت شركات الطيران العالَميّة خسائر مادّيّة فادحة. ولأجل ذلك، لَجأت هذه الشركات، وبشكلٍ خاصّ في أوروبا، إلى الاقتراض من الحكومات الرسميّة لتغطية خسائرها اليوميّة والمُتمادية بعد تعليق الرحلات وإغلاق المجال الجوّي.

ومن هنا باتت مفهومة أكثر دعوة رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز، لبناء اقتصاد حرب مُشترَك في أوروبا لمُواجَهة تداعيات كورونا، مذكِّراً بأنّ الإجراءات الأوليّة التي تمّ الاتّفاق عليها لتعزيز اقتصاد دول الاتّحاد، تُمثّل بداية جيّدة، لكنّها ليست كافية على الإطلاق.

على أنّ الفشل الذي أحاق بالقمّة الأخيرة لدول الاتّحاد الأوروبي والمُتعلّقة بوضْع الميزانيّة العامّة التي تغطّي السنوات السبع المُقبلة (عُقدت في بروكسل في الأسبوع الأخير من شهر نيسان/ أبريل الفائت) سوف لن يؤثّر “على بناء اقتصاد حرب أوروبي ولو بالحدّ الأدنى لتلافي خطر وباء كورونا علينا جميعاً كأوروبيّين”، على حدّ تعبير الاقتصادي الألماني هانز فون بارتلس الذي أردف يقول لكاتِب هذه السطور “إنّ لنا كأوروبيّين مصلحة تكتيّة واستراتيجيّة في دعْم دُول أخرى غير أوروبيّة مُبتلية بوباء كورونا، ولاسيّما في الشرق الأوسط”.

وإذا كان ضَيف كورونا الكابوسيّ على البشريّة جمعاء، قد أَطلق رصاصَ الرحمة على العَولَمة بالمفهوم “التقليدي” الذي كانت تُبشِّر به، من جعْل العالَم قرية صغيرة وإزالة الحدود والعراقيل بين الدول (خصوصاً الاقتصاديّة منها)، انطلاقاً من واقع أنّ كورونا حوَّلت العالَم الآن إلى مجرّد جُزر مُنعزِلة ومُنغلِقة على ذاتها، فإنّه في المُقابل خلق عَوْلَمةً جديدة يَصفها البعض بالحقيقيّة والمقبولة من طَرَفِ الجميع، هي عَوْلَمة التصدّي البشري كجِنس وكنَوع (مان كايند) يجري استئصاله من على وجه هذه البسيطة، ومن طَرَفِ عدوّ واحد لا يُرى ولا يُسمع ولا يتشكّل إلّا على طريقته. هذا على الأقلّ ما يحتلّ جغرافيا عقول وأحاسيس كثرة كاثرة من البشر الذين باتوا لا يلوون على شيء إزاء فيروس يُمارِس الوحشيّة المُطلَقة بسلاسة لا نظير لها.. سلاسة تَفتك بالصدور والرؤوس، وكذلك بطبيعة العلاقة الطبيعيّة بالحياة نفسها التي اعتدناها كآدميّين يدبّون على هذه الأرض، مُذ بدأ تاريخ دبيب جدّنا آدم عليها.

أكثر من ذلك، جَعلنا هذا الانفجار الوبائي لفيروس كورونا نشعر وكأنّنا في الربع الساعة الأخيرة من عُمر البشريّة، أو على الأصحّ في المرحلة العصيبة والنهائيّة من حالة نِزاع البقاء والإطلالة المُباشرة على مَذاق العدم.

كورونا وصورتها في الفلسفة الرّاهنة

كان لا بدّ للفلسفة أن تدخل على خطّ كورونا، وتعكس أسئلة توليديّة جديدة إزاءها، لم يسبق لها أن طُرحت منذ زمن الإغريق إلى اليوم. وكان الفلاسفة الأوروبيّون الحديثون هنا أسبق من نظرائهم الجُدد في القارّات الأخرى في تناوُل ظاهرة الوباء الضيف، وتداعياته الكارثيّة، فضلاً عن دواعي نشوئه الجديد وصيرورته الجديدة.

والمُلاحَظ أنّ معظم المُقارَبات الفلسفيّة الأوروبيّة للجائحة الجرثوميّة المُستجِدَّة، كانت تنطلق من وجهة نظر فلسفيّة سياسيّة. فهذا ميشال أونفري، وهو من “ثعالب” فلاسفة ما بعد الحداثة في فرنسا، يُندِّد بمَملكة العقل واليقينيّات الأوروبيّة “المتفوّقة”، مُتحدِّثاً عن انعدام الكفاءة لدى قادة القارّة الأوروبيّة واستهتارهم الخطير بالوباء، حتّى سقطوا ضحيّته، وباتوا مكشوفين أمام ذواتهم وذوات الآخرين، سواء بسواء، مُستنتِجاً في النهاية أنّ أوروبا أضحت العالَم الثالث الجديد. ووضَعَت نفسها في حالة الحياة المُرجَأة والإرادة المُعطَّلة تمام التعطيل.

أمّا الفيلسوف الإيطالي سيرجيو بنيفينتو، فتحدّث عن أنّ الذعر الذي أصاب بلاده كان في الأساس خياراً سياسيّاً، “لأنّه في عصرٍ تُنتِج فيه الديمقراطيّات العظيمة “قيادات بشعة”، فإنّ المُنظّمات الدوليّة مثل “منظّمة الصحّة العالَميّة” تتّخذ قرارات من شأنها تصحيح نزوات الفاشيّة وديمقراطيّات اليوم”.

وأَردف يتساءل بما ملخّصه أنّه كيف لكارتيلاتٍ ماليّة ترتبط بنظيرات لها في الخارج، وليس في جعبة الجميع حاضراً هنا إلّا سطوة المال وبقوّة صفيقة ومُنفِّرة، أن تُنتِج ما يفيد الغالبيّة العظمى من الناس في بلدها، وأن تعمل سراعاً على خلْق آليّات إنقاذ عِلميّة وعَمَليّة قادرة على وضْع حدٍّ، ولو جزئيّاً، لتسونامي الوباء الذي اجتاح إيطاليا من شمالها إلى جنوبها؟.. وهل لكارتيلاتٍ ماليّة جشعة وغافلة أن تنظر إلّا بعيون مُتفاجِئة لكلّ ما يجري من حولها وبعقولٍ لا تُنتِج إلّا شَللاً مُتناوباً؟؟.

ورأى الفيلسوف بنفيفنتو في المحصّلة أنّ استراتيجيّة مُواجَهة وباء كورونا بالخوف قد تكون أكثر حِكمة من التفكير الفلسفي، وربما أفضل طريقة لضَمان علاقاتٍ وديّة بين بني الشر.

ومن الفيلسوف الإيطالي بنفينيتو ننتقل إلى الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك الذي يصفه عشّاق الفلسفة في الغرب بأنّه أخطر فيلسوف سياسي في الغرب. ومعروف عنه نزعته اليساريّة المُتطرّفة، ولكنْ من دون عنف. وميزة هذا الفيلسوف أنّه عاش ردحاً في الولايات المتّحدة مُدرِّساً في كبرى جامعاتها: كولومبيا، برينستون، شيكاغو، نيويورك، كاليفورنيا، مينيسوتا وغيرها، ما جَعلَه خبيراً مُباشراً و”حسيّاً” في بنى الرأسماليّة الأميركيّة وتطوّراتها وأحوالها كعنوانٍ لقاطرةِ الرأسماليّة العالَميّة برمّتها.

تكلَّم جيجيك وبأعلى صوته عن أنّ فيروس كورونا هو وحده الذي تمكّن من لَيّ ذراع المنظومة الرأسماليّة الفاجرة باحتكاراتها، والتي استطاعت أن تتعولَم على العَولَمة نفسها التي اخترعتها وتجذبها إلى ثقوبها السود. وأنّ كورونا ستَهزم الرأسماليّة بالضربات القاضية في كلّ الجولات اللّاحقة معها، وأنّ الرأسماليّة ستُسلِّم صاغرة لكورونا بمَوتها الزؤام. ويكفي كورونا أنّها جعلت الرأسماليّة حتّى الآن تنعزل في الإقامة الجبريّة، تمهيداً لصَوْغ عالَمٍ جديد بأركانٍ جديدة، ودائماً على قاعدة الاشتراكيّة بمَفهومها غير المزوّر بحسب تعبيره.

وتساءَل الفيلسوف السلوفيني من مقرّ إقامته الحاليّة في ليوبليانا عاصمة دولة سلوفينيا: ماذا سيحلّ بالعالَم إذا ما بقي الوباء على إيقاعه المُتسارِع مدّة سنة أو سنتَين أو أكثر من الآن؟

هنا يَقترح جيجيك في معرض الإجابة عن سؤاله هو، بأنْ تعالوا أيّها الأخصام جميعاً نعود إلى كلمة سواء في ما بيننا، ليس على مستوى توزيع الثروات، وإنجاز العدالة الاجتماعيّة، وحركة الإنتاج الفاعِل الخلّاق في سائر مَيادين العمل فقط، وإنّما في بناء عالَمٍ سعيد مُعافى، قوامه الإبداع المُتجدِّد الذي يكسر حلقات المَلل والتنميط الحياتي العامّ، إذ لدى الإنسان في هذا العالَم طموحات كبرى عليه أن يُنجزها.. وسيُنجزها بالتأكيد ذات يوم.

Optimized by Optimole