غواية المشهد الأخير

الكاتبة السورية غنوة فضة
Spread the love

 

بقلم: غنوة فضة*

في الكتابة، كغيرها، تحيا أعمالٌ وتزول أخرى في عالمٍ قوامه الهشاشة والفراغ. تترسخ مواقف وتنمو مشاهد، لتحجزَ مكانها الثابت في ذواكر القراء. يخلدُ بعض الأبطال، تصنعهم أمجاد كتّابهم، وما يبقى، نسترجعهُ عبر قصص الماضي وحكاياته. قليلٌ يصمد، ما خلا صور تتسلل إلى شِباك الواقع، تُستعادُ كما لو أنها حقيقة. يُمزج الواقع بالحلم عبر نصوصٍ حطمت السائد والمعمم، فاستقرت في الوعي عصيّة على الزوال. هناك، في ذلك الركن المعتم، تحيا أمجاد أخيل، ينزلق مفيد الوحش نحو موته، وتتمايل وردة الهاني في حسراتها. تضرب كارنينا رأسها بالجدران كلما حل المساء، إلى جانب أميرة تلهج بالقص والحكي هلعاً من موت محتوم. نهاياتٌ محكمة، قلة تختم الذاكرة بختم الأبدية، وتمهر الذائقة بصلصال المتون والعناوين. وعند اكتمال التشييد، بُثّتِ الروح فيها عبر مشهد واحد، مشهد لا ينسى، يحتفي به من اتخذ القراءة حرفة، واعتمدها لالتقاط نفائس القصص التي تمنح الذاكرة ما تشاء وتوارب عما تشاء.

في روايته “حفلة التيس” يمنح الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا (1936) بطلته أورانيا مشهداً يتفوق على الزمن. يهدم بساطة القارئ العادي بصورة غير نمطية، فبعيداً عن رواية الطغيان وتأليه البشر، ودون أن نتحدث عن مثالب الولاءات العمياء وهجاء السياسات التي تسلب البسطاء أحلامهم، فقد شيد يوسا مشهده الأخير بطريقة تدير الرأس، وتوقف القارئ، حين تعود أورانيا (الطفلة- المرأة) بعد سنوات طويلة للانتقام من والدها وزير الديكتاتور الدومينيكاني “تروخييو”. نلتقط عمق المشهد وبراعته، بعرضٍ انتقامي مضنٍ، لطفلة لم تتجاوز الثانية عشرة سلّم والدها جسدها لإرضاء سيده. مشهدٌ غارق في الوحل، لكنه يشكل أبعد ما يمكن أن تصل إليه النفس البشرية من ضمور وتهتك، لقاء أخرى تحيا الانشطار والتيه بين عقاب الأب العاجز، ولهفة النجاة من كوابيس ليلة سوداء. تتكدس الرواية عبر ذلك المشهد، يتكثف النص في لحظة ألم متفجرة، عاكساً سنوات مظلمة لعوالم الطفلة الهاربة، ليضافَ إلى سجلات كتابةٍ قدّمت الأدب بوصفه الشيء الوحيد القادر على المساس بأبعد نقطة داكنة في النفس البشرية.

وبمعزل عن مصائر الأفراد في الحروب، فما عرضه الكاتب الروماني قسطنطين فيرجيل جورجيو ( 1916-1992) في رائعته الساعة الخامسة والعشرون، يكاد يشبه شبكة هائلة من التفاصيل الدقيقة، متاهة من مشاهد حية، فالقارئ هنا أمام أحداث لا تتركه وشأنه، بل يغيب في سيلٍ من التراجيديات. حربٌ مهولة، وقسوةٌ توصف بما لم تستطع أقلام كثيرة قطع المسافة التي اجتازتها. فالكائن البشري هنا طريدة في قفص، ضمن حيز مكاني لم يختره، كما لم يختر اسمه وساعة ميلاده وموته. وبعيداً عن الأرياف والمصانع ومعسكرات الاعتقال، وخلافاً للحديث عن مصير بطل الملحمة “يوهان موريتز”، فقد نظم الكاتب مشهداً ختامياً جنائزياً، بتحويله الانتحار إلى صرخة بوجه العالم؛ الانتحار بوصفه النجاة الأخيرة، والإمكانية الوحيدة لممارسة حريته عبره. فالشاعر تريان كوروغا يخلص بعد سنوات الاعتقال لحقيقة أن ما من شيء منحه الحياةَ كنظارتيه، يصنع فيرجيل مشهداً يدفع للتساؤل عما يمكن أن تفعله نظارتان لسجين؟ لصالح مساءلة أخرى تفتش عن مصائر أصحاب الحس الجمالي في الحروب. يتخلى الشاعر عنهما كمن يلفظ آخر أنفاس حياته، فبهما رأى زوجته، وكتب الشعر. شاهد اللوحات والتماثيل، وراقب السماء والبحار والجبال، شهد قارة بأكملها وهي تنهار، لتتحولا لشيء عجائبي يضاهي البصر، يدفعه للسخرية من ملازمتهما له طيلة سنوات اعتقاله، إلا أن المشهد يتخطى مأساويته بتخلّيهِ عنهما، وسيرهِ نحو منطقة الموت بمشهد استسلامي يختم الرواية، ويبرهن على حقيقة أن الإنسان لا يتعدى كونه رقماً عندما تزدحم النوائب والحروب.

كذلك الأمر في رائعتها الفجائعية “إله الأشياء الصغيرة”، ترينا الكاتبة الهندية أروندهاتي روي(1961) العالمَ كما لو أننا نراه للمرة الأولى، لكن من زاوية النساء وساكني طبقاتهِ الدنيا. ففي أحد أعمق مشاهدها الختامية، يتساءل فليوثا الخادم ال parvan عما هو أسوأ مما يعيشه، بينما تفجر آمو حرمان جسدها الأزلي في لحظات خاطفة. ترسم الخطيئة دربها في مشهد يُقبل فيه الخادم نحو سيدته! لتفرض البيولوجيا رقصتها، وتخط على الأحداث إيقاعاً يُفهمُ البطلين حقيقة أن وراء كل رعشة، هناك قدرٌ مساوٍ من الألم، وبمقدار ما يحتاجان بعضهما، فإن السماء تقيس قدرتهما على تحمل القادم. نلمس النهاية كبدايةٍ حين تمعن الكاتبة الإرتباطَ الوجداني بمشهدها، لتكشف قسوة الأوتاد حول جسديهما كشكلٍ عال من أشكال التمازج الواقعي بين الكاتب وأبطاله، ضمن جغرافيا حكمتها رائحة النهر، وقداسة الطبقة والدين والعادة. لكن الختام يمنح الغلبة للعطش، يخط الحب رعونته وهوسه باجتياز الحواجز ، ليزيح الخوفَ في لحظة دفع ثمنها: “حياتان وطفولة طفلين”. تضحك آمو وتبكي في آن معا، في وقفة بدت شبه أبدية رغم أنها لم تتجاوز خمس دقائق، دون أن يقال عبرها كلمة واحدة، وعلى حد تعبير الكاتبة في الختام: في حياة كهذهِ ما الذي يمكن أن يقال؟

وعبر المشاهد الختامية السابقة، نقرأ انتصاراً في خلق شخصيات من لحم ودم، لصالح منحها نهاياتٍ حازت على مقعدها في المخيلة. وجهت أفكارنا للتساؤل حيال منظورنا عن الحياة، بإخراجٍ احترافي، وخواتمَ أدت دورها المطلوب في استثارة القارئ، ومنحه لذة التجول في ما يربك واقعه، ويدفعه للتفاعل مع أدق تفاصيله.

*كاتبة وروائية سورية

 

Optimized by Optimole