هل لا تزال أوروبا بحاجة للغاز الروسي؟

Spread the love

منذ ثماني سنوات، وتحديدًا منذ ابتلاع روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، وأوروبا تحاول إنهاء اعتماديتها على الغاز الروسي والطاقة الروسية بشكل عام، أو تقليلها قدر الإمكان. فالاتحاد الأوروبي يعتمد في 40% على الأقل من موارده على الغاز الروسي، بينما تعتمد بعض دوله على أكثر من ذلك، مثل ألمانيا التي تصل فيها نسبة الاعتماد على الغاز الروسي إلى نحو 65%.
لكن مع انطلاق الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022 بدأ الاتحاد الأوروبي في وضع خطط لتقليل الاعتماد على الطاقة الروسية بشكل عام، والغاز الروسي بشكل خاص، خصوصًا مع كون صادرات الغاز الروسية لأوروبا تصل قيمتها إلى 400 مليار دولار سنويًا، وهو ما يرى فيه الاتحاد الأوروبي تمويلًا لآلة الحرب الروسية الحالية في أوكرانيا.
وتعتمد الخطط الأوروبية على ثلاث نقاط رئيسة هي: تحسين كفاءة استخدام الطاقة، عن طريق اتباع آليات جديدة في المباني، على سبيل المثال، تسمح بتقليل الاعتماد على الطاقة في التدفئة عن طريق عزل هذه البنايات. والنقطة الثانية تتعلق بزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة والنظيفة. وأخيرًا إيجاد مصادر أخرى للطاقة بشكل عام، والغاز على وجه الخصوص، بعيدًا عن الغاز الروسي.
وفي سياق النقطة الثالثة من هذه الخطة يأتي توقيع الاتحاد الأوروبي في 15 يونيو (حزيران) 2022 لاتفاقية ثلاثية مع كل من مصر وإسرائيل، بهدف استيراد الغاز من إسرائيل، بعد نقله بأنابيب تربط ما بين إسرائيل وشواطئ مصر الشمالية على المتوسط، لتجري إسالته بعد ذلك وشحنه إلى جنوب أوروبا عبر المتوسط.

لماذا يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى الغاز الإسرائيلي؟
يحتاج الاتحاد الأوروبي ضمن سياسته الحالية، والتي لم تترك مجالًا لعلاقات طبيعية مع روسيا، إلى استيراد الغاز من أي مصدر آخر غير موسكو، كما أنه يحتاج لفعل ذلك في أقرب وقت، وخارج حدود أي قدرة روسيا على التأثير.
وترتبط بذلك مجموعة من المخاوف، أولها أن أوروبا لا تستطيع اليوم إنهاء الاعتماد بشكل كلي على الغاز الروسي، بل ارتفع شراؤها لهذا لغاز خلال العام 2022 عن الأعوام السابقة، سواء بسبب ازدياد الحاجة للغاز، أو خوفًا من انقطاعات مستقبلية عن طريق تخزين الفائض.
بل إن شركات أوروبية متعددة اضطرت للموافقة على شروط روسيا للدفع بالروبل، رغم اعتباره من طرف شركات أخرى بمثابة ابتزاز للمستوردين. ورغم رفض الدفع بالروبل على المستوى السياسي، لكن تلك الشركات لم يكن أمامها خيار آخر سوى الانصياع للمطالب الروسية، خصوصًا أن موسكو أثبتت جديتها بقطع الغاز عن بلغاريا وبولندا.
وفي مارس (آذار) 2022 صرح سعد شريدة الكعبي، وزير الطاقة القطري، بأنه لا أحد يستطيع تبديل روسيا حاليًا، وأن بلاده غير قادرة على تأمين الكميات التي تستوردها أوروبا من روسيا في الوقت الحالي من الغاز الروسي، بل لا أحد يستطيع ذلك. لذا كان من المهم للاتحاد الأوروبي أن يطرق جميع الأبواب المتاحة، لتخفيف الاعتماد على الغاز الروسي إن لم يكن بإمكانه إنهاء هذا الاعتماد بشكل كامل.
أما التخوف الثاني فهو ألا تنتظر روسيا أوروبا لتصبح قادرة على تخفيف اعتمادها على غازها بأي شكل، بل أن تبدأ بتقليل صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي. وهو ما حصل بالفعل خلال يونيو (حزيران) 2022، بسبب مشكلات تقنية، بحسب تبرير روسيا، بينما تتهمها أوروبا باختصارصادراتها من الطاقة، في ظل الحرب الجارية في أوكرانيا، وكذلك العقوبات الغربية على موسكو.
وأظهرت الأزمة الحالية سوء الاعتماد بشكل كبير على مورد واحد للطاقة، وخصوصًا حال وجود خلافات سياسية وإستراتيجية مع هذا الطرف، خصوصًا أن الجغرافيا تحكم اختيارات أوروبا في ما يخص استيراد الغاز. فهي لا تستطيع استيراده من أستراليا مثلًا، والتي تصدر 99% من غازها لآسيا، وذلك لأن روسيا هي الوجهة المنطقية للأوروبيين.
كما يبدو الخيار القطري – مثلًا – بعيدًا جغرافيًا، وربما صعب المنال بسبب العديد من المعوقات والصعوبات، بينما يصبح الغاز الإسرائيلي الأقرب، إذ يمتلك بالفعل نفاذية للبنية التحتية للطاقة في مصر، والتي تمتلك بدورها موانئ هي الأقرب للتصدير لأوروبا. ولذلك يصبح الاستيراد من إسرائيل مهمًا وعمليًا لأوروبا، فماذا عن الجهة المُصدِّرة من هذه المعادلة؟

واقع قطاع الطاقة الإسرائيلي
بحسب موقع وزارة الطاقة الإسرائيلية فإن الغاز اكتُشف لأول مرة في العام 1999، واستمرت اكتشافات الغاز قبالة شواطئ فلسطين المحتلة طوال السنوات التالية، حتى جرى اكتشاف حقلي «تمار» و«الليفياثان»، واللذين مكنا إسرائيل من امتلاك احتياطي تجاري يمكن تصديره للخارج.
لكن التصدير لم يبدأ إلا عام 2019 إذ عملت إسرائيل على الاستفادة من هذه الاحتياطات لتغطية حاجاتها أولًا، وللتصدير لكل من الأردن ومصر لاحقًا، إذ جرى توقيع اتفاقيتين منفصلتين مع كل من البلدين. تبلغ تكلفة استيراد الغاز الأردني عشرة مليارات دولار على مدار 15 عامًا، ومع مصر 20 مليار دولار لنفس الفترة.
وأخذت هذه الاتفاقات بعدًا سياسيًا أكثر منه اقتصاديًا، إذ كانت ضمن إستراتيجية أميركية لربط إسرائيل ودمجها بالاقتصادات العربية المجاورة، وجعل الدول العربية معتمدة على مستوردات الطاقة من إسرائيل، وتشبيك بنيتها التحتية بالبنية التحتية الإسرائيلية، بما في ذلك خط الغاز العربي الذي يربط مصر والأردن وسوريا ولبنان ببعضها.
وفي العام 2020 دخلت إحدى شركات الطاقة الأميركية الكبرى على الخط، إذ اشترت «شيفرون» الأميركية العملاقة، شركةً أميركيةً أخرى مسؤولة عن تشغيل الغاز الإسرائيلي، مما يسهم في تعزيز مصالح الولايات المتحدة الاميركية في المنطقة. كما كان من المهم جدًا للولايات المتحدة أن تتواجد إحدى شركاتها في سوق حقول الغاز المكتشفة حديثًا في شرق المتوسط، والتي اقتصرت قبل «شيفرون» على وجود متواضع في قبرص، لكن البعد السياسي لذلك كان أكثر أهمية.
تلعب اتفاقات الطاقة بين إسرائيل وكل من مصر والأردن في صالح إستراتيجية أميركا لتثبيت السلام على الأساس الاقتصادي. ووضعت الولايات المتحدة ضمن إستراتيجيتها أيضًا إمكانية استخدام الغاز الإسرائيلي مستقبلًا لتقليل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، لكن منْ المستفيد الأكبر من اتفاق الاتحاد الأوروبي مع مصر وإسرائيل؟

إسرائيل.. الفائز الأكبر في صفقة بدائل الغاز الروسي
في يناير (كانون الثاني) 2022، أي قبل شهر واحد من اندلاع الحرب في أوكرانيا، قررت الولايات المتحدة سحب دعمها لمشروع يربط المكتشفات الحديثة من الغاز في كل من قبرص وإسرائيل باليونان، وربما إيطاليا، بسبب الآثار البيئية للمشروع، ما وُصف حينها بـ«قتلٍ للمشروع». وجاء ذلك بعد انسحاب الاتحاد الأوروبي من دعم مشروع الربط بسبب تأثيراته البيئية أيضًا.
وكان مشروع الربط بين المكشتفات وأوروبا يتطلب سنوات من الانتظار والبناء والتطوير قبل نقل الغاز إلى أوروبا، في ظروف سلام طبيعية لا تحتاج فيه أوروبا للاستعجال. ولكن الظرف الحالي يتطلب إجراءات مختلفة أكثر استعجالًا لنقل الغاز للاتحاد الأوروبي.
ويرتبط مشروع خط الغاز بمشاريع سابقة ضمت كلًا من إسرائيل وقبرص واليونان معًا منذ العام 2016، وعقدت على أساسها اتفاقات مختلفة لإتمام الخط بحلول عام 2025. ولكن الولايات المتحدة رأت في مطلع العام الحالي أن مشروع خط الغاز غير مجدٍ اقتصاديًا ومضر بالبيئة، وسيأخذ وقتا طويلا واستثمارات مكلفة. وهو ما أدى لاستبعاد هذا الخيار في ظل الحاجة الأوروبية إليه. ويعدّ الخيار الثاني وهو شحن الغاز إلى أوروبا بعد إسالته في مصر، أكثر تكلفة، ومع ذلك ولأسباب سياسية لا تتعلق بالحسابات الاقتصادية، والجدوى، والربح والخسارة، توافق أوروبا اليوم مرغمة على هذا الخيار المكلف، لأنه يسمح ببدء نقل الغاز دون انتظار سنوات من بناء البنية التحتية، رغم أن رفع حجم هذه الشحنات سيحتاج سنوات من الآن.
وبالنسبة لأوروبا فإن الغاز الإسرائيلي رغم الحاجة الملحة إليه، لا يمكن أن يعوّض إلا جزءاً بسيطاً من حاجتها للغاز الروسي؛ فإذا كانت صادرات روسيا لأوروبا وحدها تساوي 155 مليار متر مكعب، فإن إسرائيل تحتاج بضع سنوات ليصل كامل إنتاجها من الغاز إلى 40 مليار متر مكعب.
ولا يساوي هذا المقدار إلا ربع صادرات روسيا للاتحاد، كما أنه سيوزع على حاجات إسرائيل نفسها، واتفاقياتها الملزمة لكل من الأردن ومصر. ولن تستطيع تل أبيب تصدير إنتاجها كله إلى أوروبا، كما أن الغاز الإسرائيلي أعلى تكلفة من الغاز الروسي، ويحتاج وقتا أطول، وربما لاحقًا استثمارًا أكبر في البنية التحتية.
لكن من ناحية أخرى، فإن إسرائيل لن تستفيد من الصادرات فحسب، بل أيضًا من الاستثمارات الأوروبية في قطاع الطاقة. وقد يمثل الغاز الإسرائيلي ورقة ضغط تجاه الأوروبيين أمام إدانتها في كل ما يتعلق بخصوص القضية الفلسطينية أو انتهاكات حقوق الإنسان، وأيضًا على وجه الخصوص في القضايا المتعلقة بالاستيطان في الضفة الغربية.
وعلاوة على ذلك يحقق الاحتلال تقدمًا في مجال الاندماج مع العالم العربي، بل يستخدم موانئ مصر لتصدير الغاز لأوروبا، وليس مجرد التصدير للدول العربية المجاورة. ورغم أن مصر تصدر كميات قليلة من الغاز أيضًا، فإن الطلب المحلي يحول دون رفع هذه الكميات أكثر من واقعها الحالي، والمقتصر على تصدير ما يقارب تسعة مليارات متر مكعب، رغم أنها تستورد الغاز من إسرائيل نتيجة لاتفاقيات سابقة ملزمة بذلك.

كيف يمكن أن تستفيد مصر اقتصاديًا من الاتفاق؟
إلى جانب الفائدة السياسية للغرب، بتقليل الاعتماد على الغاز الروسي لدى الاتحاد الأوروبي، وهو الاتجاه الذي يصب أيضًا في مصلحة الولايات المتحدة، والاستفادة الكبرى لإسرائيل سياسيًا واقتصاديًا، فإن مصر أيضًا تستفيد من هذا الاتفاق من نواحٍ عدة:
أولًا: من المتوقع أن تساعد أوروبا مصر في استكشاف حقول غاز أخرى، ما سيوفر عليها جزءًا من الاستثمار في البنى التحتية، وقد يساعدها ذلك لاحقًا لتصبح أحد موردي الغاز لأوروبا أيضًا. كذلك سيقدم الاتحاد الأوروبي 100 مليون يورو لمصر لمساعدتها في أزمتها الغذائية وتمكينها من شراء القمح، واستثمار ثلاثة مليارات دولار في المنطقة في القطاع الزراعي، ما يساهم في تخفيف الضغط على الحكومة المصرية في مجال القمح والغذاء بشكل عام.
وقد تستفيد الحكومة المصرية سياسيًا أيضًا. فمثل هذه الاتفاقات قد تعني غض طرف الأوروبيين والأميركيين عن ملفات حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها في مصر، وتقربها أكثر من الاتحاد الأوروبي ودوله، وجعلها شريكة في ملفات سياسية في المنطقة.
وفي المحصلة لا يوجد خاسرون بشكل كامل من هذا الاتفاق من بين الأطراف المذكورة. فلا روسيا ستفقد ورقة الغاز بشكل كامل، لانعدام إمكانية استبدالها، ولا الاتحاد الأوروبي سيتكلف المزيد من الأموال لدفعها على الغاز من دون مقابل. فالمقابل السياسي قد يكون مجزيًا جدًا للأوروبيين، والأميركيون لن يدفعوا الكثير من جيبهم لتحقيق مساعيهم القديمة في تخفيف الاعتمادية الأوروبية على روسيا.
ولكن القضية الفلسطينية وملفات حقوق الإنسان هي الخاسر الأكبر في المعركة بالطبع، ومن دون أية إمكانية لتحقيق أي ربح. فإسرائيل تستمر في تحقيق إنجازات ديبلوماسية واقتصادية، وجمع أوراق تمكّنها من تخفيف الضغط على انتهاكاتها تجاه الفلسطينيين والمحيط العربي الذي ما يزال يقبع تحت رحمة أنظمة دكتاتورية تزيد من ارتباطاتها بإسرائيل، وتعمق اندماج تل أبيب بالمنطقة على حساب مصالح الشعوب العربية ومستقبلها.
المصدر: ساسة بوست

Optimized by Optimole