الأزمة الاقتصادية في السلطة الفلسطينية: حان الوقت لتحذير استراتيجي

Spread the love

بقلم: ميخائيل ميلشتاين – رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز موشيه دايان لدراسات الشرق الأوسط- وأفريقيا. عمل منسقاً لأنشطة الحكومة في المناطق، ورئيساً لشعبة الساحة الفلسطينية في الاستخبارات العسكرية —

يستند المفهوم الاستراتيجي الإسرائيلي للمحافظة على الاستقرار والتهدئة الأمنية في مناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية) منذ أكثر من عشر سنوات إلى تحسين دائم للوضع الاقتصادي ونسيج حياة السكان الفلسطينيين، بالإضافة إلى تعاون وثيق مع السلطة الفلسطينية. كثيرون في إسرائيل رأوا في هذا التوجه وسيلة لإقامة “سلام اقتصادي”، أي لضمان استقرار أمني من دون مفاوضات أو تسوية سياسية، من خلال التمييز بين السلطة الفلسطينية وبين أغلبية الجمهور في المنطقة.
في الوقت عينه، وطوال عقد تحذّر جهات متعددة في إسرائيل من حدوث تغير استراتيجي سلبي من المنتظر أن يحدث في الساحة الفلسطينية بصورة عامة وفي الضفة الغربية بصورة خاصة. في مركز التحذير هناك سيناريوهات رعب لانتفاضة ثالثة، وموجات إرهاب وتفكك السلطة الفلسطينية. الحجة المركزية التي استند إليها هذا التحذير هي أن الجمود السياسي المستمر منذ عدة سنوات، والابتعاد المستمر للفلسطينيين عن هدف الدولة المستقلة يمكن أن يشجع على التخلي عن مشروع الحكم المستقل – والأخطر من ذلك – العودة إلى أسلوب النضال العنيف. فعلياً، وعلى الرغم من تحديات واضطرابات كثيرة، لم يتحقق هذا التغير الاستراتيجي. فقد حافظ، سواء الحكم أو الجمهور الفلسطيني، في الضفة الغربية على ضبط النفس وتجنب التصعيد، حتى بعد مفترقات كان من المفترض أن تؤدي إليه وعلى رأسها: ثلاث معارك عسكرية في قطاع غزة، أزمة مستمرة في العلاقات مع إسرائيل، الهجوم القاسي الذي وقع في قرية دوما (تموز/يوليو 2015) [إقدام مستوطنين يهود على إشعال النار في منزل عائلة دوابشة في القرية، وهو ما أدى إلى مقتل الأب والأم وطفلهما الرضيع]، موجة الإرهاب التي بدأت منذ تشرين الأول/أكتوبر 2015 (“انتفاضة الأفراد”)، انتقال السفارة الأميركية إلى القدس (أيار/مايو 2018)، وأيضاً إضراب الأسرى، والعديد من أيام الذكرى الوطنية.
لا يدل الهدوء النسبي في الضفة الغربية على تبدد الهوية والتطلعات الوطنية للفلسطينيين، بل هو يشكل انعكاساً لصياغة محدثة للأهداف الجماعية وتكيفها، سواء مع تغيرات جيو – استراتيجية، أو نتيجة تغيرات طرأت على صورة المجتمع الفلسطيني. التهدئة النسبية ناجمة عن خمسة أسس مترابطة:
صدمة الذكرى الجماعية لأغلبية الجمهور الفلسطيني من سنوات المواجهة مع إسرائيل (منذ سنة 2000)، والخوف من إمكان تجددها.
معرفة بالأزمة العميقة التي تسود معظم العالم العربي (بما في ذلك قطاع غزة) نشأ على أساس منها إدراك جماعي بين الفلسطينيين في الضفة الغربية مفاده أنه على الرغم من الصعوبات غير القليلة التي يواجهونها، في الأساس في ضوء السيطرة الإسرائيلية، ما يزال وضعهم أفضل [من غيرهم] بصورة نسبية.
نسيج حياة مستقرة نسبياً – في الأساس بفضل سياسة إسرائيل على المستوى المدني – أوضح ثمن الخسارة التي ينطوي عليها التوجه نحو المواجهة.
بروز جيل شاب يولي تحقيق الذات والدفع قدماً بمسيرته المهنية الشخصية أهمية كبيرة، ويشعر بالغربة إزاء القيادة الوطنية، وتعب من الشعارات الإيديولوجية التي كانت تحرك الساحة الفلسطينية في الماضي. الدليل الملموس على هذا التوجه التراجع طوال سنوات في عدد المشاركين في المناسبات التي تجري إحياءً لذكرى وطنية، بخلاف مشاركة الشباب الواسعة في الاحتجاجات الاقتصادية، مثل التظاهرات الجماهيرية ضد قانون الضمان الاجتماعي في السلطة الفلسطينية.
سعي كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية لمنع التدهور على الأرض رغبة في المحافظة على موقعهم السياسي وخوفاً من تكرر سابقة سيطرة “حماس” على قطاع غزة (2007) أيضاً في الضفة الغربية. ويبرز في هذا السياق تمسُّك الفلسطينيين بالمحافظة على التنسيق الأمني الذي يشكل للطرفين دعامة أساسية لاستمرار الاستقرار في المنطقة.
لكن، في مقابل الاستقرار في الضفة الغربية برز في الأشهر الأخيرة تحدٍّ كبير اتخذ صورة أزمة اقتصادية تزداد تفاقماً. السبب الأساسي لنشوئها قرار السلطة الفلسطينية وقف الحصول على أموال الاعتمادات [أموال الضرائب الجمركية التي تجبيها إسرائيل للسلطة على المعابر الحدودية]، والتي تشكل نصف الميزانية- 9 مليار شيكل من مجموع نحو 18 مليار في سنة 2018. جاء هذا رداً على قرار إسرائيل حسم المبلغ الذي يدفعه الفلسطينيون إلى عائلات الأسرى من أموال العائدات. التقلص الكبير في الميزانية دفع السلطة الفلسطينية إلى إعلان سياسة طوارىء اقتصادية قبل شهرين، أساسها حسم نحو 40-50 % من أجور نحو 160 ألف موظف (بينهم 65 ألف موظف في أجهزة الأمن). بالإضافة إلى ذلك، طلبت السلطة الفلسطينية مساعدة العالم العربي، الذي تعهد تقديم 100 مليون دولار سنوياً (حتى الآن لم يتحقق هذا عملياً). يجدر التشديد على أن إسرائيل أوقفت في الماضي تحويل أموال العائدات عدة مرات، وخصوصاً في أثناء انتفاضة الأقصى، وهذه خطوة كان لها تأثير دراماتيكي على الواقع الاقتصادي في المناطق. وفي حالات أُخرى تراجعت إسرائيل عن مثل هذه الخطوات بعد أن أدركت احتمال أن يؤدي ذلك إلى تدهور، كما جرى في مطلع سنة 2015، بعد انضمام السلطة الفلسطينية إلى مجموعة منظمات دولية.
التقرير الأخير للبنك الدولي الذي استطلع الوضع الاقتصادي- الضريبي في السلطة الفلسطينية قبيل اجتماع “الدول المانحة”، قدّم نظرة ثاقبة للأزمة الاقتصادية. جاء في التقرير أن النمو في السلطة الفلسطينية في 2018 تميز باستمرار الانكماش وبلغ 0.9% في الضفة الغربية (نمو سلبي على خلفية الزيادة الطبيعية للسكان التي تبلغ نحو 3%). بالإضافة إلى ذلك كشف التقرير أن التقلص المستمر في المساعدة الغربية للفلسطينيين (المسجل منذ عقد)، بعكس ازدياد المساعدة التي تقدمها الدول العربية (التي ما تزال أقل بصورة كبيرة من المساعدة الغربية). في سنة 2010 وصلت المساعدة الاقتصادية للسلطة الفلسطينية إلى نحو 4.5 مليار شيكل، وانكمشت في 2018 إلى ملياري شيكل. يجب أن نضيف إلى ذلك الانخفاض في ميزانية الأونروا التي يعتمد عليها قطاع اللاجئين في “المناطق” وفي الشتات، وأيضاً تقليص المساعدة الأميركية للفلسطينيين جرّاء الخلاف الحاد بين واشنطن ورام الله في السنة الأخيرة.
الأزمة الاقتصادية المستفحلة تبرر في الوقت الحالي طرح التحذير من تغيّر استراتيجي محتمل في المنظومة الفلسطينية. إن استمرار الأزمة وقتاً طويلاً يمكن أن يؤدي إلى بروز عدة تهديدات بالنسبة إلى إسرائيل: توسُّع دائرة الفلسطينيين المتورطين في عمليات عنيفة، في الأساس أعمال شغب وهجمات، في ضوء الإحباط المتزايد وتغيّر مقاييس الربح والخسارة الراهنة السائدة في وسط الجمهور الفلسطيني؛ صعوبات في أداء السلطة الفلسطينية على الصعيد المدني، سيخلق فراغاً تضطر إسرائيل إلى أن تملأه، مثلاً في مجال البنى التحتية المدنية (سيناريو يمكن أن يعمق اعتماد الجمهور الفلسطيني على إسرائيل و”الاستغناء” عن الحكم الفلسطيني بالتدريج)؛ “رفع رأس” حماس” في ظل عجز السلطة الفلسطينية؛ المساس بالتنسيق الأمني، بين أمور أخرى، في أعقاب تفسيرات شخصية لعناصر على الأرض في الأجهزة – الذين تضرروا شخصياً من الأزمة الاقتصادية – أو تهديد كبار المسؤولين في “فتح” والسلطة بوقف العلاقات مع إسرائيل (تطورات في هذا الاتجاه يمكن أن تبرز من خلال تقييد التعاون مع أطراف أمنية إسرائيلية، وفي أقصى الحالات – تشجيع الإرهاب).
الأزمة الاقتصادية الحالية لها علاقة بـ”صفقة القرن” التي من المتوقع أن تُعرض قريباً، والربط بين الأمرين خلال وقت واحد يمكن أن يكون مفجراً. في نظر الفلسطينيين، الضغط الاقتصادي ومبادرة ترامب ينطويان على “مؤامرة إسرائيلية – أميركية” منسقة، هدفها فرض تسوية تخدم مصالح إسرائيل والولايات المتحدة، ولا تتطابق مع مصالح الفلسطينيين. حتى الآن علاقة أغلبية الجمهور الفلسطيني بصفقة القرن تتأرجح بين عدم الاهتمام والعدائية، وفي جميع الأحوال يتصدر جدول الأعمال العام الأزمة الاقتصادية وليس المشكلة السياسية. لكن تقديم الخطة بينما المؤسسة الفلسطينية بأسرها غارقة في أزمة اقتصادية يمكن أن يفاقم التوتر العام ويوحد الجمهور والقيادة حول الإحساس بتهديد مشترك. السلطة الفلسطينية يمكن أن تؤجج الغليان الشعبي مع نشر المبادرة الأميركية، كي تجسّد التحديات الداخلية التي تقف في مواجهتها.
القيادة الفلسطينية ما تزال تُظهر نفوراً مبدئياً من العنف ومن فكرة “تفكيك السلطة”. ويبدو أنها تحاول إدارة أزمة حادة لكن مضبوطة، هدفها الوصول إلى وقف العقوبات التي فرضتها إسرائيل والولايات المتحدة على الفلسطينيين، وفي المقابل إحباط “صفقة القرن”. لكن الدينامية الناشئة عن الغليان العام يمكن أن تتفاقم في ضوء استمرار الأزمة الاقتصادية، وأن تكون أقوى من قدرة السلطة الفلسطينية على التخطيط والسيطرة، وأن تجر المنظومة كلها إلى مواجهة لا يمكن السيطرة عليها.
حتى الآن ليس هناك تعبير كبير عن غليان في الشارع، ويبدو أن الجمهور الفلسطيني ما يزال تحت وقع الصدمة أو في مرحلة استيعاب الوضع الجديد. لكن الإحباط والغضب المتراكمين يمكنهما أن ينفجرا من دون “مؤشرات دالة”. هذه التفجيرات يمكن أن تتجسد في تعابيرمتعددة موقتة أو بالتدريج: احتكاكات شعبية واسعة النطاق بإسرائيل؛ زيادة عمليات الإرهاب – العفوية أو المنظمة؛ احتجاج عام ضد السلطة الفلسطينية. في الخطاب الفلسطيني العام هناك من يدّعي أن الضفة الغربية مختلفة عن قطاع غزة: بينما يُظهر الغزيون “قدرة على الامتصاص”، وتعودوا على ضيق العيش منذ سنوات عديدة، فإن التغير السلبي في الضفة، كما يتطور اليوم، هو غير محتمل ويمكن أن يؤدي إلى انفجار واسع وسريع.
لم تصل إسرائيل والسلطة الفلسطينية إلى نقطة لا عودة عنها. تسوية مشكلة الأموال المخصصة لعائلات المخربين يمكن أن تكون مفتاح الحل للأزمة الحالية بصورة تسمح من جديد بتحويل أموال العائدات إلى الصندوق الفلسطيني. يتعين على حكومة إسرائيل أن تعترف بأنها أمام خيارين: السيء والأسوأ، ويجب عليها أن تتعامل مع السلطة الفلسطينية بنفس المرونة التي تظهرها في هذه الأيام حيال التهدئة في قطاع غزة (التي ما تزال هشة للغاية). كما في قطاع غزة، كذلك في الضفة الغربية، المقصود هو تسوية في مقابل استقرار استراتيجي ومنع تصعيد ذي انعكاسات خطِرة من الناحيتين الأمنية والسياسية. البعد الزمني له أهمية حاسمة في هذا السياق. كلما كان إيجاد الحل أسرع، كلما تراجعت معقولية التصعيد، وكلما تأخرت التسوية، يزداد خطر تهديد مواجهة لا يمكن السيطرة عليها.

المصدر: مجلة مباط غال الإسرائيلية – عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطنية

Optimized by Optimole