عن “الرجال والبنادق” ذات تموز.. “يوميات مقاوم لم يذكُرِ اسمَه”

Spread the love

بقلم: د. طارق عبود |

الساعة تشير الى التاسعة صباح الأربعاء في الثاني عشر من تموز .. شرب قهوته، وانطلق لإجراء عملية صيانة للسيارة المتواضعة بعد مماطلة طويلة.. وصل الى الكاراج في “بئر السلاسل”، ترك مفاتيح السيارة بعهدة العمال، وجلس جانبًا تحت شجرة معمّرة، فتح رواية “عن الرجال والبنادق” لغسان كنفاني، وبدأ في قراءة النص الجميل، في نسختها التي كانت توزعها صحيفة السفير أول سبت من كل شهر في مشروع “كتاب في جريدة”. قرأ عددًا من الأوراق، فإذا بخبر عاجل يخرج من المذياع : المقاومة تأسر جنديين إسرائيليين في “خلّة وردة”. في هذه اللحظة كانت بداية حرب تموز من العام2006..
في تلك الأيام، تداخلت المشاعر والأحاسيس، والأصوات والوجوه.. صار النهار غير النهار، والليالي غير الليالي، وأوقاتُ القهوة وطعمُها استحال شيئًا آخر. خلعتِ السماءُ زرقتَها، واحتلتها كائناتٌ متوحشة كما في أفلام الخيال . ووقف الشجر مذهولًا من كل هذا الحقد والنار. مرت الأيام بطيئة وكئيبةً..
في اليوم السابع عند صلاة الظهر ، شعر أنّ الحارة قد انزاحت من مكانها، فتناثرت الحجارةُ وتوزعت على سطوح الجيران والشوارع، واستقر جزء منها على “صدورٍ من ألمنيوم” كانت نساء القرية يشمّسن رُبّ البندورة فوقها.. وأصابت شظاياها رأس “فابيو كانافارو” كابتن المنتخب الإيطالي الفائز بكأس العالم، وكادت أخرى تطيح بوجه فرانشيسكو توتي الجميل، في الصورة المعلقة على حائط احد مشجعي الطليان..
كانت تينةٌ تدّلتْ أثداؤها البيض، تنتظر بلا إملٍ، أنامل أصحابها، أو أحدًا من المارة، ليقطف ما حملته شهورًا طويلة. نظر نحوها فرأى دمعةً تُذرفُ من أحد الأكواز، وكأنه يستمهله للسؤال عما يحدث.. كان كل بضعة أمتار يتحسسِ رأسه ويديه ليتأكّد أنه ما زال حيًا..
كانت الطائرات ما زالت تزمجر في السماء، وتلقي حممَها فوق من بقي من الرؤوس والحقول والنوافذ الخضراء المشرعة.
مرَّ مرتبكًا بمحاذاة “مستوصف عامل” المقفل عنوة، واذا بزوج من الحمام الأبيض يفترشان الطريق مذبوحين بشظايا القنبلة الإسرائيلية الكبيرة..
أكمل طريقه ورفيقه، إلى مكان الإنفجار، ليقف بين الركام والدمار، وظهرت في المكان حفرة هائلة، فعلم أنّ حسام وهادي ورفاقهما قد ارتفعوا شهداء..
اليوم: الإثنين الرابع عشر من آب.
الساعة الثامنة الا خمس دقائق صباحًا. لم يستطع انتظار الدقائق المتبقية لموعد وقف إطلاق النار، ترك المكان، وتوجّه الى مدخل البلدة. كان نهار الأحد من أعنف الأيام واقساها، وأكثرها وحشةً. لم يترك الإسرائيليون خلالها دقيقة فراغ، من دون صبّ حقدهم فوق الرؤوس، حتى شعر الجميع أنّ القرية برمتها قد استوت مع الأرض، لتعود سيرتها الأولى.
الساعة الثامنة صباحًا تمامًا. يتلقى إتصالًا من زوجته لتسمع صوته، وتتأكد أنه لم يزل على قيد الحياة، ولم يرتفع مع الآخرين، لأنه في الأيام الأخيرة، لم يستطع أن يجري أي مكالمة مع أيٍّ كان..
نظر حوله، فإذا المكان غير المكان، وشعر للحظة، أنّ البيوت تنفض عن جدرانها غبار الحرب، وتمسح عن شرفاتها الخوف والحزن، واستوت واقفة متأهّبة تختنق بدموعها ولا تظهرها، لتكون في أحسن حال لاستقبال أهلها والمحبين.
أسرع الخطى متوجهًا لتفقّد بيته، وألقى السلام على كل منزل وشجرة مرّ بها، ولكنه بعد مسافة، شعر أن قدميه لا تستطيعان مجاراة ما يشعر به من عجلة وخوفٍ وفخر وعزّة.. كان يتخطى القنابل العنقودية، يمرّ بينها كأنه يمارس تدريبًا لكرة القدم على المراوغة. في تلك اللحظة شعر بنفسه حاسدًا طائر البلبل الذي كان يحلّق فوق شجيرات التين، ويتنقّل بينها، وودّ سؤاله عن بيتهم، إذا لم يزل واقفًا، أم أنه واسى كثيرًا من بيوت القرية، واستلقى مفترشًا الأرض، لكنّ البلبل المسكين أكمل دورانه غير آبهٍ بكل ما يجول في خاطره. تقدمّ البيوتَ واحدًا واحدًا، حتى صار على بعد خطوات قليلة من الحقيقة، وعندما اقترب أكثر، شعر بقواه توشك على الانهيار. وضع يديه على ركبتيه متوسلًا أن يعيناه على ما تبقى من خطوات، وهو في قرارة نفسه لا يريد الوصول، وتمنى أن يعود من حيث أتى. في تلك اللحظة احتشدت في رأسه الذكريات. تذكّر اليوم الأول الذي انتقلوا فيه الى البيت الصغير ذات ربيع من العام 1978، وكيف افترش وأهله بساطًا من الحصير الأصفر، تحيط به مساند القش، فشعر أنه سيغفو تلك الليلة بحضن الأميرة النائمة في قصرها العظيم.
لم يقتصر الأمر على القدمين، بل شعر أنّ قلبه قفز من مكانه، وبدأ يركض أمامه.حاول التقاطه، لكنه أفلت وسبقه الى رؤية المشهد. كان المبنى ما زال واقفًا على قدميه، فشعر أنه كبيرٌ جدًا، بحجمه وموقفه وثباته، وكبريائه، وكأنه يقول: لا تقلقْ، ما زلتُ كما تركتني، ولكنني فقط اشتقتُ لكم ولأطفالكم، وافتقدتكم . ولما علم المبنى أنه ينظر الى الطابق المحترق، قال: لا تقلق، بعض الألم والحروق لا تفسد الموقف.
عاد إدراجه إلى مدخل القرية، بعدما اطمأنّ الى المنزل، جلس على حافة الرصيف، يستقبل الأهل والأصدقاء وأبناء القرية الذين تقاسمَ معهم كثيرًا من مواسم الفرح والحزن، مع كل سيارة كانت تمرّ رافعة شارة النصر، كان يرتفع معها الى السماء محلّقًا مع طيور القرية ملقيًا التحية من علٍ، على كل بيت وحقلٍ وشجرة، ومقاومٍ شامخ ما زال مشغولًا بإخفاء ما تبقى، للقيام بواجبه للدفاع مرةً أخرى عن قريته وجنوبه، وعن الفقراء والطيبين من أهله..

*أستاذ جامعي وناقد أدبي لبناني.

Optimized by Optimole