خيار إسرائيل الاستراتيجي بينما “حماس” تواجه معضلة

خيار إسرائيل الاستراتيجي بينما “حماس” تواجه معضلة
Spread the love

بقلم: كوبي ميخائيل – باحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي —

في الأشهر الأخيرة وفي غياب إنجازات، تعاني “حماس” جرّاء معضلة متفاقمة في عدد من المستويات المتقابلة والمترابطة في آن معاً:

1- الواقع الإنساني الصعب والاحتجاج الشعبي الناتج منه ضد قيادة الحركة؛ 2- توترات داخلية تنظيمية؛ 3- عناصر نضالية تعمل في منطفة قطاع غزة؛ 4- الخصومة مع السلطة الفلسطينية؛ 5- سياسة إسرائيل.

المستوى الأول، الواقع الإنساني الصعب في غزة والاحتجاج الداخلي ضد غلاء المعيشة. تطالب قيادة “حماس” برفع الحصار عن قطاع غزة والعمل على تحسين كبير للواقع الإنساني في المنطقة، لكن في مقابل أقل ثمن ممكن من ناحيتها، أي إنها ترفض وقف التظاهرات الشعبية على السياج الحدودي إلاّ في مقابل الرفع الكامل للحصار المفروض على القطاع، إلى جانب استعداد مبدئي لتجميد إطلاق الصواريخ. هذه هي السياسة التي ينتهجها يحيى السنوار بنجاح محدود حتى الآن، وبثمن باهظ بالنسبة إلى السكان المحليين.
في شوارع القطاع، يبدو مؤخراً أن حاجز الخوف من “حماس” قد تصدّع. مواطنون خرجوا علناً في تظاهرات شعبية رافعين شعار”بدنا نعيش”. لكن موجة الاحتجاج قُمعت بيد من حديد، بينما تحاول “حماس” توجيه الغضب وتهمة غلاء المعيشة ونسب البطالة العالية نحو السلطة الفلسطينية وضد محمود عباس، وضد إسرائيل المتهمة بمواصلة فرض الحصار على قطاع غزة. التحريض ضد إسرائيل تمارسه الحركة منذ عام من خلال قيادة مسيرات العودة كل يوم جمعة على طول السياج الحدودي، والإزعاجات الليلية التي تقوم بها وحدات تستخدم العبوات الناسفة وخلايا إطلاق البالونات الحارقة.
مؤخراً جرى التعبير عن انتقادات لـ”حماس” من خلال احتجاج شعبي يختلف عن أشكال الاحتجاجات السابقة سواء من حيث عدد المشاركين فيه، أو استخدام لغة واضحة إزاء القيادة نفسها وأيضاً إزاء قادة الأجهزة الأمنية، أو من خلال التأييد الصامت لها من جانب فصائل أُخرى في القطاع. الاحتجاج الذي يعبّر عن تآكل شرعية الحركة وسط الجمهور الغزّي، يشكّل خلفية للانتقادات العامة في القطاع جرّاء العنف الذي استُخدم لقمعه. الخوف من نشوء دينامية تشبه ميدان التحرير في مصر، يمكن أن يؤدي إلى فقدان السيطرة والسلطة، وأن يدفع قيادة الحركة إلى افتعال حوادث مثل إطلاق الصواريخ على وسط إسرئيل. إذا لم تنجح قيادة “حماس” في العثور على طريقة لتهدئة الاحتجاج، سيصبح من الصعب عليها تجنيد “مسيرات العودة” ومواصلتها على السياج، وقد تضطر إلى مواجهة مغادرة نشطاء من أجهزتها الأمنية جرّاء استخدام العنف ضد مدنيين. من ناحية أُخرى، من أجل احتواء الاحتجاج وتهدئته قد تفضل قيادة “حماس” التوصل إلى اتفاق تهدئة ينطوي على جواب مهم على الضائقة الإنسانية، وأيضاً بشروط لم تقبلها حتى الآن، بشرط أن تقترح التسوية أفقاً يمكن تقديمه إلى الجمهور كإنجاز استراتيجي.
المستوى الثاني، هو داخلي – تنظيمي، برزت انتقادات موجهة إلى القيادة، من جهة، بسبب العجز الذي تظهره في مواجهة الواقع الإنساني الصعب وعدم قدرتها على الدفع قدماً بتسوية، ومن جهة أُخرى برزت انتقادات من عناصر متطرفة ضمن صفوف الزعامة السياسية للحركة، تبارك التقرب من إيران بدلاً من التقرب من مصر. معبر رفح الذي يشكل أنبوب الأوكسيجين للقطاع وصِلته بالعالم، تستخدمه مصر كوسيلة ضغط على قيادة “حماس” في إطار مساعي الوساطة من أجل التوصل إلى تسوية مع إسرائيل. وفي غياب وسيط فعال باستثناء مصر، يتعين على قيادة “حماس” أخذ مطالب القاهرة في الاعتبار – الأمر الذي يجعلها في نظر منتقديها خاضعة للضغط والابتزاز. ويدخل السنوار في مواجهة مع عناصر متطرفة داخل الذراع العسكرية للحركة ونشطاء على الأرض. ففي نظر هؤلاء، سياسة الحركة هي سياسة خنوع وتعكس خضوعاً للضغوط التي تمارسها مصر وإسرائيل، وفي تقديرهم لن تؤدي إلى تحسين الواقع الإنساني في قطاع غزة، ولن تقوّي موقع “حماس” داخلياً في مواجهة السلطة الفلسطينية، وأيضاً لن تحافظ على قدرة الردع لدى الحركة في مواجهة إسرائيل.
المستوى الثالث، الجهاد الإسلامي الذي يعمل بصفته ذراعاً لإيران ويتحدى “حماس” من خلال تبنّي خط أكثر تطرفاً، وفي معظم الأحيان لا ينسجم مع سياسة “حماس”. حركة الجهاد الإسلامي وعناصر من تنظيمات متطرفة أُخرى، بالإضافة إلى عناصر في قيادة “حماس” وفي صفوف ذراعها العسكرية خربوا في الماضي مساعي التهدئة في كل مرة حققت فيها تقدماً، ويمكن لهذه العناصر أن تقوم بجهود لإحباط التقدم في عملية التسوية إزاء إسرائيل من خلال الوساطة المصرية الآن أيضاً.
المستوى الرابع، سياسة السلطة الفلسطينية إزاء “حماس”. بالإضافة إلى العقوبات الشديدة التي فرضتها السلطة الفلسطينية ضد قطاع غزة والتعهدات بمفاقمتها، وعلى خلفية النفق المسدود الذي وصلت إليه عملية المصالحة بين “حماس” و”فتح”، عيّن عباس شخصية مركزية في “فتح”، محمد اشتية، رئيساً للحكومة محل رامي حمد الله الذي استقال. يشكل هذا التعيين تحدياً لـ”حماس”، وإشارة إضافية إلى الخيار الاستراتيجي لعباس بالانفصال عن الحركة وعن قطاع غزة.
المستوى الخامس، سياسة إسرائيل. الشروط التي تضعها حكومة إسرائيل للتسوية تضع “حماس” في وضع تصبح فيه غير قادرة على أن تقدم لجمهورها ولمعارضيها ومنتقديها إنجازاً مهماً. تتخوف قيادة “حماس” في قطاع غزة من أن لا يؤدي قبول شروط إسرائيل إلى إحراز تحسُّن كافٍ للواقع الإنساني في القطاع، ومن أن يفرض قيوداً على قدرتها لتحسين شروط التسوية، بين أمور أُخرى، بسبب الالتزامات تجاه المصريين. مثل هذه النتيجة ستؤدي إلى أزمة متوقعة داخل الجمهور الغزّي ويمكن أن تؤدي إلى تجدد التظاهرات ضد “حماس” وتقوية الانتقادات من داخل الحركة، والتحديات التي تفرضها عليها التنظيمات الأُخرى، الأمر الذي سيؤدي إلى زعزعة مكانتها سواء في قطاع غزة أم على الساحة الفلسطينية، ويعرّض استقرار سلطتها للخطر.
في الوقت عينه، تعتبر قيادة “حماس” السلوك الإسرائيلي إزاءها، والذي يمتاز بالاحتواء والامتناع من القيام بعملية عسكرية مكثفة في القطاع، كميزة تريد استخدامها كأداة لإنقاذ أغلبية الإنجازات في مقابل ثمن هو الأقل من ناحيتها. بناء على ذلك، فإن إطلاق الصواريخ على غوش دان يمكن أيضاً تفسيره كخطوة خططت لها قيادة الحركة نفسها التي شعرت أن حكومة إسرائيل، بصورة عامة، مرتدعة عن الدخول في معركة عسكرية في قطاع غزة، وخصوصاً قبل أيام من الانتخابات. تفسير الحادثة بأنها وقعت خطأ يمكن فهمه كهامش للإنكار، يمكن لإسرائيل قبوله على خلفية الارتداع عن معركة واسعة. في مثل هذا الحالة، ما جرى هو تبني استراتيجيا “الهروب إلى الأمام” التي استخدمتها “حماس” في الماضي. إن قرار المجلس الوزاري المصغر بعد حادثة إطلاق الصواريخ زيادة المبلغ المالي الذي يحوَّل شهرياً من قطر، وتوسيع مناطق الصيد، والسماح بتسهيلات مدنية إضافية، يمكن أن يرسخ هذا التفسير، على الأقل من وجهة نظر “حماس”.
في واقع المواجهة في عدد من الجبهات – الجمهور الغزّي، توتر داخلي- تنظيمي، تحديات تفرضها أطراف متطرفة في غزة، والسلطة الفلسطينية/ “فتح” وإسرائيل، تقف “حماس” أمام خيارين أساسيين: الأول، الاستمرار في السياسة الحالية التي تهدف إلى تحويل الضغط في اتجاه إسرائيل من خلال المبادرة إلى تصعيد مضبوط، وأيضاً من خلال استغلال أيام الذكرى القريبة (يوم الأرض، وذكرى النكبة) لحشد الجماهير الشابة في مسيرات نحو السياج. الخيار الثاني، الاستجابة إلى جهود الوساطة المصرية والاقتراب من شروط إسرائيل المتعلقة بالتسوية، من أجل إحداث تحسن سريع للواقع الإنساني في القطاع وتقديم ذلك كإنجاز مهم يخدم مصلحة السكان.
من زاوية المصلحة الإسرائيلية، من الأفضل أن تختار “حماس” الخيار الثاني. وهذا يتطلب أن يبدو ذلك كأنه لم يُفرض على الحركة بل اختارته لأنه الأصح بالنسبة إليها. من زاوية المصلحة الإسرائيلية يجب عدم إظهار تأثير إسرائيل في خيار “حماس” الاستراتيجي في هذا الاتجاه وعدم التباهي بفرض شروطها على الحركة. طبعاً الإغراء بحشر “حماس” في وقت ضعفها في الزاوية كبير، وهناك من يقول أن هذه فرصة لإسقاط “حماس” من خلال الجمع بين دعم الاحتجاج ضدها وتشجيعه بوسائل مبتكرة وبين ضربة عسكرية، لكن يجب التقدير أن الفراغ الذي ستتركه “حماس” إذا خسرت سيطرتها على القطاع، لن تملأه بالتأكيد السلطة الفلسطينية أو أي طرف آخر يكون مريحاً أكثر لإسرائيل.
في ميزان الربح والخسارة في معادلة إسقاط “حماس” أو احتلال القطاع من جديد، يجب على إسرائيل أن تقبل وجود كيان سياسي معادٍ تحت سيطرة “حماس” على حدودها الجنوبية، على الرغم من أنها ستبدو هي نفسها التي أنقذت “حماس” من السقوط، مثلما أنقذت “فتح” من السقوط بعد عملية أوسلو. كلما تبنى هذا الكيان منطقاً وسلوكاً سياسياً، كلما سيصبح من الأسهل لإسرائيل التعامل معه. لقد نجحت إسرائيل على مر السنين في تعاملها مع كيانات معادية من خلال المحافظة على الردع ضدها وتطويره، بالإضافة إلى مختلف أشكال الكلام عن التعاون المطلوب. إن خيار التعامل مع كيان معادٍ في قطاع غزة مع المحافظة على الردع العسكري من جهة، وتطوير التعاون في مجالات مدنية والسماح بظروف حياة مقبولة في القطاع من جهة أُخرى، هو الخيار الأقل سوءاً بالنسبة إلى إسرائيل، حتى لو كان من الواضح أن هذا الواقع ينطوي على أزمات عنيفة من وقت إلى آخر مستقبلاً.
بالاستناد إلى مقاربة جولات المواجهة الموجودة في أساس عقيدة الأمن القومي يتعين على إسرائيل السعي لزيادة المدة التي تفصل بين الجولات من خلال المساعدة في تحسين الواقع الإنساني في قطاع غزة، والضرب بشدة في كل جولة لتجديد الردع ضمن روحية “جدار حديدي”، تتحطم عليه في كل مرة اعتداءات “حماس”.

المصدر: مجلة “مباط عال” الإسرائيلية، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole