أطياف

أطياف
Spread the love

بقلم: غنوة فضة* —

كانَ يتململُ ضجِرَاً ، ربَّما من ضيق المكانِ ، حينَ سأَلَهَا باستفهامٍ : أَسمعتِ ؟
المرأةُ : لا .
الرجل : حسناً .. اسمعي .
( صوتٌ قادمٌ من بعيد .. وقعُ أقدامٍ تقترب ) .
بصوتٍ أجوفَ عميق ؛ سألَتْ: هل عادوا ؟
الرجل : أظنُّ ذلك .
المرأة : يا إلهي عادُوا ! قلبي ينتفضُ من محجرهِ مثلَ أرنبةٍ مذعورة .
الرجل : هدِّئي من روعكِ , أرهفِي السَّمع , أصغِي , ها هُم يقتربون !
المرأة : يا ربُّ , إنَّهُ الشّوقٌ , شوقٌ من بعد لهفةٍ , شوقٌ يدهمني من كلِّ الجهات . من السماء . من الأرض , من اليمين و الشمال . شوقٌ يزخُّني مثل عرقٍ باردٍ . أخيراً وصلَ الخبرُ إليهم و قطعَ كلَّ هذي المسافاتِ البعيدة ؟
الرّجلُ ببرودٍ : الأخبار السَّيِّئةُ تصلُ قبلَ أصحابها .
المرأةُ : للهِ درُّ قلبكَ البارد . انظرْ . الأسى يلوحُ على وجوهِهِم , وآثارُ وقع الفجيعة تتقطَّرُ من عيونهمْ ، وَ تحفرُ أخاديدَ وجناتهم .
الرجل : لن تكونَ أشدَّ من وقعِهَا علينا .
المرأة : أنتَ كما أنت , ظلمتَهُمْ قبل الرحيل , وها أنتَ تظلمهُم بعدَه كما فعلَتْ بهم الحربُ و طحَنَتْهُمُ الغربةُ و الفقرُ الذي عجزنا عن انتشالهِم من بين براثنهِ ؛ لطالما ساءَكَ أن تراهمُ سعداء .
نفخَ الرجلُ باستسلامٍ وتمتم بخفوتٍ : النساء.. النساء .
ثم تابع بصوتٍ مرتفعٍ : أنَّى لنا السعادةَ بعد الذي حدث , أنى لنا الفرح بعدَ أن قامت القيامة في هذا البلد ؟ انظري .. إنّهُ جارنا البقّالُ يقاطِعُهُمْ , لعلَّهُ أتى هو الآخرُ ليزورَ ابنتَه ؟
المرأةُ: يا إلهي , وهل وقتهُ الآن ؟
قلبي يحترقُ و يتفحَّمُ مثلَ منجمٍ يعبقُ بالغازات . روحي تغرقُ بعودِ الشوق على بَدئِهِ . يا ربُّ , أخيراً عادوا , أخيراً سألقاهُم . أحبكَ يا ربي , أعبدكَ يا ربي . بعودتِهم أحبكَ أكثر , أباركك أكثر و من خلالهِم أراك في عليائِكَ و أسجدُ لعَظَمَتكَ .. هيا لن أنتظرَ أكثر .. . ساعدني .
الرجل : يا لانفعالاتِكِ المجنونة … إلى أين ؟
المرأةُ : هيا , ما عدتُ قادرةً على الانتظار , سأنهضُ إليهم , سأعانقُهُم , و أتشمّمُ ولو نقطةَ عطرٍ دُسَّت ما بين ضلوعِ ثيابهم .
الرجل : أمري لله.. هيا .
المرأة : انهضْ أنتَ ثم ساعدني . واحد , اثنان , ثلاثة , ويصطدمُ رأسيهما ببلاطة القبر !

*غنوة فضة كاتبة سورية.

غنوة فضة

Optimized by Optimole