بولندا والآفاق السياسية

Spread the love

بقلم: سوافيمير سييراكافسكي * —

كان مقتل باول آدموفيتش، عمدة مدينة جدانسك، سبباً في إصابة بولندا بحالة من الارتباك الشديد. الواقع أن طبيعة الجريمة تنبئنا عن الحالة المحمومة التي أصبحت عليها الحال في البلاد راهناً.

كان آدموفيتش مخالفاً لكل ما يمثله حزب القانون والعدالة. ورغم كونه محافظاً فقد ظهر في صدارة موكب الفخر الذي نظمه المحليون، وفي لمحة رمزية منح نساء جدانسك مفاتيح المدينة في الاحتفال بالذكرى المئوية لحصول النساء في بولندا على حق الاقتراع. كما وجه الدعوة، هو وأكثر من عشرة رؤساء بلديات آخرين، إلى لاجئين لزيارة مدنهم، عارضين عليهم الوظائف والدعم ــ وهو العرض الذي رفضته الحكومة المركزية. وعندما وجهت منظمتي الدعوة إلى الفيلسوف السلوفيني اليساري سلافوج سيسيك لزيارة جدانسك في عام 2009، دعاه آدموفيتش لتناول العشاء.

كما ينبئنا توقيت وسياق الجريمة بالكثير. فقد هاجم المعتدي آدموفيتش أثناء ختام حملة سنوية لجمع التبرعات نظمتها أوركسترا عيد الميلاد الخيرية الكبرى. الآن، في عامها السابع والعشرين، تُعَد هذه الحملة حدثاً بالغ الأهمية في دعم جهود جمع الأموال لتحديث المستشفيات البولندية، وهي الكيان العام الأكثر جدارة بالثقة في البلاد.

مع ذلك، خضعت المؤسسة الخيرية ومؤسسها جيرزي أوزياك على مدار السنوات الثلاث الأخيرة لحملة كراهية يمينية مماثلة لتلك الموجهة ضد السلطة القضائية وأحزاب المعارضة في بولندا. في حديثه من على خشبة المسرح، أوضح القاتل أنه انتقم من الحزب الحاكم السابق، حزب المنبر المدني، الذي حمله المسؤولية عن حكم بالسجن صدر في حقه وأتمه مؤخراً. وعلى الرغم من انتخاب آدموفيتش كمرشح مستقل، فإنه كان في السابق شريكاً مؤسساً وعضواً في حزب المنبر المدني، وكان يتمتع بدعم الحزب.

يبدو أن المأساة السياسية المتبعة لا تعمل على توحيدنا أبداً؛ بل تعمل بدلاً من ذلك على تعميق الانقسامات القائمة. فبعد مقتل شخصية سياسية شعبية، ربما يتوقع المرء استجابة متعاطفة من كل الجهات. لكن الحياة المدنية البولندية تتدهور ــ وتصبح أكثر استقطاباً وضغينة ــ في أعقاب كل مأساة سياسية، وتستغرق عملية المصالحة اللاحقة عقوداً من الزمن عادة.

تقوم هذه الديناميكية على آلية سيكولوجية أساسية. فإذا كان المجتمع يضم عدداً كافياً من الناس الذين يعتبرون أنفسهم ضحايا من نوع ما، فإن ردة الفعل العامة إزاء أي مكروه لن تميل إلى التعاطف، بل الكراهية. تميل الغريزة إلى التعامل مع التعاطف بوصفه مورداً نادراً يجب الدفاع عنه ضد المنافسين. والواقع أن الأمر وكأن المجتمع بات عالقاً في حالة من المعاناة التنافسية.

عَـــبَّر الباحث البولندي أندريه ليدر عن هذه الحال على أفضل وجه في مقولته: «إن أولئك الذين يشعرون بأنهم ضحايا، تصبح قلوبهم قاسية كالصخر».

الواقع أن مقتل آدموفيتش يعيد إلى الذاكرة أحداثاُ وقعت في بولندا عام 1922، بعد فترة وجيزة من استعادة البلاد لاستقلالها. بعد إعلان فوز جابرييل ناروتوفيتش بأول انتخابات رئاسية ديمقراطية في البلاد، تعرض لهجوم شرس من اليمين، الذي شجبه بسبب الدعم الذي تلقاه من الأقليات الوطنية العديدة في البلاد. وبعد خمسة أيام فقط من توليه منصبه، أصيب ناروتوفيتش بعيار ناري قاتل أطلقه عليه يميني متعصب.

لم تسفر مأساة 1922 عن توحيد المجتمع البولندي. بل على العكس من ذلك، سرعان ما تحول القاتل إلى «بطل قومي» لليمين، وأقصيت الأقليات في بولندا فعلياً عن السياسة البرلمانية، لأن الأحزاب الأخرى كانت متحفظة إزاء فكرة التحالف معها. وكانت الغَلَبة لعقيدة الأغلبية البولندية.

ثم في عام 2010، شهدت بولندا مأساة وطنية أخرى، عندما سقطت طائرة كانت تحمل ليخ كاتشينسكي، رئيس البلاد آنذاك ــ وشقيق ياروسواف ــ خارج مدينة سمولينسك، مما أسفر عن مقتل كل من كان على متنها، بمن في ذلك رئيس هيئة الأركان العامة البولندية، وثمانية عشر عضواً في البرلمان وعدد كبير من القادة العسكريين والسياسيين. وبعد فترة وجيزة، بدأ اليمين البولندي يتهم رئيس الوزراء آنذاك دونالد تاسك وروسيا بالتخطيط بشكل مشترك لإسقاط الطائرة.

منذ ذلك الحين، أنشأ اليمين البولندي «عبادة سمولينسك»، فعين خبراء زائفين (لم يسبق لأي منهم قَط فحص حطام طائرة) «للتحقيق». وفي ظل حكومة حزب القانون والعدالة، نُظِّمَت مسيرات شهرية في ذكرى سقوط الطائرة طوال ثماني سنوات، والمؤسسة العسكرية مجبرة على إقامة احتفالات، حيث تُتلى أسماء ركاب الطائرة الساقطة. ومنذ حادثة السقوط، ظلت بولندا منقسمة إلى معسكرين متحاربين.

ولن تكون هذه المرة مختلفة. ففي الساعات التي أعقبت الهجوم على آدموفيتش مباشرة، أبدى الرئيس البولندي أندريه دوبا ومسؤولو حزب القانون والعدالة، الذين صدمهم الحدث، قدراً كبيراً من ضبط النفس. ودامت تلك الحال أقل من يوم واحد. ثم ألقى البرنامج الإخباري الأساسي على التلفزيون الحكومي المسؤولية عن المأساة على أوزياك، متهماً إياه بعدم تأمين الحدث. ولم يَرِد أي ذِكر لكلمات الجاني الحقيقي.

في غضون ذلك، اتهمت وسائط الإعلام التي يسيطر عليها الحزب الحاكم المنبر المدني بتنفيذ الهجوم.

الواقع، إن البولنديين متشككون عموماً في أحزاب المعارضة، والمحاكم، ووسائط الإعلام الخاصة، وهذا ما جعل استراتيجية الإلهاء التي انتهجها حزب القانون والعدالة فعّالة. ولكن إذا كان الحزب يتصور أنه قادر على تجنب اللوم عن مقتل آدموفيتش، فربما تنتظره مفاجأة. يحظى أوزياك باحترام واسع النطاق وهو شخصية عامة محبوبة. وفي كل مكان في بولندا تقريباً، هناك أناس إما عاينوا أو استفادوا بشكل مباشر من المعدات الطبية المنقذة للحياة التي توفرها مؤسسته الخيرية. كما شاركت أجيال من البولنديين في حملات جمع التبرعات. ولسنوات كان البولنديون يصنفون أوزياك كأكبر سلطة أخلاقية في البلاد ــ قبل البابا.

إن سرد أجهزة الإعلام التابعة للدولة الذي يصور أوزياك وحزب المنبر المدني على أنهما الجانيان المذنبان بقتل آدموفيتش لن يؤدي إلا إلى تقويض حزب القانون والعدالة. وقد أظهر كاتشينسكي على نحو متكرر مدى اندفاعه وتهوره. فهو يسعى وراء اكتساب المزيد من السلطة والقوة دون أي اعتبار للعواقب المترتبة على أفعاله. وإذا هاجم أوزياك، فسوف يخسر.

* مؤسِّس حركة «كريتيكا بوليتيكانا»، ومدير معهد الدراسات المتقدمة في وارسو، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين.

المصدر: Ⅶ عن صحيفة البيان

Optimized by Optimole