النبي والنساء والصلاة

قرة عيني الصلاة
Spread the love

بقلم: د. هيثم مزاحم — روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: “حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة”.
الحديث روي بصيغ مختلفة لكنها تفيد المضمون نفسه. وقد حاول عدد من المفسرين تفسيره بطرق مختلفة وخصوصاً مسألة حب النبي للنساء ومعنى جعل قرة عينه الصلاة.
وتوقف المفسّرون عند قوله (ص) حُبب إلي وليس أُحب، وفسّر ذلك بأنه حببت إليه النساء والطيب وهما من متع الدنيا، من الله، ومن أجل غيره، وليس طلباً منه وهو الذي لم يكن يطلب شيئاً من متع الدنيا.
وتساءل بعض المفسّرين لم بدأ النبي بالنساء وأخر الصلاة؟ وأجاب البعض بأنه لما كان المقصود من سياق الحديث ما أصاب النبي من متاع الدنيا بدأ به، كما قال في حديث آخر له: “ما أصابنا من دنياكم هذه إلا النساء” وأنه لما كان الذي حُبب إليه من متاع الدنيا هو أفضلها وهو النساء، بدليل قول النبي (ص) في حديث آخر: “الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة”. ويذهب المفسّرون إلى أن هذا الربط بين النساء والصلاة هو ربط بين أفضل الأمور الدينية وهي الصلاة، فإنها أفضل العبادات بعد الإيمان، وبين أفضل أمور الدنيا أي النساء.
وإذ أختلف مع بعض المفسّرين في تعسفهم في تفسير الحديث واعتبار أن النبي لم يكن يحب النساء حيث ذكر بعض العلماء حكمة هذا التحبيب فقيل: “زيادة في الابتلاء والتكليف حتى يلهو بما حبب إليه من النساء عما كلف من أداء الرسالة، فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره، وقيل: لتكون خلواته مع ما يشاهدها من نسائه فيزول عنه ما يرميه به المشركون من أنه ساحر أو شاعر، فيكون تحبيبهن إليه على وجه اللطف به، وعلى القول الأول على وجه الابتلاء، وعلى القولين فهو له فضيلة”.
فالنبي رسول من الله لكنه إنسان بشري كما يقول الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) – سورة آل عمران – الآية 144.
ويخاطبه الله في آية أخرى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) – سورة التحريم، الآية 1.
فالله يأمر الرسول بعدم تحريم ما أحله له من الطيبات، إرضاء لزوجاته. والله يؤكد في كتابه على أهمية المرأة – الزوجة في حياة الرجل من إضفائها السكينة المعنوية والجنسية لزوجها، إذ يقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون) – سورة الروم – الآية 21.
فليس المطلوب تنزيه النبي عن حب النساء وتبرير ذلك بأنه أراد من كثرة زيجاته نشر الفقه المتعلق بالنساء عبرهن حيث كان شديد الحياء، وأنه كان عبر زوجاته يفصل أمور الحيض والنفاس والطهارة وغيرها المتعلقة بفقه النساء.
فلا عيب على الرجل في حبّه لزوجته وعشقه لها فهذا الحب لا يزاحم حب الله.
أما ما يهمنا من الحديث فهو الجزء المتعلق بالصلاة. وقد عبّر عنه، بعبارة أبلغ مما عبّر به في النساء والطيب أي مجرد التحبيب، وقال في الصلاة: “جُعلت قرة عيني”. فإن قرة العين من التعظيم في المحبة ما لا يخفى.
وكثيراً ما استوقفني هذا الحديث، من جهة أن النساء والطيب، أي العطر وكل رائحة طيبة، هما من ملذات الدنيا التي لا يختلف اثنان على أهميتهما وتعلّق الناس بهما. لكن كان تساؤلي هو كيف يعتبر النبي الصلاة من أمور الدنيا وهي أهم العبادات وعمود الدين، وسبيل المؤمن إلى الحياة الآخرة؟
وأعتقد أن ما عرفه النبي من راحة نفسية ومتعة معنوية في الصلاة هو ما جعله يعتبرها من متع الدنيا، وقال إنها جعلت قرة عينه. فهي برغم كونها واجبة ومن أركان الدين وعموده وإذا قبلت قبل ما سواها وإذا ردت رد ما سواها، وتمنع عن الفحشاء والمنكر، إلى ما ذكر من ثوابها وعقاب تركها، إلا أن فوائدها لا تقتصر على الجانب التعبّدي الديني والعمل لنيل الثواب وتجنّب العقاب في الآخرة، فهي تزيل الهم وتشرح صدر المؤمن وتخفف من معاناته النفسية وآلامه المعنوية الناتجة عن البلاء والمصيبة والوحدة والحزن وفقدان الحبيب والقريب.
وكثيراً ما نرى في عصرنا الحديث المصاب بأزمة نفسية نتيجة مصيبة أو صدمة ما أو أزمة عاطفية أو مالية يلجأ إلى طبيب أو معالج نفسي كي يعالجه من الاكتئاب ويمنعه من الانتحار وإيذاء نفسه وغيره، ويخرجه من الوحدة والعزلة. ويعتمد المعالج في ذلك على الاستماع لمشكلات المريض ومعاناه كي ينفّس الاحتقان النفسي لديه. ولعل الصلاة والدعاء هما من قبيل التواصل مع الله وسؤاله العون في رفع البلاء والمصيبة وتخفيف الحزن والكآبة وحل المشكلات، فالله يقول:
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) – سورة البقرة – الآية (186).
ففي الصلاة يجد المؤمن والمؤمنة الراحة والأنس والطمأنينة والسكينة في حالة الخشوع والخضوع والتقرّب إلى الله وسؤاله.
والله يقول في آية أخرى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) – سورة قاف – الآية (16)
وقد بلغت الصلاة عند رسول الله مبلغاً لم يبلغه أحد سواه حيث بلغت مرتبة فوق درجة المحبة، وهي مرتبة قرة العين وراحة البال. يقول ابن القيم في رسالة له إلى أحد إخوانه: وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم أهل الجنة إلا هذا، ولهذا قال النبي: (حُبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) فأخبر أنه حبب إليه من الدنيا شيئان النساء والطيب، ثم قال: وجعلت قرة عيني في الصلاة، وقرة العين فوق المحبة، فإنه ليس كل محبوب تقر به العين، وإنما تقر العين بأعلى المحبوبات الذي يحب لذاته، وليس ذلك إلا الله الذي لا إله إلا هو، وكل ما سواه فإنما يحب تبعاً لمحبته، فيحب لأجله ولا يحب معه، فإن الحب معه شرك، والحب لأجله توحيد… والمقصود أن ما تقر به العين أعلى من مجرد ما يحبه، فالصلاة قرة عيون المحبين في هذه الدنيا لما فيها من مناجاة من لا تقر العيون ولا تطمئن القلوب ولا تسكن النفوس إلا إليه، والتنعم بذكره والتذلل والخضوع له والقرب منه، ولا سيما في حال السجود وتلك الحال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها. ومن هذا قول النبي: (يا بلال أرحنا بالصلاة).

Optimized by Optimole