الجيش الإسرائيلي يتحول من “جيش الشعب” إلى جيش صغير محترف

Spread the love

بقلم: أليكس فيشمان – محلل عسكري إسرائيلي —

مع كل الاحترام لأسطورة “جيش الشعب”، إلا إن الجيش الإسرائيلي قد بدأ يدرك أن هذه ليست كافية لتحقيق الانتصارات في الحروب المستقبلية. وفقاً لخطة رئيس هيئة الأركان غادي آيزنكوت، ستتكون التشكيلات القتالية في العام 2020 من أربع أذرع عسكرية مستقلة، ولن تكون هناك مساواة تامة في إطارها. ستحظى وحدات النخبة من الكوماندوس فيها بأفضلية متقدمة على سائر الوحدات الأخرى ـ “سييرت متكال” (وحدة الكوماندوس التابعة لهئية الأركان)، “شَلداغ” (وحدة الكوماندوس التابعة لسلاح الجو) وستوضع “شَييطِت 13” (وحدة الكوماندوس البحري) تحت مظلة “قيادة العُمق” باعتبارها جيشاً مهنياً متكاملاً، بينما ستحظى فرق الحسم النظامية بأفضلية كبيرة مقارنة بفرق الاحتياط، فيما ستكتفي تشكيلات حراسة الحدود فقط بما يتبقى.

•بدت قاعة التحقيقات في القاعدة العسكرية التابعة لإحدى وحدات النخبة الخاصة في الجيش الإسرائيلي كأنها مسرح روماني مصغر، على شكل نصف هلال. على المنصة الصغيرة، وقف ضابط برتبة مقدّم، قائد وحدة كوماندوس تابعة لسلاح الجو. بالنسبة للحاضرين في القاعة، لم يكن الأمر سوى مجرد نقاش مهني روتيني. عرض الضابط الواقف على المنصة تفاصيل عملية نفذتها وحدته في إحدى الجبهات البعيدة عن إسرائيل، مستخدماً صوراً من منظومات كهروضوئية متقدمة جداً وثّقت المراحل الحاسمة من تلك العملية. شمل الجمهور عشرات الضباط والقادة من رتب مختلفة في وحدات القوات الخاصة: “سيّيرِت مَتْكال” (وحدة الكوماندوس التابعة لهئية الأركان)، “شَلداغ” (وحدة الكوماندوس التابعة لسلاح الجو) و”شَييطِت 13″ (وحدة الكوماندوس البحري) وغيرها من الوحدات السرية الأخرى، بمن فيهم قادة وحدات خاصة في الاحتياط. في الصفوف الأولى، جلس قادة تلك الوحدات الخاصة، من جميع الأذرع العسكرية، بمن فيهم قادة “قيادة العمق” (هي قيادة عسكرية خاصة اقيمت في الجيش الإسرائيلي في العام 2011 وأنيطت بها مهمات التخطيط، وتفعيل القوات وتنفيذ عمليات خاصة ومتعددة الأذرع في مناطق تعتبر “عمقاً استراتيجياً” في “دول العدو” – المترجم). كان من الصعب تمييز الحاضرين وفق الأذرع المختلفة التي ينتمون إليها ـ مَن مِن سلاح البحرية، مَن مِن سلاح الجو، مَن مِن شعبة الاستخبارات العسكرية ومَن مِن سلاح المشاة والبرية. وكان بين الحضور، أيضاً، عدد من قادة أجهزة الاستخبارات المدنية، باللباس المدني.
•القادة الذين توافدوا إلى القاعة لم ينشغلوا، هذه المرة، بالتحضيرات لحرب مستقبلية. الخلاصات التي استمعوا إليها سيتم تطبيقها في العمليات القريبة، ربما صباح يوم غد. وبينما كانوا يتابعون العرض، كان جنودهم ينفذون عمليات مختلفة خارج حدود الدولة، في مواقع قريبة وبعيدة على حد سواء. إنها القوات التي تؤدي مهمات متواصلة، طوال أيام السنة كلها، ضمن ما يسمى “الحرب التي بين الحروب”. القوات الخاصة هي “الأحذية التي على الأرض” بالنسبة للجيش الإسرائيلي، إذ تقوم بجمع المعلومات الاستخبارية وبكل ما يفترض به أن يوصل العدو إلى الحرب القادمة وهو في أدنى درجة من الاستعداد والجاهزية.
•هذا المؤتمر الموسمي، الذي يُعقد بضع مرات في السنة، يبدو للناظر إليه من الخارج كأنه مسرحية سوريالية. ذلك أن تلك الوحدات الخاصة، التي كانت بمثابة حدقة العين بالنسبة لقادة الأذرع العسكرية، لم تتحول إلى جسم واحد منسَّق إلاّ في الثلاث سنوات الأخيرة. حتى ذلك الوقت، كانت كل وحدة منها تعمل بشكل انفرادي مستقل، وفق عقيدة قتالية خاصة وبوسائل قتالية خاصة. وقد شكلت كل واحدة من هذه الوحدات، في الحياة اليومية، رأس حربة الذراع العسكرية التي كانت تابعة لها ـ “سييرت متكال” في شعبة الاستخبارات العسكرية (“أمان”)، “شييطت 13” في سلاح البحرية، “شَلداغ” في سلاح الجو، ووحدات سرية خاصة أخرى غيرها، لكنها كانت تبدو “عاطلة عن العمل” وقت الحرب ولم تكن تستطيع استنفاد قدراتها.
•أيضاً تغيرت اللغة تماماً. فلم يعد الحديث يجري اليوم بمصطلحات طواقم كوماندوس، بل بلغة قوات خاصة تعمل بتنسيق تام بين بعضها البعض، تحت مظلة “قيادة العمق” المهنية. في الحرب، ستكون هذه القوة الهائلة – التي تضم مئات عديدة من المقاتلين النظاميين والاحتياطيين ـ ذراع الجيش الإسرائيلي الاستراتيجية في البر التي ستصيب أهدافاً في عمق العدو إصابات محققة. وحتى العام 2020، من المفترض أن يزداد حجم القوات الخاصة وعديدها بشكل كبير، وأن يتضاعف مرتين أو ثلاثاً حجم وعدد العمليات التي ستكون قادرة على تنفيذها، وأن يزداد بالتالي أيضاً عدد المراكز القيادية التي ستتولى إدارة هذه العمليات، في هيئة القيادة العامة وفي قيادات المناطق العسكرية.
•يذكّرنا جداً ما يتطور أمام ناظرينا بقيادة العمليات الخاصة الأميركية، SOCOM. إنها قيادة وظيفية (خلافاً لقيادة منطقة)، وهي تُعدّ وتفعّل “جيشاً آخر” يفكر ويتصرف بصورة مغايرة لتلك المعتمدة في الجيش التقليدي. وتنامي القوات الخاصة هو نتاج التغيّر الحاد الذي طرأ على طبيعة القتال وطبيعة العدو: المزيد من المواجهة مع الإرهاب ومع أجسام “هجينة” تتصرف كدول وتعتمد وسائل إرهابية، مثل حزب الله، حماس، داعش، طالبان والقاعدة. ويستدعي هذا من الجيش الإسرائيلي التحول إلى جيش مهني محترف يعمل بموازاة “جيش الشعب”، إنه جيش آخر.
مقاتلون عمرهم 53 عاماً
•على مدى بضعة عقود كاملة، “تمزق” الجيش الإسرائيلي بين هالة جيش الشعب المحقِّق للمساواة والتطوعي من جهة، وبين الحاجة الملحة إلى جيش مهني محترف. وكلما تم اقتناء منظومات حديثة، متطورة وغالية الثمن من الأسلحة، وسيطرت الرقمنة على حياتنا، واقتحمت الحرب السيبرانية ساحات المعارك، كلما تعمقت واتسعت الحاجة إلى الجيش المهني المحترف. في عهد رئيس هيئة الأركان الحالي، غادي آيزنكوت، تبلغ هذه السيرورة ذروة جديدة. صحيح أنه لم يتم، حتى الآن، تجاوز الحد الفاصل بين جيش الشعب والجيش المهني، إلا إنه سيكون بالإمكان في سنة 2020 رؤية الفجوات والفوارق العميقة جدا بين أنواع الخدمة العسكرية المختلفة وبين الجيوش المختلفة.
•سيعتمد “جيش القوات الخاصة” على جيش نظامي، أساساً نظامي الخدمة فيه قصيرة الأمد. في “سييرت متكال”، على سبيل المثال، سيوقع المقاتلون على الخدمة النظامية لمدة ثلاث سنوات وسيشاركون في دورة للضباط. جميع هؤلاء العشرات من الضباط الجدد في “سييرت متكال” يفترض بهم – وفق رؤية رئيس هيئة الأركان – تغذية ألوية المشاة الممتازة مستقبلاً، في النظامي والاحتياط على حد سواء، وتحسين نوعيتها. أما في الكوماندوس البحري، فهم يوقعون على الخدمة النظامية الدائمة منذ زمن طويل. في شلداغ جزء من المقاتلين سينضم إلى الخدمة النظامية الدائمة.
•تأهيل هؤلاء المقاتلين مُكلف جداً، لكن بما أنهم سيكونون أكثر مهنية واحترافاً وسيخدمون لفترات طويلة، فسيكون بالإمكان تجنيد عدد أقل منهم. وهكذا، في نهاية المطاف، سيخدم نحو نصف المقاتلين في القوات الخاصة ضمن إطار نظامي أولي. وسيكون بمقدور الضباط والمقاتلين ذوي التخصصات المميزة مواصلة تأدية الخدمة النظامية الدائمة حتى سن 35 عاماً، بينما سيخدم الضباط الذين تتم ترقيتهم إلى رتبة مقدّم حتى سن 42 عاماً. أما المرشحون لرتبة عقيد وما فوق، فلن يتم تحديد فترة خدمتهم النظامية. وسيسري هذا النظام، أيضاً، على جميع المنخرطين في الجيش النظامي، في إطار الاتفاقيات الموقعة مع وزارة المالية.
•من الواضح تماماً أن شروط الخدمة في القوات الخاصة ستكون مختلفة عن تلك المتبعة في جيش المتطوعين التقليدي وأن الرواتب ستكون أعلى بكثير. وبالمناسبة، إن هذا التمييز بين مَن يخدمون في المسارات المختلفة متبع منذ سنوات عديدة في أذرع سلاحيّ الجو والبحرية وفي بعض الوحدات الخاصة التابعة لسلاح الاستخبارات. فمشغّلو الطائرات من دون طيار، التي تؤدي اليوم جزءاً كبيراً من الحرب الجوية، يوقعون على تأدية الخدمة النظامية لمدة أربع سنوات. ويتكون نظام الصيانة في سلاح الجو، في غالبيته، من ضباط صف يستطيعون مواصلة تأدية الخدمة حتى سن 53 عاماً، إذ ليس من المنطقي إلقاء المسؤولية عن صيانة طائرة حربية يبلغ ثمنها مائة مليون دولار على كاهل جندي في الخدمة الإلزامية. الجيش البري في 2020 سيسدّ الفجوات. جزء متزايد منه صار أكثر مهنية واحترافاً.
شنيتسل وأنترِكوت
•في قاعة التحقيقات إياها جلس أيضاً قادة لواء الكوماندوس الذي أقيم إبان ولاية آيزنكوت في رئاسة الأركان. لا ينتمي لواء الكوماندوس رسمياً إلى “جيش القوات الخاصة”، بل هو الذراع القائدة في “الجيش رقم 2″، المكون من تشكيلات الحسم النظامية في الجيش الإسرائيلي – الفرقة 36، الفرقة 162 والفرقة 98. وفي هذه التشكيلات هناك مكوّنات (components) واسعة جداً من قوات الاحتياط التي يفترض بها أن تكون على درجة من الأهلية توازي تلك المعتمدة في القوات النظامية.
•لواء الكوماندوس – الذي يضم وحدات “دوفدوفان”، “إيغوز”، “ماغلان” و”ريمون” – يجسد وجهة نظر عملانية لقوة كاسحة قادرة على العمل بصورة مستقلة لفترة زمنية طويلة في نقاط الحسم في عمق مناطق العدو (على عكس القوات الخاصة التي تعمل بطواقم صغيرة في مواقع نوعية مميزة). حضور قادة لواء الكوماندوس في مثل هذه المؤتمرات هو بمثابة إعلان موقف من جانب الجيش: المستوى المهني المطلوب من اللواء مواز لذاك المطلوب من جيش القوات الخاصة. وفي لواء الكوماندوس أيضاً تتجه النية نحو تجنيد المقاتلين لخدمة نظامية قصيرة المدى.
•في وحدة الكلاب، “عوكِتْس” – التي ترافق جميع وحدات رأس الحربة في سلاح البرّ – سيوقع المقاتلون على تأدية الخدمة النظامية لفترات أطول. بعضهم سيخدم سبع سنوات، التي هي فترة خدمة الكلب: سيتم تجنيدهم مع الجراء، ويخضعون معها لدورات تدريبية تستمر سنتين في الوحدات الخاصة المختلفة، وبعد خمس سنوات من النشاط يخلعون بزاتهم العسكرية ويستطيع كل منهم تبني أحد الكلاب.
•أية قصة حب كهذه بين كلب ومقاتل تكلف الدولة ميزانية باهظة جداً. فالمصروفات المباشرة على شراء الكلاب تزيد عن 2,5 مليون شيكل في السنة. أما المصروفات غير المباشرة، المتعلقة ببناء قوة الكلاب، وبامتلاك جراء لتطوير القدرات، وبالطبابة البيطرية وغيرها، فمن شأنها أن توصل مجمل التكلفة – للكلاب فقط – إلى نحو 3,5 مليون شيكل في السنة. ومع ذلك، فإن القدرة على التمسك بمروّضي الكلاب لفترة زمنية طويلة تمتد على مدى فترة خدمة الكلب في الجيش توفر تكلفة تأهيل مروّضين جدد وتلغي فترة التأقلم ما بين الكلب ومروّضه الجديد.
•حكاية الكلاب ليست إلا مثالاً فقط. هذا هو اسم اللعبة في وحدات رأس الحربة الأخرى أيضاً: فترات طويلة من التأهيل الجذري والأساسي، تجربة قتالية أكبر وتشكيلة أوسع من الوسائل القتالية، الاستخبارية والاتصالاتية.
•يشكل لواء الكوماندوس اليوم أحد الألوية الأكثر نشاطا في مجال التعاون مع وحدات قتالية أجنبية. قبل بضعة أسابيع، أجرت كتيبة “إيغوز” التابعة للواء تدريباً عسكرياً مع الجيش القبرصي شمل الإنزال، التواجد والقتال في “عمق أراضي العدو” في الجزيرة المجاورة. ويتدرب مقاتلو لواء الكوماندوس مع زملائهم من وحدات الـ”رينجرز” الأمريكية، في إسرائيل وخارجها، ومع جيوش أخرى، في مسعى لتهيئة الأرضية لمسارات تعاون محتملة في المستقبل، طبقاً لمخططات القتال الإقليمية.
•وبالمناسبة، يُذكر أن الجيش الأردني مرّ بعملية مماثلة أيضاً. فقد تم خلال السنة الماضية إخراج ثُلث قوته من المدرعات والمدفعية من الخدمة – بما في ذلك الجنود والضباط النظاميون – وأقيمت بدلاً منها تشكيلة كوماندوس جديدة. لم يكن هذا الأمر سهلاً، إذ إن ملاءمة الجيش الأردني للواقع الإقليمي استوجبت استبدال قادة هيئة الأركان الأردنية، بمن في ذلك رئيس هيئة الأركان نفسه.
•أما في الجيش الإسرائيلي، فلن تؤدي هذه الثورة إلى استبدال رئيس هيئة الأركان. ذلك أن آيزنكوت تحديداً، الذي لم يأت من القوات الخاصة، هو الذي اتخذ القرار الحاسم مرتين بشأن تطوير الذراع طويلة المدى في سلاح البرّ. مع انتهاء ولايته كقائد للمنطقة الشمالية العسكرية، ترأس اللجنة التي أوصت بإقامة القيادة التاسعة في الجيش الإسرائيلي – “قيادة العمق” ـ التي تشكل قيادة عليا للقوات الخاصة. كذلك في الفترات التي أثيرت فيها شكوك حول الحاجة إلى “قيادة العمق”، حيال معارضة الأذرع التي كانت مسؤولة عن تفعيل القوات الخاصة، أصر آيزنكوت على تعزيزها.
•يشكل لواء الكوماندوس رأس الحربة بالنسبة لفرق الحسم النظامية، التي تشمل طواقم قتالية من لواء المدرعات وبعض الوحدات الجوية. وكما يتدرب لواء الكوماندوس نصف سنة وينشغل نصف سنة أخرى في مهمات عمليانية، كذلك أيضا ستنتقل جميع وحدات سلاح المشاة المعدّة للمشاركة في مناورات قتالية ضمن الجيش النظامي إلى وضع غير مسبوق لم يشهد الجيش الإسرائيلي مثيلاً له منذ ما يزيد عن 20 سنة: تدريبات لمدة 17 أسبوعاً، ثم تنفيذ مهمات عمليانية لمدة 17 أسبوعاً أخرى، وهكذا دواليك. ويفترض أن يوصل هذا التقليد وحدات المناورة النظامية – المشاة، المدرعات والهندسة – إلى مستوى من الأهلية العمليانية يندرج، في تعريفات الجيش، ضمن “الشريحة المئوية الأعلى”. وتخصص حصة الأسد من ميزانية سلاح البرّ في خطة العمل المتعددة السنوات (“جدعون”) التي يقودها آيزنكوت، لفرق الحسم العسكرية هذه. أو، كما وصف ذلك ضابط رفيع: “فرق الحسم ستأكل الأنترِكوت بينما سيكتفى الآخرون بالشنيتسل”.
•سوف يتمتع المقاتلون وأفراد الجيش النظامي في فرق الحسم – كما في الوحدات الخاصة – بأفضلية واضحة في كل ما يتعلق بشروط خدمتهم، بالمقارنة مع الجزء الأكبر من مساندي القتال على اختلاف فرقهم ووحداتهم. فالمقاتل سيتلقى راتباً يزيد بـ 30% عن الآخرين. والجندي النظامي في أحد التشكيلات القتالية الذي ينهي خدمة نظامية طويلة (حتى سن 24 عاماً) سيتمكن، خلال خدمته العسكرية، من إنهاء لقبين جامعيين على حساب الجيش. أما في التشكيلات غير القتالية، فسيتاح التعليم الجامعي – على حساب الجيش أو على حساب الجندي النظامي نفسه – بواسطة تخصيص أيام للتعليم خلال فترة الخدمة العسكرية. وفي حالات خاصة، سيموّل الجيش أيضاً سنة تعليمية أولى للقب الثاني. ثمة هنا نية لرفع المستوى الأكاديمي في الجيش وإغراء الشبان – وخاصة في التشكيلات القتالية – لمواصلة التعليم الأكاديمي.
•بيد أن الإغراءات تختلف في الوحدات السيبرانية – وهي اسم رمزي للتشكيلات التكنولوجية المتقدمة في الجيش. فالمتجند للتشكيلات السيبرانية يبدأ تعليمه الأكاديمي في يوم تجنده للجيش. تصل الجامعة إلى الوحدات وتؤهل الجنود للحصول على اللقب الأول في علوم الحاسوب خلال فترة الخدمة العسكرية. وبغية إبقاء مقاتلي السايبر في الخدمة الدائمة لأربع ـ خمس سنوات إضافية أخرى، يتم منحهم محفزاً من نوع آخر هو منحة مالية مقدارها 19 ألف شيكل مرة كل نصف سنة. وهذا يعني أن التمييز يتعمق باستمرار في داخل التشكيلات التكنولوجية نفسها أيضاً.
•تقلص حجم الجيش البرّي وتضاءل باستمرار عبر السنوات، على خلفية ظروف مالية، وتغيرات في المخاطر والتهديدات، والتركيز على نواح جديدة في مبنى القوة العسكرية، وتغيرات اجتماعية. ويقول مسؤولو الجيش إنهم يتعمدون التعويض عن تقليص حجم الفرق المشاركة في مناورات قتالية بواسطة إدخال وسائل قتالية حديثة والحفاظ على مستوى موحد ومرتفع في جميع الفرق المشاركة في مناورات قتالية، النظامية والاحتياطية على حد سواء. لكننا سنكتشف في العام 2020 أن الجيش لا يحقق هذه المهمة. فقد قرر رئيس الأركان، آيزنكوت، أن “رأس الحربة” في الجيش ينبغي أن يكون كاملاً متكاملاً، حتى لو كان هذا على حساب قوات مشاركة في مناورات قتالية أخرى. وقد استخلص آيزنكوت هذا الدرس في أعقاب الأداء المتوسط الذي ميز الجيش البرّي إبان حرب لبنان الثانية، والذي فاجأه هو نفسه أيضاً بصفته رئيس شعبة العمليات آنذاك.
الحاويات الحمراء
•تخلى آيزنكوت، مسبقاً، عن مبدأ المساواة. لم يظهر هذا للعيان بعد، لكن فجوة نوعية تنشأ منذ الآن بين الفرق المناوِرة [المعدّة للمشاركة في القتال البري] المسماة “تشكيلات الحسم” (أو: “طواقم قتالية لوائية، جدعون”) وبين تشكيلات الاحتياط المناوِرة ، التي يسميها رئيس هيئة الأركان “تشكيلات ميدانية” والتشكيلات اللوغستية. وخلافاً للرؤية الأصلية – عدد صغير من التشكيلات المناوِرة بمستوى موحد – ظهر “الجيش الثالث” في سلم الأولويات. صحيح أن التشكيلات الميدانية هي تشكيلات مدرعة تماماً وأنها شريكة كاملة في تنفيذ مهمات هجومية ضمن الخطط العمليانية، غير أنها ليست في الأفضلية الأولى للحصول على وسائل قتالية نوعية ومتقدمة. على سبيل المثال، يخطط الجيش للتزود خلال السنوات القليلة القادمة بمئات جديدة من المنظومات الدفاعية للدبابات والمدرعات الثقيلة وببضع مئات أخرى من المدرعات الثقيلة الحديثة، سيتم تخصيص الجزء الأكبر منها لتشكيلات الحسم النظامية، التي يفترض أن تبلغ – حتى ذلك الحين – ذروة أهليتها وجاهزيتها. آيزنكوت نفسه هو الذي يقف وراء هذا القرار المبدئي ويقول إن وضع الفرق الاحتياطية – سواء في مجال المعدات أو في مجال التدريبات التي أصبحت مكثفة جداً خلال السنتين الأخيرتين ـ يمكّنها من تنفيذ مهماتها القتالية بصورة أفضل وأنجع.
•لا يقتصر تبرير انعدام المساواة هنا على الجانب المالي المتعلق بالميزانية فحسب. فالمفترض أن توفر الفرق النظامية الرد الفوري على أي تدهور يحصل في أي من القطاعات، وهو ما يبرر حصولها هي على التجهيزات الحديثة أولاً، بأفضلية أولى. إنه تبرير منطقي، لكنه غير مقنع عقلياً وقد يخلق أزمة ثقة وسط تشكيلات الاحتياط. في عملية “عامود سحاب” (العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 – المترجم)، عندما أدخِلت إلى بعض سرايا المدرعات النظامية منظومة “معطف الريح” للدفاع الفعال أمام الصواريخ المضادة للدبابات، ساد شعور بالمرارة الشديدة بين سرايا احتياطية كانت تعتزم العمل إلى جانب النظامية، وفي المهمات نفسها، لكن بدون “معطف الريح”. “هل دماؤنا أرخص من دماء النظاميين؟” تساءل جنود الاحتياط الشبان.
•يُسجّل للجيش الإسرائيلي أنه يعترف، في السنتين الأخيرتين خصوصاً، بينه وبين نفسه، بأن ثمة خللاً في عملية تدريب الجيش البرّي. فالجيش يستثمر في التدريبات أكثر من أربعة مليار شيكل في السنة الواحدة، وهو مبلغ يعادل ضعف ذلك الذي أوصت به “لجنة بروديت” التي بحثت في ميزانية الأمن للعام 2007. غير أن الأيام الكثيرة والاستثمارات الهائلة التي خصصت للتدريبات لا تؤتي النتائج المرجوة في ساحات القتال الحديثة. وفي الجيش يعرفون الحقيقة: استغلال الوقت للتأهيل ليس كافياً ما دامت المنشآت متقادمة وغير ملائمة لساحات القتال المتوقعة.
•تدخل إلى الصورة هنا، في إطار خطة “جدعون”، خطة فرعية أطلق عليها اسم “أفيف” من المتوقع أن تبلغ ذروتها ابتداء من العام 2020 فصاعداً. في إطار خطة “جدعون”، يقيم الجيش الإسرائيلي منظومة من منشآت التدريب المتقدمة، بمحاذاة مناطق يعمل فيها المجندون الاحتياطيون والنظاميون: هضبة الجولان، غور الأردن وغيرهما، بحيث تتدرب الوحدات المقاتلة في بيئة مشابهة إلى أقصى حد ممكن لمناطق القتال الحقيقية المتوقعة. في هضبة الجولان، سيتم بناء منشأة ضخمة جداً تحاكي مدينة يضع حزب الله حولها سواتر كبيرة. كما ستقام، أيضاً، ثلاثة مراكز محاكاة ضخمة جداً. ستدخل كتيبة بأكملها إلى منشأة كهذه وتجري، بموازاة ذلك، عملية محاكاة تشمل جميع المهن – ابتداء من السياقة وانتهاء بمُحاكٍ يضع تحديات مختلفة أمام قيادة الكتيبة في صور وأساليب القتال المختلفة. وسيكون المحاكي البرّي موصولاً بمحاكٍ آخر يتدرب فيه في الوقت ذاته، طيارو “إف 16” الذين يوفرون الإسناد الجوي للكتيبة المتدربة. وستزول وتختفي المنشآت القديمة للتدرب على إطلاق النار وستحل مكانها منشآت إلكترونية. وهذه ليست سوى أمثلة قليلة على الطريقة التي سيتدرب بها الجيش البري في نهاية العقد الحالي.
•ستتغير أيضا طرق دراسة العدو. ستتنقل بين الوحدات 17 منشأة خاصة لدراسة العدو استخبارياً سيطلق عليها اسم “الحاويات الحمراء”، ويكون الجنود والضباط داخلها ويحصلون على المعلومات الأكثر تحديثاً حول قدرات العدو الذي سيقابلهم في ساحة القتال.
•تسعى هذه الإجراءات كلها إلى محاولة تقليص الفجوات المهنية الآخذة في النشوء والاتساع بين “الجيش الثاني”، المتمثل في تشكيلات الحسم، وبين “الجيش الثالث”، وهو جيش المتطوعين، المؤلف من جنود وضباط الاحتياط بشكل أساسي. في المقابل، وفي محاولة للتغلب على إحدى نقاط الضعف الأصعب التي ظهرت خلال حرب لبنان الثانية – تفعيل مراكز القيادة – أنشئت السنة الماضية مدرسة للقيادة والتحكم، برئاسة ضابط إضافي آخر برتبة لواء في الذراع البرية، هو اللواء يوسي بَخار. تتولى هذه المدرسة تأهيل القيادات على جميع المستويات، من الكتيبة حتى الفيلق.
•ينمو، إلى جانب “الجيوش الثلاثة”، فرع وظيفيّ رابع، جديد نسبياً، في ذراع البرّ: “منظومة حماية الحدود”، الخاضعة لمسؤولية سلاح جمع المعلومات العسكرية ومهمتها حماية الحدود التقليدية في مقرات القيادة المختلفة، من خلال فرق جمع المعلومات، والفرق الضالعة، ووحدات الاحتياط التي تم استدعاؤها للعمل، ووحدات قصاصي الأثر وغيرها. وتتولى هذه المنظومة المسؤولية عن كل ما يتصل ببناء صورة استخبارية بمحاذاة الحدود وبمنع أية عمليات تسلل إلى داخل حدود إسرائيل.
للسنّ أهمية
•عيّن رئيس هيئة الأركان آيزنكوت في مطلع تموز الأخير، خمسة قادة جدد برتبة عميد. متوسط العمر في هذه المجموعة هو 44,5 عاماً. قبل سنة واحدة، كان متوسط العمر للضباط برتبة عميد الذين تمت ترقيتهم 45,6 عاماً. ثمة توجه هنا يفرضه آيزنكوت على المسؤولين عن الموارد البشرية في الجيش الإسرائيلي: سيكون الجيش أكثر شباباً. ليس لدى رئيس الأركان استعداد لرؤية قادة كتائب أبناء 36 – 37 عاماً. من وجهة نظره، ينبغي عليهم تولي مهمة قيادة الكتيبة في سن 32 – 33 عاماً. وهكذا، أيضا، يصل قائد السريّة إلى منصبه وهو أكثر شباباً. المقدّم الذي يبلغ سن الـ 42 عاماً ولا يتاح له أفق الترقية – يتم تسريحه من الجيش. الرائد الذي لا يكون مؤهلاً للترقية إلى رتبة مقدم يتم تسريحه في سن 36 عاماً، باستثناء 900 رائد ينطبق عليهم تعريف “مركز معلومات”. من أجل تقليص عديد الجيش النظامي في المستقبل القريب، ومن أجل جعل الجيش شاباً أكثر فأكثر، تقرر تقصير الحد الأدنى للفترة الزمنية بين رتبة نقيب ورتبة مقدم من أربع سنوات إلى ثلاث سنوات. كما سيتم تمدين بضع مئات من الوظائف الإدارية والإسنادية. ضباط الصف المهنيون الذين لا يزال الجيش في حاجة إليهم – والذين يحصلون اليوم على مكافآت جيدة جداً – يستطيعون مواصلة الخدمة حتى سن 53 عاماً ثم الخروج إلى التقاعد التام.
•الهدف من وراء هذا كله هو إسناد المناصب القيادية لجيل الشباب وجعل الجيش البري جيشاً حديثاً ملائماً للواقع الإقليمي. لكن تعميق التمايز في داخل الجيش وتقسيمه إلى ما يمكن تسميته “أربعة جيوش” قد أحدثا صدوعاً في صورة “جيش الشعب” وهالته. قيمة المساواة – ليس بين المتجندين وغير المتجندين فقط، وإنما في داخل تشكيلات المتجندين نفسها أيضاً – تتعرض للتآكل المستمر. وينطوي هذا على خطر جسيم، إذ إن تآكل قيمة إسرائيلية عامة مركزية مثل قيمة المساواة في الخدمة العسكرية قد يمس بدافعية أبناء الشبيبة ورغبتهم في التجند للجيش. قد يتجسد الأمر اليوم في مقولة “إذا كانت هنالك بضعة جيوش في الجيش الإسرائيلي، فلستُ مستعداً للخدمة في جيش فيه صنف ب أو ج”. وإذا ما انخفض عدد المتجندين بسبب تغيّر صورة الجيش، فسيبدو المجتمع كله والجيش نفسه بصورة مغايرة أيضاً.
للجيش المهني ثمن
•ثمة سيرورات مماثلة، ليست أقل إقلاقاً، تحدث بين أوساط الجنود والضباط النظاميين أيضا. التقرير الذي وضعه “قسم العلوم السلوكية” في العام 2016 تقصى الأمزجة السائدة بين المجندين حيال التقليصات الحادة جداً وحيال عملية جعل الجيش أكثر شباباً، والتي حددت سن 42 عاماً حداً أقصى للاعتزال. وقد أشار التقرير إلى مشاعر قاسية جداً لدى الجنود والضباط النظاميين في كل ما يتعلق بالتزام الجيش تجاههم. وحين سئلوا ما إذا كانوا سيوصون أصدقاءهم بمواصلة الخدمة النظامية للمدى الطويل، رد 50% منهم بالسلب. و69% منهم فقط قالوا إنهم يثقون بالقيادة العليا، مقابل 82% في استطلاع سابق أجري قبل ذلك بسنة واحدة. ويدل هذا التقرير على وجود مشاعر لحظية لدى أفراد الجيش النظامي وعلى انعدام الاستقرار التنظيمي، وهو ما يشكل أحد الأثمان التي يدفعها الجيش في خطة “جدعون”.
•وثمة ثمن باهظ آخر لخطة “جدعون”: إلى جانب تقليص 400 وظيفة في ملاكات النظاميين، ما يعني عملية فصل بالجملة، تم تقليص نحو 2,000 ملاك نظامي آخر في الجيش “التقليدي”، وخاصة في سلاح البرية، وتحويلها إلى ذراع التكنولوجيا المتقدمة. الجزء الأكبر من الملاكات التي تم تقليصها في سلاح البرّ هي ملاكات لضباط صف في مجالات الإسناد القتالية، وهو ما تجسد في كل زوايا التشكيلات اللوجستية – ابتداء من التسليح وانتهاء بمخازن الطوارئ. ولهذا، يبدي القادة الميدانيون تخوفا من تآكل الأساس المهني لصيانة الآليات – الدبابات، ناقلات الجند المدرعة وغيرها. هذان المركبان – مشاعر النظاميين والمس بالتشكيلات اللوجستية – يشكلان خطراً كبيراً على خطة “جدعون” برمّتها. لقد شيّدوا بنياناً يشكل مفخرة، لكن الأسس التي يقوم عليها مخلخَلة.
_________
– ترجمه عن العبرية: سليم سلامة. راجع الترجمة: أحمد خليفة.

المصدر: ملحق السبت”، صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole