التحدي أمام الدول الخليجية حيال الوضع في أسواق النفط

Spread the love

بقلم: يوئيل غوجانسكي* وشموئيل إيفن** – –
•لمواجهة التقلبات الحادة في أسواق النفط العالمية، تلجأ الدول الخليجية إلى اعتماد تدابير تكيف اقتصادية تشكل تحديات سياسية أمام الأنظمة الحاكمة. فقد اضطرت، ضمن أشياء أخرى، إلى تقليص إنتاجها من النفط ابتداء من كانون الثاني/يناير 2017، وتقليص مصروفاتها على مشروعات جديدة، وإعادة الميزانيات التي لم يجر استغلالها إلى وزارات المالية. وتشكل تدابير التكيف الاقتصادية والإصلاحات تحدياً سياسياً خطراً أيضاً، لأن نجاحها مرهون بتعديل شروط “العقد الاجتماعي” بين المواطنين والقصور الملكية، الذي كان يضمن للمواطنين، حتى الآن، مستوى مرتفعاً من الرفاه من دون جهد يُذكر، لقاء المحافظة على النظام السياسي القائم.

•تواصل الدول الخليجية (السعودية، والكويت، والإمارات العربية المتحدة، وعُمان، والبحرين، وقطر) مواجهة التقلبات الحادة في أسواق النفط العالمية، ولا سيما السعودية التي تشكل لاعباً مركزياً في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك – OPEC) ويبلغ تعداد سكانها نحو 28 مليون نسمة (نحو 30 بالمئة منهم هم رعايا أجانب). وفي السنوات الأخيرة، هبط سعر برميل النفط الذي تنتجه “أوبك” (OPEC Basket Price) من 106 دولارات أميركية (في المتوسط) في سنة 2013 إلى 96 دولاراً في سنة 2014، ثم إلى 50 دولاراً في سنة 2015 وإلى 41 دولاراً في سنة 2016. وفي السنة الحالية (2017)، يبلغ سعر برميل النفط حالياً نحو 51 دولاراً في المتوسط (نحو 47 دولاراً في 8 أيار/مايو 2017)، أي أن مدخولات الدول الخليجية من عوائد النفط لا تزال أقل من نصف ما كانت عليه قبل سنوات قليلة. وسعياً منها لمواجهة هذا الوضع في أسواق النفط، تعتمد الدول الخليجية تدابير تكيف اقتصادية تفرض على الأنظمة الحاكمة تحديات سياسية كبيرة.

•في أعقاب الهبوط الحاد في مدخولاتها من عائدات النفط، إلى جانب ضغوط مارستها دول أخرى منتجة للنفط، اضطرت الدول الخليجية، وفي مقدمها السعودية، إلى تقديم تعهد (في اتفاق تم توقيعه أواخر سنة 2016) بتقليص إنتاجها من النفط خلال النصف الأول من سنة 2017. ومن أصل 1,2 مليون برميل نفط في اليوم وافقت “أوبك” على تقليصها من مجمل إنتاجها (اليومي)، فُرض على السعودية تقليص نصف مليون برميل في اليوم، بالإضافة إلى اضطرارها إلى القبول برفض إيران إجراء أي تقليص في إنتاجها النفطي. صحيح أن هذا الاتفاق أدى إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار النفط، مقارنة بالتراجع الحاد الذي سجله في سنة 2016، إلاّ إن الأسعار لا تزال متدنية نسبياً. وفي المرحلة الحالية، تطمح الدول الخليجية إلى رفع سعر النفط إلى نحو 60 دولاراً للبرميل، بما قد يقرّبها من تحقيق ميزانيات متوازنة، لكن غموضاً حاداً يكتنف أسعار النفط في المستقبل، وقد تعود هذه إلى الهبوط والتراجع مجدداً في ظل أزمة الثقة بين الدول المنتجة للنفط، وزيادة الإنتاج في الدول غير الملتزمة بالاتفاق (وفي مقدمها الولايات المتحدة التي يرتفع إنتاجها النفطي باستمرار) وتراجع الطلب على النفط في العالم إلى ما دون المستوى المتوقع.

•طبقاً لنشرة “أوبك” الصادرة في نيسان/أبريل 2017، تشير التوقعات إلى أن حجم الطلب على النفط في العام في سنة 2017 سيبلغ نحو 96,3 مليون برميل في اليوم (في المعدل)، مقابل 95,1 مليون برميل في اليوم في سنة 2016، أي بارتفاع طفيف عما كان عليه سابقاً. وفي اللقاء القريب المرتقب، الذي سيعقد يوم 25 أيار/مايو الجاري، من المخطط مناقشة اقتراح يقضي بتمديد فترة الاتفاقية بشأن تقليص إنتاج النفط. وكان وزير النفط السعودي قد قال، يوم 8 أيار/مايو، أنه واثق تماماً بأن الاتفاقية ستبقى سارية خلال النصف الثاني من العام الجاري، 2017، وربما إلى ما بعد ذلك أيضاً. وثمة مصلحة لدول شريكة أخرى بتمديد هذه الاتفاقية، بينها سورية مثلاً، لأن عدم تحقيق ذلك قد يؤدي إلى هبوط حاد في أسعار النفط. والمعروف أن الانخفاض الحاد في المداخيل من عائدات النفط خلال السنوات الأخيرة سبب عجزاً مالياً كبيراً في ميزانيات الدول الخليجية. فعلى سبيل المثال يبلغ العجز المخطط في الميزانية السعودية لسنة 2017، 53 مليار دولار (7,7 بالمئة من الناتج القومي الإجمالي)، وهو أقل بكثير من مستويات العجز المرتفعة التي سُجّلت خلال السنتين الفائتتين، لكنه ما زال يستوجب مواصلة التمويل بواسطة السحب من احتياطي العملات الأجنبية أو بواسطة الحصول على القروض. خلال السنوات الأخيرة، وفي أعقاب السحب منها، هبطت أرصدة احتياطي العملات الأجنبية في السعودية من نحو 725 مليار دولار في أواخر سنة 2014 إلى نحو 550 مليار دولار (طبقاً للتقديرات) في أواخر سنة 2016، أي أنها قلّت بنحو 175 مليار دولار. وعلاوة على ذلك، تجند المملكة الأموال بواسطة إصدار سندات دين: تم تجنيد 17,5 مليار دولار في تشرين الأول/أكتوبر 2016 و9 مليارات دولار في نيسان/أبريل 2017.

•لقد أجبر تآكل احتياطي العملات الأجنبية، إلى جانب الغموض الذي يلف أسعار النفط في المستقبل، الدول الخليجية على انتهاج سياسة اقتصادية انكماشية تشمل إجراءات حادة للتنجيع والتوفير. كما أدت التقليصات التي أجريت في الإعانات المالية الحكومية، حتى الآن، إلى ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء والغاز والمياه. وفي إطار التدابير التوفيرية، صدرت التوجيهات إلى الهيئات والمؤسسات الحكومية المختلفة بتقليص المصروفات على المشاريع الجديدة وبإعادة الميزانيات التي لم يجر استغلالها إلى خزينة وزارة المالية.

•وستبدأ الدول الخليجية الست، وفقاً لما هو مخطط، بجباية “ضريبة القيمة المضافة” بنسبة 5٪ من مواطنيها، وذلك ابتداء من السنة المقبلة 2018. صحيح أن الأدوية والمواد الغذائية الأساسية ستكون معفية من هذه الضريبة، لكن من الواضح تماماً أن هذه الخطوة ستعني تغييراً في توجهات القصور الملكية نحو المواطنين المعتادين على بيئة حياتية خالية من الضريبة.

•وتنعكس الإصلاحات الاقتصادية في الدول الخليجية، أيضاً، على سوق العمل المرتكز أساساً على العمالة الأجنبية. فالسعودية تشن، خلال السنوات الأخيرة، حملات طرد جماعية بحق العمال الأجانب الذين يفتقرون إلى المهارات المهنية المطلوبة لتطوير الاقتصاد من جهة، بينما تقدم محفزات لتشغيل العمال المحليين من جهة أخرى. بيد أن كثيرين جداً من الشبان السعوديين يتخرجون من جهاز التعليم وهم يفتقرون إلى أدنى المؤهلات المطلوبة للانخراط في القطاع الخاص، بينما يطالبون برواتب أعلى من تلك التي تُدفع للعمال الأجانب. والنتيجة هي أن القطاع العام يشغّل 90 بالمئة من المواطنين السعوديين، بينما يشكل العمال الأجانب 90 بالمئة من العاملين في القطاع الخاص.
•تضمَّن كتاب الميزانية السعودية لسنة 2017 إشارة إلى أن الحكومة، باعتمادها سياسة مالية تشمل إجراءات التنجيع والتوفير، تطمح إلى تحقيق توازن في ميزانية الدولة حتى سنة 2020، لكن يبدو أن تحقيق هذا الهدف مرهون، بصورة أساسية، بما ستكون عليه أسعار النفط خلال السنوات المقبلة. وينبغي التشديد على أنه بالرغم من محددات وقيود الميزانية العامة، فإن السعودية لم تلجأ حتى الآن إلى أي توفير في المصروفات العسكرية، وذلك إزاء التحديات والتهديدات الأمنية التي تواجهها. ففي سنة 2016، بلغت المصروفات العسكرية نحو 55 مليار دولار (8,6 بالمئة من الناتج القومي)، مقابل نحو 48 مليار دولار كانت في التخطيط الأصلي. أمّا المصروفات العسكرية المخططة لسنة 2017 فتبلغ نحو 51 مليار دولار.

•أدت التقلبات الكثيرة والحادة في أسواق النفط العالمية، على مدى عشرات السنين، إلى تعميق وعي الدول الخليجية وطموحها بضرورة التحرر من الاتكال العميق على إيرادات النفط ـ من خلال التنجيع وتنويع مصادر الدخل وتبني مبادئ الاقتصاد الحديث. وقد شكلت هذه الفكرة عماد الخطة الطموحة المتعددة السنوات ـ “رؤية السعودية 2030” ـ التي أعلنتها العربية السعودية في سنة 2016. والسنة الحالية، 2017، هي السنة الأولى من تطبيق هذه الخطة، والتي بدأت الاستعدادات لإصدار 5 بالمئة من أسهم شركة النفط الوطنية (أرامكو) من أجل تمويلها.

•وتنبع الصعوبة المركزية في تحويل اقتصاديات الخليج المعتمدة على النفط إلى اقتصادات متنوعة، من واقع أن الاستقرار السياسي في تلك الدول، والذي تحميه وتعززه أموال النفط، مرتبط ارتباطاً مباشراً بمستوى الحياة المرتفع نسبياً الذي يحظى به المواطنون هناك. وعلى هذا، فإن السؤال بشأن التقليصات (أين وكم) هو سؤال سياسي بقدر ما هو اقتصادي ويعتبر أحد التحديات المركزية التي تواجهها الحكومات في تلك الدول. فعلى سبيل المثال، أدى الارتفاع في أسعار البنزين في البحرين وعُمان، نتيجة تقليص المعونات الحكومية، إلى انطلاق تظاهرات احتجاجية جسدت، على الرغم من محدودية نطاقها، مدى الخطر الكامن في مثل هذه الخطوة أو ما هو أوسع منها. وثمة تحد إضافي آخر يواجه مهمة تطبيق هذه الإصلاحات يتعلق بالحاجة إلى ملاءمتها لقواعد الاقتصاد الحديث، وخصوصاً المبادرات الفردية الضرورية لتطوير القطاع التجاري الخاص والشفافية ودمج النساء في سوق العمل وغيرها. لكن ثقافة المبادرة ليست متطورة في دول الخليج، حيث اعتاد المواطنون على أن الدولة هي التي تهتم بإعالتهم وبتوفير جميع احتياجاتهم تقريباً، فالخدمات المجانية والدخل الجاري من الدولة تُعتبر في نظرهم حقاً أساسياً يستحقونه تلقائياً، وهو ينبع من حقيقة كونهم مواطنين مخلصين للعائلات الحاكمة. ولهذا، فإن المس الجدي بهذا الحق قد يجر المس بشعور الإخلاص هذا لديهم. لا شك في أن الأنظمة مدركة لهذه المخاطر وقد تصرفت في إدارتها حتى الآن بحذر شديد، وعلى الرغم من الضغوط الاقتصادية، لم تظهر في الدول الخليجية حتى الآن علامات جدية على غليان اجتماعي. ومع ذلك، ليس من الواضح كيف سيتقبل المواطنون هذه الإجراءات المخططة، مثل فرض “ضريبة القيمة المضافة” مثلاً، وكيف سيقابلونها.

•قد توقع التطورات في أسواق النفط العالمية، في مختلف الاتجاهات، الأنظمة الحاكمة في دول الخليج في ورطة: استمرار مستوى الأسعار الحالي، أو هبوطها طبعاً، سيجعل من الصعب عليها تمويل الإصلاحات المخططة لسنوات طويلة مقبلة. في المقابل، من شأن الارتفاع الحاد في أسعار النفط أن يزيد من الضغط الجماهيري للتخلي عن هذه الإصلاحات، وضمنها الخطوات المطلوبة لتقليص الاتكال على النفط، وسيشجع في المقابل ارتفاعاً سريعاً في إنتاج النفط في العالم وتسريع وتيرة الانتقال إلى مواد بديلة من النفط، الأمر الذي سيُحدث تقلبات حادة أخرى في أسعار النفط وفي عائداته. ومن هنا، يبدو أن الدول الخليجية تفضل حصول ارتفاع طفيف في أسعار النفط.

•إجمالاً، يفترض حكام الدول الخليجية أن أسعار النفط المرتفعة، كما كانت بين سنتي 2011 و2014، لن تعود ثانية خلال السنوات المقبلة، ولذا تستعد هذه الدول لاستمرار الوضع الحالي في أسواق النفط العالمية. وتتركز هذه الاستعدادات في اعتماد تدابير تكيف اقتصادية تشمل، بين ما تشمل، تقليص المصروفات الحكومية والنية بفرض “ضريبة القيمة المضافة” على المواطنين بغية الإبطاء قدر الإمكان من وتيرة سحب الأموال من احتياطي العملات الأجنبية ومراكمة الديون والاضطرار إلى الاقتراض، سعياً للاقتراب من وضع تكون فيه الميزانيات متوازنة. وإلى جانب هذا، تبرز جهود واضحة لإجراء تغييرات بنيوية في مصادر دخل هذه الدول، سعياً لتقليص مدى تأثرها بالتقلبات الحاصلة في أسواق النفط. وعلاوة على التحدي الاقتصادي، تشكل تدابير التكيف والإصلاحات تحدياً سياسياً خطراً، أيضا، لأن نجاحها مرهون بتغيير شروط “العقد الاجتماعي” بين المواطنين والقصور الملكية والأميرية، والذي ضَمِن للمواطنين، حتى الآن، مستوى عالياً من الرفاه من دون بذل مجهود يذكر، في مقابل المحافظة على النظام السياسي القائم. وعلى هذا، تنطوي الإجراءات الاقتصادية، كلما تعمقت أكثر فأكثر، على مخاطر جسيمة على الاستقرار الداخلي في دول الخليج، وقد تحتد هذه وتتفاقم كلما ظهرت ضغوط سياسية محلية أو تدخلات ومؤامرات خارجية، من جانب إيران وعملائها. وعلاوة على هذا، قد يكون للوضع الاقتصادي في دول الخليج انعكاسات، أيضاً، على مدى استقرار الأنظمة في بعض الدول الأخرى في الشرق الأوسط، وخصوصاً تلك التي تحصل منها على مساعدات اقتصادية مباشرة أو غير مباشرة (بواسطة تشغيل عمال من مواطنيها، أساساً)، وبينها مصر والأردن.

*د. يوئيل غوجانسكي هو باحث زميل في معهد دراسات الأمن القومي، وباحث ضيف في معهد هوبر، جامعة ستانفورد وزميل في معهد إسرائيل وصندوق فولبرايت.

*د. شموئيل إيفن هو باحث كبير في معهد دراسات الأمن القومي.

المصدر: مجلة “مباط عال” الإسرائيلية، العدد 926، 8/5/2017 ، ترجمة: نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole