هآرتس: إسرائيل تدفع بسكان القدس الشرقية إلى مسار هدم مخطط له سلفاً

Spread the love

عميرة هاس – مراسلة المناطق الفلسطينية المحتلة

منذ سنة 1967، تدفع إسرائيل بسكان الأحياء الفلسطينية في القدس إلى البناء من دون تراخيص: فهي تصادر الأراضي لمصلحة المستوطنات، تقرّ القليل فقط من خطط البناء وتشجعهم فعلياً على المغادرة. والتصريح الذي أصدرته “محكمة العدل العليا” هذا الأسبوع لهدم المباني في صور باهر لم يكن سوى مسمار آخر فقط.

الطرق المؤدية إلى وادي الحمص ضيقة كلها، وعرة، مليئة بالحُفر وشديدة الانحدار إلى درجة تقبض الأنفاس وتضطرك إلى السفر ببطء شديد. الشوارع الضيقة محاصرة بمبانٍ مزدحمة جداً، غير متجانسة الطراز والجودة والمظهر الخارجي. هنا وهناك، تبرز بعض البيوت الحجرية القديمة التي لم تفقد رونقها على الرغم من الإضافات المتعجلة لبعض الغرف أو لطبقة كاملة. في غياب الأرصفة، يسير الناس بين السيارات، المتوقفة والمسافرة. الازدحام المعماري في قرية صور باهر هو خلفية بصرية ضرورية لفهم عمليات الهدم التي حدثت هذا الأسبوع في الحي الواقع عند طرفها الجنوبي الشرقي.
يعني اسم صور باهر السور العظيم أو السر العظيم (إشارة إلى لقاء سري عُقد في القرية، بحسب إحدى الروايات، وخلاله خطّط الخليفة عمر بن الخطاب لاقتحامه القدس في سنة 637). وترِد، في بعض الدراسات المتعلقة بالقرية، فرضيات بشأن التحولات التي طرأت على الاسم من حقب تاريخية أقدم بكثير. لكن الاسم في صيغته المعروفة اليوم ذُكر لأول مرة في الإحصاء السكاني العثماني من سنة 1596، حين كانت تقيم في القرية 29 عائلة كانت تعمل في الزراعة وتربية الأبقار. كانت تلك العائلات تسكن في مغاور طبيعية، وحين كبرت واتسعت بدأت ببناء بيوت حول باحات عائلية. خلال تلك الفترة كلها، واصل السكان العمل في الزراعة ورعي المواشي في المنطقة الواسعة، من دون حدود، ما بين القدس وبيت لحم. هذا التاريخ، بإيجاز شديد، ضروري لفهم مدى عمق الإهانة الناجمة عن التراكب المعماري.
عندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية في سنة 1967، كان عدد أحفاد العائلات الأصلية في القرية 4.700. أمّا اليوم، فيبلغ عدد السكان في القرية التي تحولت إلى “حي” قرابة 24 ألفاً (بمن فيهم سكان قرية أم طوبا المجاورة وحي آخر أقامه أبناء عشيرة العُبيدية قبل مئة عام).
الكثافة غير المحتملة، البارزة جداً، ليست وليدة الصدف، بل ثمرة سياسات إسرائيلية، في صور باهر كما في القرى الفلسطينية الأُخرى التي قامت إسرائيل بضمها إلى القدس. وحتى لو كان التبرير لعمليات الهدم هذا الأسبوع مختلفاً عمّا هو معتاد، إلّا إنها تشكل حلقة في سلسلة.
لم يكن قِدم صور باهر ولا الازدحام المقصود فيها بين الأمور التي التفت إليها واهتم بها قضاة “محكمة العدل العليا”، ميني مزوز، عوزي فوغلمان ويتسحاق عميت، حين أقرّوا هدم المباني السكنية في احتياطي الأرض الوحيد الذي تبقى للقرية. قرابة 6.000 إنسان يسكنون في وادي الحمص، بعضهم في مبان سكنية متعددة الطبقات، ملاصقة للجدار العازل. يوم أمس الأول، كان في الإمكان تحسس الخوف الذي استبد بسكان تلك المباني، تحسباً من إقدام إسرائيل على هدم بيوتهم هم أيضاً. توفر الدراسات والتقارير الصادرة عن مؤسسات متعددة، بينها معهد القدس لدراسة إسرائيل، الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وغيرهما، المعطيات والحقائق الواردة هنا وتوضح كيف تم تعبيد الطريق إلى ذلك الخوف الحقيقي.
عشية احتلال القرية في سنة 1967، تراوحت مساحتها بين 9.000 و10.000 دونم. وتذكر المصادر المتعددة أرقاماً مختلفة قليلاً. تم ضم الجزء الأكبر من مساحة القرية إلى القدس وإدخاله ضمن حدود العاصمة وبقي نحو 1.500 حتى 2.000 دونم من صور باهر خارج الحدود البلدية، ضمن مناطق “الضفة”. لكن الحيز في نظر السكان بقي هو نفسه.
اتخذت إسرائيل إجراءات تخطيطية متعددة كان لاثنين منها، بصورة خاصة، أثر كبير في السكان: الأول، مصادرة نحو 2.250 دونماً من أراضي القرية في سنة 1970 لغرض إنشاء “أرمون هنتسيف”، “حي”، كما يسميه الإسرائيليون، و”مستوطنة غير قانونية”، كما يسميه الفلسطينيون والقانون الدولي. في أواسط التسعينيات، تمت مصادرة 250 دونماً أُخرى لمصلحة [مستوطنة] “هار حوماه” التي تحصر القرية من الجنوب. هذا ما حدث ليس في صور باهر وحدها فقط: منذ سنة 1967، صادرت إسرائيل نحو 38% من المساحة الفلسطينية التي ضمتها إلى العاصمة، والتي بلغت نحو 70 كيلومتراً مربعاً، لغرض بناء أحياء مزدهرة ومخضرّة لليهود.
الإجراء الثاني الذي شعر به الناس بصورة جدية كان تقييد البناء في القرى الفلسطينية التي جرى ضمها. فقد أعلنت السلطات مساحات واسعة منها كمناطق مفتوحة يُحظر البناء فيها. في الأُخرى، تم تحديد نسبة متدنية للبناء بغية الحفاظ على “الطابع القروي” – أي، جرى تحديد المساحة المسموح بالبناء عليها من كل قسيمة. وفي المقابل، في الأحياء/ المستوطنات المجاورة، جرى تخطيط وبناء بنايات متعددة الطبقات. هذا الفارق البارز يصرخ بما لا تحاول إسرائيل حتى إخفاءه: إنها تريد المحافظة على أغلبية يهودية في المدينة، بأية وسيلة، وتشجيع هجرة الفلسطينيين منها إلى الخارج. الأدوات الرئيسية التي تعتمدها لهذا الغرض هي انعدام التخطيط، التخطيط الرديء، الإهمال، التمييز، شح أماكن وفرص العمل، عزل الأحياء العربية عن فضائها الطبيعي والهدم. وهي سياسة تستهتر أيضاً بالجذور العميقة المثبتة للسكان الفلسطينيين في أحيائهم / قراهم والرباط الممتد سنوات طويلة جداً إلى القدس.

غرف مزدحمة

أصدرت جمعيتا “عير عميم” من أجل المساواة في القدس، و”بمكوم” من أجل المساواة في التخطيط، في شباط/فبراير 2017، تقريراً بعنوان “كل شيء مخطط له”، يحلل ضائقة السكن في القدس الفلسطينية. حتى ذلك التاريخ، كانت 8,5% فقط من مساحة القدس الإجمالية (و15% من مساحة القدس الشرقية) معدّة لسكن الفلسطينيين، على الرغم من أن نسبتهم من مجموع سكان العاصمة هي 37%. وحتى في هذه المساحة المقلصة، كان البناء المسموح به محدوداً. لذلك، أصبح عدد الأنفار في الغرفة الواحدة لدى الفلسطينيين أعلى منه بكثير لدى الإسرائيليين. ولذلك، يسكن الأبناء المتزوجون وعائلاتهم مع الوالدين في الشقة ذاتها. ضائقة السكن هذه، ثم التكلفة الباهظة لاستئجار البيوت جرّاء ذلك، هما اللتان دفعتا آلاف الفلسطينيين المقدسيين إلى الانتقال إلى السكن في مناطق قريبة – في الأحياء التي لم يجر ضمها إلى مدينة القدس. وهما أيضاً اللتان أوجدتا الظاهرة الشائعة جداً ـ أشخاص يخاطرون بالبناء من دون تراخيص، على أراضيهم الخاصة.
تم تجميد الخريطة الهيكلية المحلية لمدينة القدس، التي أُعدّت في سنة 2000 وتمت المصادقة عليها في سنة 2009، بسبب ما تقترحه من إمكانات للتطوير في بعض الأحياء الفلسطينية. ويشير معدّاً تقرير “كل شيء مخطط له” (المهندسة المعمارية إفرات كوهين بار من “بمكوم” وأفيف تاترسكي من “عير عميم”) إلى أن كثرة أوامر الهدم، الضائقة التي لا تجد لها حلاً، والاستنتاج بأن البلدية لن تبادر إلى التخطيط لهم – هي عوامل دفعت سكان القدس الشرقية إلى المبادرة لإعداد خرائط هيكلية مفصلة، بأنفسهم وعلى نفقتهم الخاصة. لكن البلدية تماطل في عملية إقرار هذه الخرائط.
شملت الخرائط الهيكلية المفصلة التي أقرتها البلدية للأحياء/ المستوطنات اليهودية في المدينة منذ بداية سنة 2009 وحتى نهاية سنة 2016، 10.000 وحدة سكنية. أمّا في الأحياء الفلسطينية، فقد أقرت خرائط موضعية تشمل مئات الوحدات السكنية فقط. وكان نصيب الفلسطينيين خلال تلك السنوات نفسها 8% فقط من مجموع تصاريح البناء لشقق سكنية في القدس، هذه أيضاً حقائق لم تُثر اهتمام القضاة الذين أجازوا الهدم هذا الأسبوع.
بلغ عدد البنايات السكنية التي هدمتها السلطات الإسرائيلية في صور باهر، أو اضطرت أصحابها إلى هدمها، منذ سنة 2009، 69 بناية، بحجة عدم ترخيصها. 46 من تلك البنايات كانت آهلة بالسكان أو في طور البناء، كما أفاد تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، 30 عائلة، 400 إنسان، نصفهم من الأطفال والأولاد دون سن الثامنة عشرة ـ فقدوا السقوف التي كانت تأويهم. خَمس من البنايات التي تم هدمها، كانت خارج حدود القدس، أي في المنطقة المعرّفة بأنها الضفة الغربية: ثلاثة مبان فيما يسمى “منطقة C” واثنان في “منطقة A”. هذا الأسبوع، أُضيفت إلى ما سبق عملية الهدم في وادي الحمص والتي شملت عشرة مبانٍ، اثنان منها آهلان بالسكان، إضافة إلى ثلاثة مبان أُخرى في طور البناء، بحجة أنها قريبة من الجدار العازل.

الترانسفير الهادئ

بدأت أعمال البناء في وادي الحمص حين كانت هذه المنطقة “مجرد” الضفة الغربية ولم تكن قد قُسّمت بعد بصورة اصطناعية إلى منطقة A (مسؤولية إدارية ومسؤولية شرطة فلسطينية)، ومنطقة B (مسؤولية إدارية فقط للسلطة الفلسطينية) ومنطقة C (مسؤولية إدارية إسرائيلية، إضافة إلى السيطرة العسكرية في كامل أنحاء الضفة الغربية). أي، قبل البدء بتطبيق الاتفاقية المرحلية في الضفة الغربية وقبل تثبيت نظام منع الانتقال من الضفة الغربية إلى القدس في آذار/مارس 1993. في إطار الرعب الديموغرافي الإسرائيلي، شرعت وزارة الداخلية الإسرائيلية في نهاية سنة 1995، بقيادة الوزير آنذاك حاييم رامون، في تطبيق السياسة المسماة “الترانسفير الهادئ” – سحب مكانة “مقيم” من السكان الفلسطينيين المقدسيين الذين أقاموا في خارج البلاد أو اضطرهم نقص الشقق السكنية في القدس إلى الانتقال للسكن، بأجرة متدنية وظروف مريحة نسبياً، في الأحياء القريبة من القدس، والتي لم يتم ضمها إليها. هذا هو السبب الذي جعل سكان وادي الحمص يستيقظون ذات يوم ليكتشفوا أنهم لم يعودوا مقدسيين، بل ومعرّضون للاعتقال أيضاً بشبهة الوجود غير القانوني في القدس حين يتوجهون إلى شراء الحليب من البقالة القريبة، على بعد خطوات معدودة عن منازلهم. أثمرت المعركة القضائية التي شنها “المركز لحماية الفرد”، سوية مع التغطية الإعلامية (في صحيفة “هآرتس”)، إذ نجحت في إلغاء هذا العبث وإعادة مكانة “مقيم” إلى سكان وادي الحمص. ثم نجحت معركة قضائية أخرى لاحقة، في بداية سنوات الـ2000، في منع فصل الحي بصورة اعتباطية عن الجزء المقدسي. وفي سنة 2005، أقيم الجدار العازل على بعد مئات الأمتار إلى الشرق من الحدود البلدية. وهكذا، أصبح “وادي الحمص”، من ناحية التصنيفات السياسية الاصطناعية التي فرضها الاحتلال والاتفاقيات، منطقة هجينة، على الرغم من كونه جزءاً طبيعياً من قرية صور باهر.
لكن هذه المنطقة هجينة من الناحية الاجتماعية أيضاً: يقيم بها مقدسيون وسكان من الضفة الغربية (بعضهم متزوج من مقدسيين) ملزمون بتجديد تصاريح وجودهم في بيوتهم كل ستة أشهر، كما يذكّر مركز “بتسيلم”. كما يسكن في الحي، أيضاً، أشخاص انتقلوا من أحياء فلسطينية أخرى، بما فيها مخيم “شعفاط” للاجئين. الحاجة الجماعية إلى حل ضائقة السكن تزداد إلحالحاً وتتغلب على التخوف من استيعاب “غرباء” يكتشفون، على وجه العموم، أماكن سكن سرية، مثل القرى، ذات نسيج عائلي قديم. تكلفة الشقة السكنية التي تم بناؤها بترخيص من السلطة الفلسطينية تتراوح بين 70 و 100 ألف دولار، في مقابل 300 حتى 350 ألف دولار لشقة سكنية مماثلة في منطقة صور باهر، الخاضعة لسلطة بلدية القدس، كما يشير تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا).

حين صدر في سنة 2011 أمر عسكري يحظر البناء في شريط تراوح عرضه بين 100 و300 متر من كلا جانبي الجدار العازل، كانت قد أقيمت في المنطقة المحظورة في وادي الحمص 134 بناية سكنية. تعمقت ضائقة السكن في القدس وتفاقمت منذ ذلك الوقت، فأقيمت مئات أخرى من البنايات. هذه المباني جميعها موزعة بين المناطق الثلاث – A وB وC. عمليات الهدم الأخيرة أثارت موجة عالمية من الاستنكار والتنديد. فهل ستكون هذه الموجة قادرة على وقف عمليات الهدم المقبلة؟
المصدر : صحيفة هآرتس الاسرائيلية – عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole