الكرد: أسئلة السياسة، تجاذبات ورهانات

الكرد: أسئلة السياسة، تجاذبات ورهانات
Spread the love

بقلم: د. عقيل سعيد محفوض —

الكردي اليوم أشبه بلاعب يقف أمام عجلة الحظ (Rota Fortunae)، ولكن خياراته “كلها” سيئة، وعليه أن يختار الأقل سوءاً بالنسبة له، وهو ما يمكن أن يكون أكثر سوءاً بالنسبة لكردي آخر، أو لشريك آخر، عربي أو تركي أو فارسي الخ
يقول أحمدي خاني وهو أحد كبار الشعراء الكرد في القرن الثامن عشر،
“لقد حار فكري في حكمة الله/ من جعل الكرد في هذه الدنيا/ محرومين محكومين مستعبدين بالجملة/ إنهم انتزعوا بالسيف بلاد الشهرة، وبالهمة انقادت لهم البلاد/ إنهم دروع لهؤلاء الفرس والترك من الجهات الأربع/ إن الطرفين، قد جعلا الكرد هدفاً لسهام القضاء، الموت/ لذلك فهم أشتات متفرقون، ودائمو العصيان والشقاق/ ولو كان لنا اتفاق… لدخل في طاعتنا الروم والعجم والعرب برمتهم”.
يستيعد الكرد كلمات الشاعر خاني كما لو أنها “تأصيل” لجانب مما يعانوه في عالم اليوم، فقد مرّ قطارُ “الدولنة” على المنطقة، وأعطى العربَ والترك والفرس دولاً أو أشباه دول، ولكن الكرد الذين حجزوا تذكرة في اتفاقية “سيفر” (1920) تأخروا باللحاق به، فأبعدتهم اتفاقية “لوزان” (1923)، ولم يحصلوا على شيء، بل أتبعتهم بدول غيرهم، وذهب “وعد سيفر” مع الريح.
وعلى الرغم من أن المسألة الكردية قديمة، إلا أن المعلومات والمدارك عنها لا تزال بسيطة وسطحية، ولم يغير فيها كثيراً تبدل الأحوال في العراق بعد 2003 وفي تركيا وسورية. وتبدو صعوبة التعرف على الكرد حتى لدى الباحث المتابع، ذلك أنها معقدة ومتداخلة كثيراً مع قضايا المنطقة والعالم.
اسم كردستان
كردستان هي كلمة مكونة من مقطعين الأول (كرد) وتعني البطل أو الشجاع، وهي تسمية لشعب آري، و(ستان) وتعني الأرض والسكن، وتعني التسمية بالتمام (أرض الكرد). وتدل على موطن الكرد وبلادهم.
ويعتقد مار أن أصل التسمية ربما يعود إلى تواردها مع الكلمة الأرمنية “كورت”، ذلك أن ثمة تشابهات في اللغة والمسميات والمصطلحات بين الأرمنية والكردية مثل كلمات: “كور-تجاي” التي تعني في الأرمنية “قبيلة” و”كور-دو” وتعني “جورجي” وهي قريبة من “كار-د” التي تعني “الجورجي والكاردوخي”.
ذكر المستشرق الروسي باسيل نيكيتين أن تسمية كردستان لم تظهر إلا في القرن الثاني عشر الميلادي، خلال حكم السلطان سنجر بن ملكشاه، آخر كبار ملوك السلاجقة، الذي أنشأ هذا الإقليم واتخذ من قلعة بهار شمال غرب همدان مركزاً له، وهو إقليم يضم إلى جانب همدان دوينور وكرمنشاه في شرق سلسلة جبال زاغروس، وولايات شهر زور وسنجار غربي هذه السلسلة. وكانت هذه المقاطعات، حتى القرن الثاني عشر، تعرف باسم “جبل الجزيرة” أو “ديار بكر”.
وأول مؤرخ ذكر اسم كردستان هو القزويني (القرن الرابع عشر) في كتابه “نزهة القلوب” عام (740) هجرية. وكان هذا الإقليم يجاور شرقاً العراق الأعجمي وشمالاً أذربيجان وغرباً العراق وجنوباً خوزستان، وكان يضم (16) قضاء إدارياً هي: آلاني، أليشتر، بهار، خفيتان، دربند زينكي، دزبيل، دينور، سلطان آباد، شهر زور، كرمنشاه، كرند وخوشان، كنكارو، ماهيد شيت، هرسين، وستام .
الأصل
تتحرك الكتابة التاريخية والانثروبولوجية في مجال ذي حدين، الأول أن الجماعة الكردية أصيلة تاريخياً أو ذات هوية مستقلة عن العرب والترك والفرس، وإن كانت لها صلات قربى بالفرس، وأن الكرد من أصول آرية هاجروا إلى مناطقهم الحالية (كردستان) قبل آلاف السنين. وأما الحد الثاني فيرى أن الجماعة الكردية هي تطور من تشكيل هجين من واحدة أو أكثر من الأصول أو الجماعات الأرمنية والفارسية والعربية والتركية، وأيضاً من تكوينات صغيرة من اليونانيين، الأرمن، إلخ
غير أن الكرد يميلون إلى تكوين مركب من الفرضيات السابقة، وهم لا يمانعون فرضيات التشكل الهجين أو الأصول المشتركة، على أن يكون التداخل والتشارك أو الهجنة أمراً لاحقاً، وبفعل التواصل والاحتكاك وليس بفعل التحول الإثني أو اللغوي، أو بمعنى آخر الإتباع والإلحاق بالأقوام الأخرى.
الجغرافيا
ذكر المستشرق أو المستكرد فلاديمير مينورسكي أن الكرد عاشوا ضمن أراضي فارس والقوقاز وإيران والعراق (لم يذكر سورية). وقد أشارت الكتابات التاريخية الإسلامية للمنطقة بأسماء عديدة مثل: كاردونياس، باقاردا، كارادوخان/ بختويخ. وفي فترة السيطرة الإسلامية حدثت تغيرات كثيرة طالت نظم القيم والثقافة والتسميات، ولكن التغير لم يكن شاملاً، وهو ما سمح ببقاء تسميات عديدة تشير إلى “كردية” المناطق والسكان مثل: كوردكوه، حصن الكرد، كوردكا. وأما العثمانيين فأطلقوا تسمية كردستان على منطقة ديرسيم وجوارها، ومنها امتدت إلى المناطق الأخرى.
وكانت تسمية كردستان شائعة بوضوح قبل أربعة قرون حتى إلغائها رسمياً في تركيا في بدايات القرن العشرين، ولكنها تستخدم رسمياً في إيران والعراق، فـ “كردستان” هو اسم محافظة في إيران تقع في جنوب غرب البلاد، وفي العراق يعرف دستور عام (1974) أقليم كردستان بأنه الإقليم الذي يضم أكثرية سكانه من الكرد الذين حددهم إحصاء عام (1957) ويضم مدن أربيل ودهوك والسليمانية. ويضيف الكرد مدينة كركوك وعدد من المناطق “المتنازع عليها” مع بغداد.
وقد أورد ب. نيكيتين قطعة شعرية ترسم نطاق كردستان الجغرافي نقلاً عن كتاب “شرفنامه” لـ الأمير شرفخان البدليسي الذي كتب بين عامي 1579 و1599 تقول:
“هل تريد أن تعرف أيها الكردي ما هي الأماكن التي يقطنها أقرباؤك؟ استمع إلي أذكرها لك، تمتد حدود كردستان غرباً إلى الإسكندرونة وجبال طوروس صوب البحر الأسود، وشمالاً إلى أردوهان وأراس، وشرقاُ من جبال الوند حتى أراس، وفي الجنوب من الأهواز حتى الفرات. إن الحدود الجنوبية تمتد إلى جبال حمرين وسنجار وطريق نصيبين”.
يتركز الكرد في المناطق الجبلية وتخومها القريبة في جنوب غرب آسيا المعروفة بجبال كردستان، وتتوزع جغرافيتهم البشرية في عدد من دول الشرق الأوسط (تركيا والعراق وإيران وسوريا، وإلى حد ما في لبنان) وأرمينيا وآسيا الوسطى.
ومن التحديدات العامة للمنطقة ما يورده البدليسي بقوله:
“تبدأ حدود بلاد الكرد (كردستان) من ساحل بحر هرمز (الخليج) المتفرع من المحيط على خط مستقيم ممدود من هناك إلى آخر ولايتي ملطية ومرعش فيكون الجانب الشمالي لهذا الخط ولايات: فارس، والعراق العجمي، وأذربيجان، وأرمينية الصغرى، وأرمينية الكبرى. ويقع في جنوبه العراق العربين وولايتا الموصل وديار بكر”.
تختلف التقديرات المساحية لجغرافيا كردستان، والواقع أن الكرد يميلون للمبالغة في المساحة، مثلما يميل غيرهم لتقليصها. وقد قدرنا حالة وسطاً على الرغم من ان المساحة المفترضة لا يقطنها الكرد فقط بل تشمل العرب والترك والفرس والأرمن والآشوريين والتركمان وغيرهم. كما أن الكثير من الكرد لا يقطنونها إذ هاجر عدد كبير منهم اخيارياً أو قسرياً إلى مناطق أخرى خارج كردستان. وتُقدَّر مساحتها بـ (409 – 500) ألف/ كم2.
السكان
تختلف تقديرات أعداد الجماعة الكردية من حيث العدد، بين ميل للمبالغة زيادةً فيه، وبين ميل للمبالغة تقليلاً منه. ولا توجد معطيات إحصائية يمكن الركون إليها. وأكثر التقديرات شيوعاً أو أكثرها وسطية تقدرهم بين (20 – 24) مليوناً حسب تقديرات إجمالية ومتعددة المصادر للفترة (1996 – 2000)، مع ميلنا للاعقاد بأن عددهم أكبر من ذلك. ومن الكرد من تَتَرَّكَ أو تَعَرَّبَ أو تَفَرَّسَ، طوعاً أو بفعل ما اعتبروه ضرورة الاندماج في الحياة والبحث عن مستقبل.
إنه من الصعب عزل السياسة عن التشكل السكاني أو الديمغرافي للجماعة الكردية، ذلك أن الهجرة من الأرياف والمدن الريفية كان ظاهرة عامة لا تخص الكرد فقط، بل كان يُحدث الكثير من الهجرات داخل الإقليم من العراق إلى تركيا وسورية إلخ وهكذا عندما كان المجال مفتوحاً قبل أن تتشكل الدول الحديثة في بدايات القرن العشرين. وهذه حكاية أخرى، للكرد صلة مؤكدة بها.
ولكن حركة الكرد لم تكن سكانية عددية فحسب بل كان لها تأثير هام على الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية، وبرز منهم اقتصاديون وساسة ومثقفون كباراً تركوا بصماتهم على تاريخ المدن والعواصم في دمشق وبغداد وأنقرة واسطنبول إلخ ولكن وجود الكرد الأكثر كثافةً كان لاحقاً على ذلك. ويبدو أن تزايد الكرد ككتلة سكانية في عدد من عواصم المنطقة أثار مخاوف النخب والسلطات منهم، ومن ثم تقلصت فرص مشاركتهم في الحياة العامة، السياسية على نحو خاص. هذا الموضوع يتطلب تقصياً من نوع مختلف.
ومن الطريف، أن مدينة مثل اسطنبول في تركيا هي أكبر مدينة كردية في العالم، هذه الإشارة التي يتكرر ذكرها في الدراسات الكردية، تنطوي على قدر كبير من الأهمية للإحالة على معاني الحركية السكانية والسياسات السكانية (أو الأمنية) المتبعة في الشرق الأوسط والتي تؤثر على الكرد وغير الكرد.
والواقع أن الكرد لم يكتفوا بالهجرة داخل الإقليم، الذي لأسباب كثيرة ضاق بأهله فانطلقوا إلى كل مكان في العالم منذ الهجرات الكبيرة، العربية خاصةً، إلى أمريكا اللاتينية وأوربا في بدايات القرن العشرين. ولكن ما يسم الهجرة الكردية أنها انطلقت بعد ذلك بسنوات أو عقود ومنذ ثمانينيات القرن العشرين أصبح وجود الكرد، بما هم كرد، ظاهرة بارزة في السياسة العالمية، وخاصةً مع تشكيلهم خزاناً بشرياً ومعنوياً للحركات الكردية في المنطقة.
لقد شكل الكرد في غرب ووسط أوربا وشمال أمريكا وروسيا جالية يتزايد وزنها السياسي وقدراتها الرمزية والمعنوية والإعلامية وتفاعلاتها الاجتماعية وتعاطف الرأي العام الأوربي معها ومع مطالبها السياسية والقومية، وهذا يعتبر عامل تأكيد للقومية الكردية في الإقليم وربما خزان دعم وتأييد لها في الخارج ووحدة اتصال مع العالم.
ويشكل الكرد تنويعاً مميزاً، بين جماعات قبلية وعشائرية، ولغات أو لهجات، ومذاهب دينية، وتكوينات قطاعية ومهنية وزعامية، ومنافسات وتبعيات إلخ وهذه السمة لم تكن مصدر إثراء، كما هو مفروض، بقدر ما كانت مصدر قلق أو تهديد لدى الجماعة الكردية، من حيث الانقسامية الذاتية، ومن حيث التحريض الخارجي للجماعات الكبيرة على الصغيرة أو العكس.
وكلا الجانبين كانا يؤديان إلى انشغال الجماعة الكردية بمنافسات وصراعات داخلية، واضطهاد الكردي للكردي المختلف عنه في واحدة أو أكثر من مكونات الوجود الاجتماعي كالروابط القرابية أو المذهبية أو اللغوية أو الجهوية أو القطاعية إلخ بما يحقق مصالح القوى الخارجية المخترِقة والمتدخِّلة في الشأن الكردي على مبدأ “فرِّق تسُد” أو على مبدأ استثمار الكرد لأغراض إيديولوجية أو غزوية إلخ
وليس للكرد تيار أو تكوين رئيس يطبع وجودهم العام، وهكذا ليس بينهم قبيلة تكون أكبر القبائل على الإطلاق وتؤثر على التكوينات القبلية الأخرى، وليس بينهم مذهب يطبع وجودهم الديني ويشكل سمة عامة، وليس بينهم لغة سائدة أو لها القابلية العامة للانتشار بينهم أكثر من اللهجات الأخرى إلخ
والكرد مسلمون سنة (أكثرهم على المذهب الشافعي) في تيارهم الرئيس إلى جانب تشكلات مذهبية إسلامية عديدة مثل الشيعة الإثني عشرية، والعلويين، وأهل الحق غيرهم، ومذاهب أخرى كـ الإيزيديين، وجماعة صغيرة من المسيحيين واليهود، ومدارس صوفية مختلفة.
الجبال
شهد موقع الجبال في الحياة الكردية تغيرات في الواقع أكثر مما بدى في الكتابة والفكر، ومن ذلك مثلاً أن الحركة الكردية المعاصرة، نشأت في المدن، وللمفارقة كانت مدناً غير كردية مثل اسطنبول وبغداد ودمشق، حيث كانت المنشورات الكردية الأولى والألفبائيات الكردية الأولى أيضاً، ومن ثم انتقلت من المدن التي كانت بؤرة التفكير والتنظير أو التأسيس إلى الريف والمدن الريفية، الجبال بصورة مباشرة، باعتبارها حيز التحرك والانطلاق العملي والميداني وخاصةً في البعد العسكري.
وعلى الرغم من أهمية وحساسية المقولة الكردية الشائعة “لا أصدقاء سوى الجبال”، إلا أن المجال البشري للأكراد لا يتوافق مع تلك المقولة، ذلك أن الانتشار والتوسع الديمغرافي للجماعة الكردية تخطى مركز وتخوم الإقليم الكردي المفترض وطال المجال المحيط وصولاً إلى مناطق العالم المختلفة (الشتات). ويمثل تركز الكرد في مدن مثل اسطنبول وبغداد ودمشق مؤشراً هاماً على ذلك.
الخريطة اللغوية
يتشكل البناء اللغوي للكرد من خريطة واسعة من اللغات واللهجات الكردية، بالإضافة إلى اللغات العربية والتركية والفارسية الخ والواقع أن خريطة أو موزاييك اللغات واللهجات واسع الطيف كردياً وإقليمياً بدرجة يصعب معها الحصر والتعيين.
ويعد التكوين اللهجي أحد إشكاليات الواقع الكردي الراهن، ذلك أنه يتفاوت قوة وتركيزاً بين منطقة وأخرى، وتتجاذبه اتجاهات متنازعة ونزاعة لتكوين هوية متميزة الخ من ثم لم يستطع الكرد الاستقرار ولا الاتفاق على لغة/لهجة واحدة.
اللهجات الشمالية:
– الكرمانجية (Kurmanji): وهي أيضاً الكرمانجية الشمالية، وتنتشر بين أكراد تركيا وسوريا والشتات (خارج الإقليم)؛ والكرمانجية الجنوبية تعرف في العراق بـ البهدينانية (Bahdini) وتنتشر في شمالي العراق وبعض مناطق شرق سورية، وفي كركوك وأجزاء من أربيل، وأيضاً في خراسان وشمال غرب إيران والقفقاس وجنوب تركمنستان. وقد تشتمل الكرمانجية على أكبر الكتلة السكانية أو البشرية، وأكثر النتاجات الكتابية في الثقافة الكردية، ما يجعلها أكثر اللهجات الكردية شيوعاً. ويتحدث بها حوالي (18) مليوناً أو ما يقارب نصف الكرد اليوم.
– الزازائية (Zaza) وهي بين أكراد تركيا وخاصةً في ديرسيم وأرزنكان وأجزاء من بينغول وديار بكر، وتشهد الزازائية تنازعاً متفاوت الشدة بين من يعد الزازائية إثنية متميزة بذاتها وبين من يعدها فرعاً من الهوية أو الإثنية الكردية، ولكن من المؤكد أن ثمة ميل يتزايد لدى الزازائيين للتعبير عن هوية أكثر تمايزاً عن الكردية العامة.
– مجموعة من اللهجات الفرعية مثل: الأدياماني (Adyamani) أو المرعشلي (Marashi)، البكراني (Bekraní)، البرجيندي (Bírjendí)، البوتاني (Botaní)، البيازيدي (Bayezídí)، الحكاري (Hekkarí)، الجوانشيري (Jiwanshírí)، الكوكاني (Qocaní)، السنجاري (Senjarí)، الأورفي (Urfí)، اليانكي (Yunekí) أو الجوديكاني (Judíkaní)، السورش/ج/ي (Surci)، وثمة لهجات فرعية أخرى لدى الجماعات الكردية في جبال البورز (Elburz).
– انتقلت اللهجات الكرمانجية الشمالية من هكاري إلى بهدينان (Badínan) إلى الموصل (Mosul) مقسمة كردستان إلى قسم شمالي دميلي (Dimilí) وقسم جنوبي هورامي (Hewramí) ويسمى أيضاً غوراني (Goraní). وبمرور الوقت أصبحت اللهجة الكرمانجية الشمالية هي السائدة في شمال وغرب “كردستان”.
اللهجات الجنوبية
تنتشر في جنوب كردستان، أي في العراق وإيران، مجموعات لغوية عديدة، بدءاً من شهريبان (Shehreban) إلى دنوير (Dínewer) وهمدان (Hemedan) وكرماشان (Kirmashan) وخانقين (Xanekin).
– السورانية (Sorani): وتنتشر بين الكرد في وسط العراق كما في السليمانية وأربيل وأجزاء من كركوك، وأيضاً في غرب إيران، ويتحدث بها حوالي (6) مليوناً. وتستخدم الألفبائية العربية المعدلة، وتعد أكثر اللغات أو اللهجات نضوجاً من حيث البناء اللغوي والقواعدي والمفردات والتراث الكتابي، وثمة من السوران من يعد السورانية بالنسبة للكرد بمثابة “لهجة قريش” بالنسبة للعربية.
– الفيلية (Feyli): هي لغة شفاهية بالأساس وليست كتابية، وإن كان ثمة اتجاهات بين الفيلية لمراجعة واقعهم اللغوي. وتنسب عموماً إلى شجرة اللغات الكردية، ولكنها تختلف عنها بدرجة كبيرة، وهي قريبة جداً إلى الفارسية، وفيها الكثير من العربية. وتنتشر بين الكرد الفيلية الذين يتوزعون في العراق ومناطق التخوم المشتركة مع إيران. وينزع الفيلية للتشكل بكيفية منفصلة نسبياً عن الخط الكردي العام مدفوعين بعوامل عديدة منها الفجوة السيكولوجية والذاكرة السلبية حول تجاربهم مع السلطات الكردية والعربية. والقصر شيرينية بين أكراد خانقين العراق وقصر شيرين إيران.
الفروع اللغوية الجنوبية (الأخرى) والجنوبية الشرقية:
الغورانية (Gurani) التي يتكلمها الكرد قرب بلوشستان (Baluchistdn) أو الهورامية (Hewrami) والموكرية (Mukri) والكلهورية (Kalhori) أو (Kelhirí)، والناكيلية (Nankilí)، والكيندولية (Kendúley)، والسنجابية (Senjabí)، والكاكائية (Kakayí) أو الدرغازيني (Dargazini)، والكرماشيني (Kirmashaní)، والباجيلانية (Bajelaní). والفروع الجنوبية الشرقية في إيران مثل السينئية (سنندج) والكرمنشاهية والليكية. وهي أكثر من لهجات وربما أقل قليلاً من لغات، ليس فقط في استخداماتها الراهنة وتداخلها مع اللغات الأخرى، وإنما أيضاً في أسسها اللغوية والقواعدية والبيانية.
كما أن العديد من المراكز الحضرية والمدن والبلدات الكردية في الجنوب (العراق وإيران) هي تكوينات اجتماعية ثنائية أو متعددة اللغات واللهجات، لجهة تنوع تلك التكوينات قبلياً وجهوياً ومذهبياً ولجهة التواصل متعدد اللهجات للجماعة نفسها. وهناك تقديرات بأن عدد المتكلمين باللهجات الجنوبية حوالي (1,5) مليوناً.
الواقع أن الديمغرافيا اللغوية (اللهجات) غير واضحة تماماً، كما لا تزال هناك بعض الجيوب أو التكوينات الكردية التي تتكلم اللهجة الغورانية الجنوبية في شمال كردستان (تركيا) كما في جوار هكاري (Hekkarí) وحتى الموصل في شمال العراق، الباجيلانيين (Bajelans) وحتى شمال بغداد.
إشكالية اللهجات
إذا نظرنا إلى البناء اللغوي للكرد في المنطقة والشتات، فإننا نخلص إلى واقع شديد التعقيد ومتداخل إلى حد يصعب معه القيام بتحديد واضح له:
1- أشكال لغوية تتفاوت قوة وتركيزاً بين منطقة وأخرى، جماعة وأخرى، وثمة لهجات أقرب ما تكون إلى تكوينات لغوية (أو لغات) منها إلى لهجات للغة واحدة.
2- جماعات لغوية أو لهجية تتجاذبها اتجاهات متنازعة بين أن تعد واقعها اللغوي أساساً لهوية متميزة أو مستقلة وربما تعبيراً عن أمة أو قومية (الخ)، وبين أن يكون ذلك الواقع نوعاً من تطور هامشي ولكنه قابل للاندماج مجدداً في هوية لغوية أكبر أو في الهوية الإثنية الأكبر.
يضم التكوين اللغوي للكرد “لهجات” أو “لغات” شفاهية، وكتابية، تكتب بألفبائية عربية معدلة أو لاتينية معدلة، وثمة اختلافات كثيرة ومميِّزَة فيما بينها، لدرجة تتطلب معها وجود ترجمانٍ بينها. وتبدو الحاجة للترجمة النصية للكتابات الموجودة فيها، مؤشراً ثقيل الحضور بالنسبة لأصحاب الإيديولوجية اللغوية القوموية، وواقعاً يصعب تجاوزه أو القفز فوقه أو مجرد تجاهله.
وقد تكون ترجمة الكتابات الكردية الرئيسة مثل شرفنامة للبدليسي المكتوب بالفارسية إلى اللهجات الكردية، وكذلك ترجمة مم وزين لـ أحمدي خاني التي كتبت أساساً بالبهدينانية إلى لهجات أو لغات كردية أخرى أمراً مقلقاً ومحرجاً إلى حد بعيد، وقد يؤكد ما لم يعد قابلاً للتجاهل أو النفي من أن الخريطة اللغوية متعددة بشكل موسع وتتجاوز بكيفية واضحة كونها لهجات أو تشكلات هامشية للغات كردية كبرى.
ربما كانت تسمية الكرد بالنسبة للبعض منهم “مظلة” سابقة أو راهنة أو “عنوان” قد يشبه قول الفرنسي وربما التركي مثلاً بأنه أوربي. وهذا التعريف متشدد أو قاسٍ نسبياً، إلا أنه يدل جزئياً على أن معنى الانتماء والهوية لدى الجماعات الكردية ليس مما يمكن القطع فيه.

تفريعات اللغة الكردية الحديثة

الكرد وقطار الدولة: شهود لا مشاركين

استفاقت المنطقة العربية والشرق الأوسط “على أصوات مدافع نابليون”، بتعبير ألبرت حوراني، ومنذئذ لم تتوقف المعارك والمواجهات التي يتوالد بعضها عن بعض، كما لو أن الحرب أو العنف هي قدر المنطقة. وقد مثلت الحربُ العالمية الأولى (1914-1918) المحركَ الرئيس لتاريخ الشرق الأوسط، إذ “حررته” من سكونية تاريخية ثقيلة، ولكن إكراهات الواقع، وديناميات الهيمنة الغربية نفسها، “أجهضت” المشروع النهضوي للعرب، والى حد ما الترك والفرس، وأما الكرد فقد اجتهد الجميع على إبقائهم “خارج المعادلة”، فيما دفع الأرمن والسريان ثمناً لمشروعهم الدولتي تمثل بإبادة وتهجير حوالي (2) مليوناً.
مضى قطار الدولة في المنطقة، ووضع العرب والفرس والترك في مقطورات/ دول أو أشباه دول، ولكنه لم يمر على الكرد. وكتب أحد الباحثين الكرد يقول: “المستعمِرون الذين كانوا يوزعون شهادات الميلاد لدول وكيانات من شتى الألوان احتاروا في أمر كردستان هذه. وفي نهاية الأمر قرروا أن يتركوا شانها للقدر وان يخففوا عن كاهل الشرق الأوسط عبء دولة كردية”.

يقول الكرد أنهم كانوا شهوداً على تاريخ الإقليم، مشاركين وضحايا، أدوات وموضوعات للسياسة، ولكن هل كانوا كذلك حقاً؟ وإذا كانوا كذلك، فهل واصلوا كونهم مشاركين إلى لحظة التكوين الدولتي الحديث فغفلوا عنه؟ وهل من يفسر ذلك بغير الخديعة والتآمر؟
يرى المؤرخ الكردي كمال مظهر أحمد أن الكرد كانوا حاضرين بقوة في سياسات الإقليم وأن ذكر الكرد في معاهدة سيفر (10 آب/أغسطس 1920) لم يكن اعتطباطاً، ومع ذلك لم تتأسس دولة لهم، علماً أن هنالك شعوب أخرى في المنطقة لم يرد ذكرها في المعاهدة “والآن هي دول”.
ويذهب الكاتب الكردي نزار آغري مذهباً مختلفاً يقول: “بقي الكرد طويلاً خارج التاريخ. ظلوا على هامشه، يحاولون، من حين لآخر، طرق أبوابه من دون جدوى. ففي كل مرة كانوا يردون على أعقابهم. .. إن كردستان لم تظهر قط إلى الوجود، وبقيت حتى الآن طموحاً للتحقق. وبقي مصير الكرد وحياتهم وأملاكهم ومواردهم في أيدي الآخرين، يسيرون شؤونهم بطرقهم الخاصة”.
يضيف كمال مظهر احمد “قدر الكورد كان انه في هذه الأثناء انتصرت ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، أقول دائماً هذا القول و أنا مقتنع به و على أسس علمية و استنباط النتائج. ان ثورة أكتوبر الاشتراكية جلبت الخير لجميع شعوب المنطقة ما عدا الكورد مع الأسف الشديد و هم ما كانوا يريدون ذلك أبداً ولكن السياسة هي مصلحة، الاتحاد السوفيتي أصبحت لديه حدود مشتركة مع ايران لمسافة 2.500 كم حدود مشتركة مع الدولة العثمانية وتركيا فيما بعد لمسافة 700 كم … لذلك كان على الغرب وعلى الاتحاد السوفيتي كقطبين متناقضين ان يحسبوا الحساب لايران وان يحسبا الحساب لتركيا و الحركة الكمالية اكثر مما يحسب الحساب للشعب الكوردي” .
إذا كان الكلام في عمومه صحيحاً، إلا أنه لا يفسر سبب بقاء الكرد على حالهم. ويبدو أن الأمر وثيق الصلة بعوامل ذاتية وتاريخية خاصة بالكرد أنفسهم أكثر منها عوامل موضوعية أو غيرية. ومن ذلك مثلاً أن التجربة الدولتية غير واضحة في الذاكرة الكردية والإقليمية، وحتى التشكلات السياسية من إمارات وإقطاعات ليست محددة المعنى في جانبها السيادي والقومي فيما إذا كانت مؤسسة على معطى قومي أم معطى زعامي أو عائلي أو مشيخي أو إقطاعي أو زباني. كما أن التكوين الاجتماعي والثقافي والجغرافي وغيرها عوامل تحدد الوجود الكردي المعاصر بـ “اللادولة”. وفيما يخص الذاكرة التاريخية فإن “التاريخ لم يدون في سجلاته قط اسم دولة كردية مستقلة. ولا ينفعهم كثيراً تشبثهم بجذور تاريخية قديمة والانجرار وراء حضارات غابرة ظهرت على أرض كردستان… ويذكر ويليام إيغلتون مؤلف كتاب جمهورية مهاباد الكردية أن قاضي محمد، مؤسس الجمهورية، قضى أشهراً طويلة مع رفاقه محاولاً العثور على مستند يبرر مسعاهم الدولاني” .
خاض الكرد في القرن العشرين تجارب كفاح سياسي وعسكري لهذا الهدف، وثاروا من أجل تحقيق الكيانية السياسية (18) مرة في تركيا وحدها خلال حكم مصطفى كمال/أتاتورك وحده. وكانت بعد ذلك جمهورية مهاباد (1946/1947) برئاسة القاضي محمد (1901-1947) وحركة سعيد بيران (1865-1925) عام (1925) وثورة ديرسيم (1936) ومصطفى البرازاني (1903-1979) وعبد الرحمن قاسملو (1930 – 1989) وعبد الله أوجلان (1949 – ) وغيرها… تجارب قاسية وعميقة التأثير. وخاض الأخير منذ العام (1984) أطول وأعنف كفاح مسلح في التاريخ المعاصر للمنطقة.
وإذا كان بعض الكتابات يعيذ المطالب الكردية بالدولة (أو ما يشبهها) إلى ما قبل الانهيار العثماني فهذا قول بحاجة للمراجعة ويتطلب المزيد من التفحص، ذلك أن أقصى ما كان أو ما طولب به آنذاك هو تكوين إماري عشائري وليس قومي أو إثني. ولعل هذا الكلام يأتي في سياق مراجعة الماضي والبحث عن أي مؤشر يمكن “تأويله قومياً” وهذا ديدن الحركات القومية المتحمسة.
إن الطبيعة الجغرافية الوعرة والقاسية فضلاً عن الموقع الذي يتوسط تاريخياً عدداً من الإمبراطوريات التي ضغطت عليهم لإخضاعهم أو لاستخدمتهم كـ “مناطق عزل” و”تخوم حرب”، والتكوين القبلي والعشائري المتنافر، وصعوبة التواصل الاجتماعي، والتداخل الملتبس (البنَّاء أحياناً) بين الديني والثقافي، وغياب ناظم سيادي يسهل التواصل البيني، والذهنية الغزوية والصراع الذاتي، وآلية الاختراق الخارجي إلخ كلها عوامل (ذاتية) تشاركت موضوعياً مع البيئة الإقليمية والعالمية لتمنع الكرد من التشكل دولتياً.

سؤال السياسة، سؤال الدولة

وهكذا يبرز السؤال: لماذا لم تستطع الثورات والحركات الكردية منذ بدايات القرن العشرين، على تعددها واستمرارها وتضحياتها، تحقيق هدف الدولة كلياً أو جزئياً؟ بمعنى آخر، لماذا يتناقض حال الكرد بين حركية سياسية نشطة ومتواصلة وبين عجز عن تحقيق الأهداف وانكفاء دائم إلى “نقطة الصفر”؟
أدرك الكرد أدركوا أنهم فوَّتُوا فرصة الدولة بسبب الغفلة أو التآمر أو العجز إلخ والواقع أن إصرار الكرد على الدولة يعبر عن “روح هيجلية” بمعنى ما، وكما أن الدولة هي “كمال المعقولية” لدى هيجل، فهي غاية العمل السياسي لدى الكرد، أو ذروة الانجاز القومي والعقلانية الكردية. وهنا يصبح سؤال النهضة وسؤال السياسة هو سؤال الدولة.
يركز الكرد في إجاباتهم على التفسير التآمري والاغتصابي وإلقاء عبء الإخفاق على الآخر، ويتجاهلون عدداً من القضايا المُلحّة ويسكتون عن أسئلة أساسية، أو أنهم يواجهونها بحساسية وسلبية زائدة، وخاصةً ما يتعلق بالتشكل القومي، أي هل الكرد أمة، هل هم قومية؟، أو ما يتعلق بالجغرافيا، أي هل جغرافيا كردستان واقعية أم متخيلة؟، أو ما يتعلق بالاجتماع أي هل يشكل الكرد مجتمعاً أم تكوينات اجتماعية؟ أو السياسة أي هل يمكن إقامة دولة/ دول كردية أم تكوينات سياسية في دول تواجدهم الراهن؟ أو القدرة على توليد أو تكوين خطاب سياسي جمعي قادر على الحشد الاجتماعي وتأمين الموارد المادية والمعنوية والاتجاه في مسار التكوين السيادي؟

المفاضلة الكردية بعد 100 على سايكس-بيكو
بعد 100 عام على اتفاقات سايكس-بيكو (1916) التي قسمت المنطقة بين الدول الاستعمارية، وأقامت بدورها دولاً أو أشبه دول، وقبيل 100 عام على اتفاقية سيفر (1920)، تبدو منطقة الشرق الأوسط قريبة من إعادة رسم خرائطها وحدودها، وما يعده العرب والترك والفرس خطراً، يعده الكرد فرصة، ولربما أمكنهم تفكيك “متلازمة لوزان” (1923) التي قضت على “وعد سيفر” بدولة للكرد على جزء من جغرافيا “كردستان”.
يقف الكردُ منذ بدء الأزمة السورية (آذار/مارس 2011) في حالة “مفاضلة” أو “موازنة” دائمة، من الموقف من الحكومة – المعارضة، إلى “مفاضلة” الكثيرين منهم تجاه قوتي جذب كرديتين رئيستين، هما أربيل (مسعود البرزاني) وقنديل (عبدالله أوجلان)، وصولاً إلى “مفاضلة” العلاقة مع كل من روسيا والولايات المتحدة، وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا، حيث العداء من جهة، والتواصل الدائم من جهة أخرى.
اعتقد الكرد أن بإمكانهم أن يكونوا حلفاء جيدين لأطراف متنافسة أو متصارعة في المنطقة، روسيا وإيران من جهة، والولايات المتحدة ودول أوربية من جهة أخرى، وطالما أن الجميع يريد كسبهم إلى جانبه، فهذا يعني أن بإمكانهم “المفاضلة” بين مختلف الأطراف، وخاصة موسكو – واشنطن. وقد حققت الفواعل الكردية مكاسب كبيرة، وكان من أهمها، “تفهم” دولي متزايد لوضع الكرد في المنطقة، ثم “اعتراف” دولي بهم كقوة يمكن الاعتماد عليها في “الحرب ضد الإرهاب” في سورية والعراق.
بمرور الوقت، وجد الكرد صعوبات في التحالف مع أطراف متصارعة، وقد أظهروا ميلاً متزايداً للولايات المتحدة، مبتعدين بالقدر نفسه عن روسيا. ومع عودة العلاقات بين أنقرة وموسكو، والتراسل المستمر بين تركيا وإيران، وما يقال عن اتصالات استخباراتية بين أنقرة ودمشق، زادت مخاوف القوى الكردية من حصول تحول في المشهد السوري والإقليمي والدولي، قد لا يكون في مصلحتها، فأصبحت أكثر استعداداً لتلقي ما تريده واشنطن.
أحد أهم رهانات الكرد اليوم، هو محاولة الحصول على “جغرافيا مُؤسِّسَة” بالنسبة لكرد سورية (وكرد تركيا)، وتحويل تلك الجغرافية إلى “دولة” بالنسبة لكرد العراق. وتدرك القيادات الكردية أن ليس ثمة جغرافية خاصة بالكرد في سورية، ذلك أن العرب والترك والشركس والأرمن وغيرهم يشاركونهم الجغرافيا، وهذا ينسحب على أجزاء كبيرة نسبياً من “كردستان تركيا”، إذ ثمة فواصل جغرافية واسعة بين “مناطق الكرد”، كما توجد فواصل إثنية عربية مثلاً على امتداد 130كم بين كانتوني الجزيرة وعين العرب (كوباني)، أهمها مدينة “تل أبيض”، ويفصل بين عين العرب وعفرين جغرافية كبيرة نسبياً من المدن والبلدات والقرى العربية.
أثار التحدي الجغرافي استجابات إيديولوجية عديدة ركزت حول “التواصل الجغرافي” للكرد، وأن ثمة احتمالين رئيسين يسيران بشكل متوازٍ، الأول هو الوصل عن طريق الإيديولوجيا إلى “جغرافية متخيلة”، وإلقاء مسؤولية الانقطاع (الجغرافي) على السياسات الحكومية والدولتية؛ والثاني هو هندسة تكوين جغرافية متصلة من خلال العمل السياسي والعسكرين كما فعلوا بالسيطرة على مدينة “تل أبيض” السورية وكركوك العراقية.
وهكذا يبرز تحديان أو رهانان، الأول لـ “التأسيس” وهو جغرافيا كردية أو ذات أكثرية كردية، والثاني لـ “التمكين” وهو جغرافيا سوريّة وعراقية فيها مكونات كردية. وهكذا فقد أعلن كرد سورية -كما سبقت الإشارة- ضم مناطق “تل أبيض” السورية لسيطرتهم، وأعلن كرد العراق كردية كركوك قبل الاستيلاء عليها، ويتحدثون عن الموصل أو أجزاء منها بوصفها كردية.
يبدو أن كرد المنطقة أقرب للتحالف الولايات المتحدة بوصفه أقرب السبل للتغلب على تحديات الوجود الكردي المعاصر، ولو أن قرارهم لم يكن مطمئناً، بل كان أقرب للرهان على متغيرات الحرب والمنطقة والعالم، أكثر منه قراراً يقينياً.
الولايات المتحدة قامت بمفاضلة أيضاً، بين كرد سورية وتركيا، ولكنها مفاضلة بقصد الترجيح النسبي والتسكين المؤقت، أي ترجيح دعم القوات الكردية ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلها قوة تهدد تركيا، والتسكين المؤقت لهواجس تركيا من خلال تقديم ضمانات بضبط اندفاعة كرد سورية. وليس ثمة مؤشرات جدية على أن واشنطن قامت بمراجعة للموقف من الكرد في سورية والمنطقة، وأنها تقيم تفاعلاتها معهم انطلاقاً من تقييم مختلف للموضوع الكردي، أو انطلاقاً من قناعات وأولويات كردية!
وقد أصبحت “قوات سورية الديمقراطية” مثلاً بمثابة “قوات برية” للتحالف في سورية، مدعومة بقواعد عسكرية ومراكز تدريب ومطارات للحوامات، ونظم اتصال ودعم وإسناد، وتصرفت القوات الكردية في العراق بوصفها كذلك، حتى أن الإعلان عن عملياتها كان يتم أحياناً من قبل وزارة الدفاع الأمريكية.
اعتبرت الفواعل الكردية أن الفرصة سانحة للسيطرة على “جغرافية مركزية” أو “مؤسسة” في الحسكة أو الجزيرة، تكون أساساً لكيانيتها المأمولة، وتصرفت على قولة الشاعر، “إذا هبّت رياحُك فاغتنمها”. ولأن لدى الكرد سيرة أو سردية إخفاق تاريخي لطموحاتهم الكيانية أو الدولتية، فقد وجدوا أن اللحظة مناسبة للإسراع والإمساك بـ “الفرصة”، والاستيلاء على الحسكة، وإلا فإن ثمة مخاطر ماثلة أو وشيكة تهدد مشروعهم الكياني، وخاصة أن “تفهم” بعض الفواعل الدوليين لهواجسهم، قد لا يستمر طويلاً.
وهكذا فقد كان الاحتكاك في سورية بين قوات الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وقوات الدفاع الوطني في شهر آب/أغسطس 2012 “فرصة” لمراجعة التفاهمات بين الطرفين، وربما كانت مراجعة بقصد نقضها وليس تعديلها. تقدمت الفواعل الكردية خلال اجتماعها مع محافظ الحسكة، بورقة تتضمن (11) بنداً منها بل أهمها: “الاعتراف بالفيدرالية الكردية مقابل تقديم ضمانات بعدم الانفصال، وبالحفاظ على المقرات الحكومية السورية وتسيير شؤون المدينة”.
هذا يُذَكِّر بما أَقدم عليه رئيس الإقليم الكردي في شمال العراق مسعود البرزاني بعد صدمة استيلاء تنظيم “داعش” على الموصل، إذ وجدها “فرصة سانحة” للسيطرة على كركوك، ولم يركز كثيراً على “المخاطر الماثلة” من قبل تنظيم “داعش” نفسه على الكرد، كما لم يهتم برد فعل بغداد والتداعيات المحتملة لقراره على مستقبل العلاقات معها. وقد كان من المفترض أن يعزز دفاعات الإقليم، إن لم يهتم كثيراً بالدفاع عن الدولة المركزية التي هو جزء منها. وها هو يساوم على تقسيم نينوى مقابل ان يشارك بغداد في الحشد ضد “داعش”، وقد مرر قوات تركية عبر الإقليم لتتموضع في قاعدة “بعشيقة” شمال الموصل، ضد إرادة الحكومة المركزية في بغداد.
لابد من الإشارة إلى أن مدارك الكرد في سورية وتركيا والعراق حول الأزمة السورية لعبت دوراً كبيراً في سياساتهم، ذلك أن الشعور بأن الأزمة يمكن أن تفضي إلى تقسيم سورية، ربما عزز من النزعة الجغرافية والكيانية لدى الكرد، وإذا لم يحصل التقسيم، فإن اتساع نطاق السيطرة يعطي الكرد ميزة أو وزناً نسبياً أكبر في مفاوضات التسوية وإعادة بناء الدولة في سورية، وصولاً إلى تمكين كرد العراق من إعلان الدولة، وكرد تركيا من تحقيق مكاسب كيانية بعد طول صراع ومفاوضات.

Optimized by Optimole