هآرتس: في مقابل الوعود الإيرانية بالانتقام وتهديدات ترامب، العالم يحتاج إلى وسيط يلجم التدهور

ترامب
Spread the love

تسفي برئيل – محلل سياسي اسرائيلي/

مواطنون أميركيون يعيشون في العراق طُلب منهم تحصين مساكنهم والمكوث بالقرب من الملاجىء. جنود أميركيون موجودون في معسكرات عسكرية عراقية حيث يقومون بتدريب الجيش العراقي، يشددون حراستهم ويزيدون من أكياس الرمل حول أماكن إقامتهم. ثلاث دول من التحالف الغربي قاتلت تنظيم الدولة الإسلامية أعلنت تجميد عملياتها لزيادة الحفاظ على حياة جنودها.
بعد أن افتتحت القيادة الإيرانية وزعيم حزب الله حسن نصر الله الحقل لصيد أهداف أميركية، وفي أعقاب إطلاق نيران راجمات وصواريخ على قواعد أميركية في العراق بعد اغتيال قاسم سليماني، تحول الدفاع التكتيكي إلى استراتيجيا فورية ضد التهديدات. وإذا قررت إيران المسّ بأهداف أميركية وموالية لأميركا، فهي ليست بحاجة إلى التخطيط لأهداف بعيدة، ففي أفغانستان توجد أهداف أميركية كافية موقتاً. ويوجد مثلها في شمال سورية أيضاً.
لكن إيران لا تزال مكبلة بالمعضلة عينها التي لازمتها منذ انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وفرضت عليها جرعة مؤلمة من العقوبات: ما هي حدود الرد الفعال الذي يستطيع أن يُحدث منعطفاً في السياسة الأميركية، لكن لا يحوّل إيران إلى هدف شرعي للحرب. هذه المعضلة أضاف إليها اغتيال سليماني اعتباراً خاصاً، الانتقام للإهانة التي لحقت بكرامتها.
في سلسلة الهجمات جميعها على أهداف في الخليج، وعلى منشآت النفط السعودية، وعلى قواعد يوجد فيها مقاتلون أميركيون في العراق، تعمدت إيران إظهار قدرة على عرقلة حركة الملاحة في الخليج، والتسبب بذعر دولي يخلق ضغطاً يؤدي إلى تغيير سياسة العقوبات. وكان تفسيرها لسياسة دونالد ترامب بعدم الرد هو أن مهاجمة أهداف منفردة لن تؤدي إلى هجوم شامل ضدها، بل يمكن أن تجند إلى جانبها تأييد جزء من الدول الأوروبية، وصناعة النفط، وحتى دول الخليج. وأحد الفوائد التي حققتها إيران من سياستها الهجومية هذه هو انسحاب قوات دولة الإمارات العربية المتحدة من الساحة اليمنية، وعقد اتفاقات تعاون عسكرية بينها وبين إيران، وهذه خطوة أنهت هجمات المتمردين الحوثيين على أهداف تابعة لدولة الإمارات.
الهجوم على منشآت النفط السعودية في منتصف أيلول/سبتمبر، كان اختباراً مهماً لاستراتيجيا هجومية موضعية، لأن حجم الهجوم والضرر الذي يسببه طرح علامات استفهام أولى بشأن استعداد الولايات المتحدة للقيام بمهاجمة إيران بنفسها بسبب هجومها على دولة حليفة لها. اجتازت إيران الاختبار بنجاح. يومها سارع ترامب إلى التوضيح أن السعودية هي التي يجب أن تقرر كيف سترد ومتى، وأن الولايات المتحدة ستقف إلى جانبها في مقابل المال طبعاً. أعلنت السعودية أنها تعارض حرباً على إيران، وبذلك رسمت حدود التعاون الائتلافي المعادي لإيران. لكن أرباح إيران لم تحررها من المشكلة الأساسية، وكل هذه الهجمات لم تنجح في إحداث تغيير في سياسة الولايات المتحدة حيالها. أيضاً سياسة “تقليص الالتزامات بالاتفاق النووي” التي تعني خروجاً مدروساً ومخطَّطاً له من الاتفاق النووي بهدف تسريع الحوار الدولي ورفع العقوبات، لم تثمر النتيجة المرجوة بالنسبة إلى إيران. لم تنجح دول الاتحاد الأوروبي في تطبيق آليات الالتفاف على العقوبات التي طرحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وظهرت روسيا والصين كشريكتين صامتتين قادرتين على منع فرض عقوبات في منتديات دولية مثل مجلس الأمن، لكنهما لا تستطيعان إلغاء العقوبات الموجودة.
هذا الأسبوع وصلت إيران إلى نهاية مسار خرق الاتفاق النووي عندما أعلنت أنها تعتبر نفسها غير ملزمة بأي قيد فرضه عليها الاتفاق، سواء بالنسبة إلى كميات تخصيب اليورانيوم، أو بالنسبة إلى نوعيته، وأنها من الآن فصاعداً ستخصب اليوارنيوم بحسب “حاجاتها التقنية”. تجدر الإشارة إلى أن إيران تحاذر حتى الآن أيضاً من تقديم ذريعة لحرب ضدها.
مرة أُخرى تدرس إيران سياسات الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة ودول أوروبا. هي تعرف جيداً حدود “ما يمكن أن تتحمله” والخطر المتعلق بخرقه، لكن المقصود هنا ليس “اختباراً للتحمل” تقوم به إيران للدول الغربية وإسرائيل، بل هي تصدرها وكأن ليس لديها استراتيجيا فاعلة تستطيع إعادة سريان مفعول الاتفاق النووي، أو بدلاً من ذلك معاقبة إيران عسكرياً. بعد أن استنفدت الولايات المتحدة سلاح العقوبات، وعلى الرغم من الضربات الاقتصادية، فإنها لم تنجح في تدمير الاقتصاد الإيراني، وليس هناك ما يؤكد أن خياراً عسكرياً يمكن أن يؤتي ثماره، في ضوء سياسة ترامب عدم الغوص عميقاً في صحاري الشرق الأوسط.
قد تكون إيران دفعت إلى الحائط الاقتصادي، لكن الغرب أيضاً موجود في قفص سياسي وهامش رده ضيق إذا لم يجد قناة عقلانية للتحاور مع إيران. لقد غرّد الرئيس ترامب في الأمس عبر تلميحات كبيرة إلى أن إيران لن يكون لديها سلاح نووي أبداً. هذه التغريدة تشبه بدقة تعهُّد الرئيس أوباما. لكن كيف سيتعامل ترامب مع مراحل خرق الاتفاق الذي انسحب هو نفسه منه؟ هل تخصيب اليوارنيوم على درجة 20% سيعتبره تجاوزاً للحدود على طريق التوصل إلى سلاح نووي؟ هل سيحتاج، مثل أوباما، إلى المساومة مع بنيامين نتنياهو؟ ومتى ستصبح لدى إيران قدرة على صنع قنبلة؟ ترامب لم يقع في هذا الفخ، من الأسهل التهديد بقصف مراكز ثقافية إيرانية، رداً على المسّ بمدنيين وجنود أميركيين، كما فعل في الأمس، من رسم خطة طريق مخطَّط لها تنقذ المنطقة والعالم من التهديد الذي تسبب به بعد انسحابه من الاتفاق النووي.
إلى أن يتوجب عليه التعامل مع هذا الموضوع، تلقى ترامب صفعة إضافية عندما وافق البرلمان العراقي على اقتراح قانون يطلب من الحكومة طرد كل القوات الأجنبية من العراق. القانون أُقر بأغلبية كبيرة، لكن من دون أصوات النواب السنة والأكراد الذين تغيبوا عن الجلسة، وهو بحاجة الآن إلى موافقة الحكومة، لكن ترامب سارع إلى التهديد بأنه سيفرض عقوبات قاسية على العراق، ستبدو العقوبات على إيران باهتة مقارنة بها.
مواطنون عراقيون ونشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي في العراق سارعوا إلى الإعراب عن معارضتهم القانون، وتظاهروا أمام مبنى البرلمان ودعوا إلى حله، والسؤال المطروح هو هل حركة الاحتجاج الكبيرة التي هدأت في الأيام الأخيرة ستتجدد وستهدد النظام في العراق؟ إذا افترضنا أن القانون سيمر في الحكومة والعقوبات ستُفرض على العراق، ماذا ستحقق الولايات المتحدة؟ نشوء وضع تأخذ فيه سيطرتها في الشرق الأوسط بالتبدد، والقطيعة مع العراق ستحوله إلى دولة واقعة تحت الوصاية الإيرانية بالكامل، ويشكل هذا تهديداً لحلفاء الولايات المتحدة وبينهم إسرائيل.

في مواجهة تصعيد كلامي غير مسبوق، والتهديدات الاستراتيجية التي يؤججها، فإن الخوف من انتقام إيراني لمقتل سليماني يصبح ثانوياً. المطلوب الآن عملية وساطة دولية سريعة وحكيمة وحازمة تلجم التدهور. ثمة شك في أن هناك الآن مَن هو قادر ومستعد للقيام بهذه المهمة.

المصدر: صحيفة هآرتس الاسرائيلية – عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole