دعد ديب تنعي زمن الهزائم في رواية “وَتترنّحُ الأرض”

Spread the love

بقلم: غنوة فضة* | حيث تبدأ الحكاية تنتهي، وعند نهاية سطرها الأخير تعود لتبدأ من جديد. هذا ما يتكشف للقارئ بعد أن يقلّب صفحات رواية “وَ تترنّح الأرض” للكاتبة السورية دعد ديب الصادرة عن دار التكوين 2019 .
روايةٌ تشبه عصرها، مثقلةٌ بالسوداوية والوجع الذي لا يتأتى من فراغٍ، بل من زمنٍ مشبعٍ بالهزائم، هزائم تعقبها هزائم، ولعنة مقيمةٍ مذ لعنت الآلهة الزيتون، فمحلت مواسمهُ. مذ فسدت ضمائر البشر، واسودّت قلوبهم، فصارت الأرض خراباً.
عن المجازر التي تجتاح العالم، عن تكرار مآسي رواندا وكمبوديا، عن العربيّ الموهوم بالغرب الحلم، الغرب الذي أباد كل الألوان على هذا الكوكب الشقي؛ صفر ناغازاكي، وحمر أميركا اللاتينية، وسود إفريقيا والحنطيّ في الشرق الأوسط، الغرب الذي ابتدع كل الأزمات وحلولها، ليجعل من نفسه المكان الأكثر راحة للحياة، لكن جوهره المتحضر المتطور، يقتاتُ على دماء ضحاياه.

عن الرواية :
ببراعةٍ، تتنقّل الكاتبة على ألسنة أبطال الرواية، فتراها تستخدم ضمير الأنا المتكلم، وتلج إلى دواخلهم. كلٌّ على حدة، ومن فصل إلى آخر تُسقط ذاتها على الشخصيات، فتلبس لبوسها وتنطق بسيرتها الذاتية، ورجعِها التاريخي، لتبقى الكاتبة خلف الستار، مثل إلهٍ كليّ الوجود، يحيط بكل شيء، ويحيك الأحداث من بعيد.
” – هل يقيم السيد ممدوح هنا؟
– نعم إنه … الواقفُ أمامكِ
-أنتَ ؟
-نعم أنا … من أنتِ؟”
من هنا، تبدأ الرواية وتنتهي، وما بين البداية والنهاية حكاية متلاحقة من الرحب والفقد والهجران، من النأي بين ممدوح وبارعة البطلين الأساسيين للرواية، حيث تبدأ الرواية وتتفصل عن محاورات فلسفية تجري بينهما بعد أن طال الفراق، وتغير وجه البلاد والعباد، بين بارعة التي تصرّ أن ترى اللون الأبيض الممتلئ من الكأس، وممدوح الخارج من زنزانة الحبس، والذي يشعر بالاغتراب في هذا الكوكب، مشبوباً بتطرف أرعن لمواجهة عالم مجنون.
بين بارعة، التي تتحدث عن قيمة العمل وشرف ثماره، وممدوح المفكر المثقف الخبير، الذي يتحدث باستعباد البشر واستعار عقولهم.

شخصيات الرواية :
يبدو ممدوح الشخصية الرئيسة في الرواية، المثقف الحرّ، الشاب المتحمس للعمل في حفر آبار النفط، يصطدم بداية بمافيات الفساد، فيسافر ويعود مخاطباً أخاً مسجى بلا ضريح أو شاهدة قبر، وحرباً شوهت في بلده القلوب والعقول، منادياً بحسرةٍ أمّاً رحلت مكلومةً، وحبيبةً شبه مفقودة.
اختلاف القيم، والتفكير، والزمان اللعوب، يفرق ممدوح عن بارعة، في سرد يتداخل فيه الزمان في المكان:
“كنتُ أظن أن الزمان قد توقف حيث افترقنا. لم أدرِ حينها عندما غادرتِ حياتي أني فقدتُ الألوان التي أرى فيها الكون”.
بارعة الفراشة التي بقي وهجها يحوم في بال ممدوح، يدفعها الفراق للزواج من ابن عمها الرجل الغني القادم من البعيد “مؤيد”، والذي يبدو في النهاية، رجلاً انتهازياً، خائناً، نفعياً بلا قيم أخلاقية، ويكاد يشبه من يسميهم الناس، أبناء عصرهم.
لتتكشف الشخصيات، وتتسع دائرة ظهورها واحدة تلو الأخرى، من زبيدة، سيدة اللعبة، الهاربة من القاع والفقر، امرأة نسيت مفاهيم الأخلاق، والشرف، والأمانة، تعتبرها كذبة المجتمع على الضعفاء ليبقوا على ضعفهم، امرأة زمانها التي تلعب على وتر جمالها، وعلاقاتها مع كبار المسؤولين، تغري محمود، الموظف البسيط الذي يعاني عقدة نقص وجودية، مكبلاً بأعراف الدين وشعائرهِ. إلا أنه يرمي قيمه وعائلته إلى أحضان زبيدة غير عالم بالمكائد التي دبرتها له بعد توقيعه على صفقات غربية، فتودعه السجن، ليس محمود فقط، بل هو وممدوح ورئيسهم في العمل، حاتم الذي يقع في شرك زبيدة اللعوب.
ينتهي الفصل الأخير من الرواية، بالتقاء ممدوح بزبيدة في باريس، بعد أن تغويه إليها، إلا أنه يوصل إليها ما أراد منه حاتم إيصاله، ويعود هائماً لرائحة حبيبة ألِفها مذ كان صبياً يحبو، إلى وطنه الذي لفظهُ، ولم تتسع الأمكنة فيه لقلبه النقي، وروحه الطفلة التي لا تزال تحلم بحساء أمه الدافئ.
يهرب من الأصدقاء، والأقارب، والجيران، ليُطرق بابه ذات يوم بعد أن شاب العمر، وتغير فيه ما تغير، وتسأله الطارقة:
-هل يقيم السيد ممدوح هنا..؟

النهاية:
رواية عن اختلال القيم والمعايير الأخلاقية، تحوي عوالم تاريخية وسياسية، فيها من الأدب والتاريخ والميثولوجيا، وتندب عالماً يهتز ويترنح تحت وطأة المادية والنفعية، ويسير بسكانه المهووسين نحو الخراب.

*غنوة فضة روائية سورية.

غنوة فضة