العطاء الخيري وتكوين أميركا

Spread the love

بقلم: كارل زينسميستر – ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو —

نبذة عن المؤلف كارل زينسميستر: نائب رئيس المطبوعات في مؤسسة الدائرة المستديرة الخيرية. تخرج من جامعة ييل ودرس في كلية ترينتي في دبلن.عمل رئيساً لتحرير مجلة المشروع الأميركي لمدة 13 عام وخدم من عام 2006 إلى 2009 مستشاراً للسياسات المحلية للرئيس الأميركي ومديراً للجنة السياسة المحلية في البيت الأبيض. كتب الكثير من المقالات في الصحف والمجلات الأميركية مثل وول ستريت جورنال وذا اتلانتيك ونيويورك تايمز وساهم في تأليف 11 كتاباً بما فيها “تقويم البذل الأميركي”.

يعتبر البذل الخيري الخاص أمراً حيوياً أسهم في تكوين أميركا وجعلها بلداً إستثنائياً كما هي اليوم وسأبدأ ببعض الأرقام.
يشكل قطاع العمل الذي لا يهدف للربحية 11%من مجموع قوة العمل في في الولايات المتحدة. وسوف يساهم بنسبة 6% من إجمالي الناتج المحلي هذا العام. ولكي نضع ذلك في المنظور نرى أن القطاع الخيري تجاوز قطاع الدفاع القومي لعام 1993 من حيث الحجم ويستمر بالنمو المطرد. ولا تأخذ هذه الأرقام الأعمال التطوعية في الحسبان: إذ يشكل العمل التطوعي الخيري ما يعادل – وهذا يختلف بحسب طريقة تعداده – ما بين 4 أو 10 مليون عامل متفرغ بدوام كامل. لذلك أرى أن البذل الخيري قوة هائلة في مجتمعنا.
ولكي نبدأ بفهم هذا الجانب الحيوي من أميركا من المفيد والملهم النظر إلى بعض أعظم المانحين في البلاد.
ولد نيد ماكهيني وترعرع قرب جدول في لويزيانا وحصل على عمل يومي علاوة على كونه متبرعاً:حيث يقوم بتصنيع وبيع تابل الفلفل الحريف الذي إخترعته عائلته توباسكو. وتبين أن هناك فرصة كبيرة لجني المال في إعانة الأفراد على لسع ألسنتهم واستخدم ماكهيني الثروة الناتجة في العديد من الأعمال الخيرية. وسأذكر مثالاً واحداً. عندما كان طفلاً صغيراً كانت القبعات ذات أرياش مالك الحزين الموضة الشائعة لنساء ذلك العصر- مثل حقائب المدربين اليدوية اليوم- مما أدى إلى قرب إنقراض مالك الحزين الثلجي وهو مخلوق رائع يستوطن جداول لويزيانا. وفي رد فعل على ذلك قام ماكهيني بإختراق الأجمات للعثور على ثمانية فراخ مالك الحزين على سطح جزيرة خاصة تعود لعائلته. وبحلول عام 1911 رفع عدد طيور مالك الحزين على تلك الجزيرة إلى 100000 طائر وفي الوقت ذاته أقنع جون روكفلر وبعض المتبرعين لمساعدته على شراء بعض الأراضي الغدقة لإستخدامها كملاذ شتوي لمالك الحزين وبعض الطيور الأخرى.
هناك متبرع أميركي آخر يدعى الفرد لوميس الذي كان شغوفاً بالعلم منذ نعومة أظفاره ولكنه دخل كلية القانون عند وفاة والده ليتمكن من إعالة العائلة. لم يرغب بدراسة القانون وتملكته الرغبة بالعودة لدراسة العلوم. عاد للعمل في وول ستريت وفي بداية الثلاثينات من القرن الماضي أصبح أحد أغني الرجال في أميركا. تقاعد من العمل في التمويل وأنشأ أحد أعظم المختبرات التجريبية في العالم في قصر يواجه منزله شمال مدينة نيويورك.
زار لوميس برلين عام 1938 وفوجئ بأمرين: شعبية هتلر وألمعية العلماء الألمان. قفل عائداً إلى البلاد مقتنعاً أن طبول الحرب توشك أن تقرع وأن العلم سيسهم بتحديد من يربحها. فرغ نفسه وثروته في حقل جديد واعد ذا تطبيقات دفاعية- طريقة لاستخدام موجات الراديو لكشف الأجسام الطائرة- وسرعان ما أصبح مختبره المتزعم الوطني لما نسميه اليوم الرادار.
قامت آلاف مجموعات الرادار المصنعة تحت إشرافه بتحويل دفة الحرب العالمية الثانية.
علاوة على أمواله عززت طرائق لوميس نجاحه الباهر. أفزعته البيروقراطية وترهل برامج الأبحاث الحكومية واستنبط نهجاً مختلفاً بشكل جذري في مختبره. وعندما اتضح نجاح مسلكه في انتاج الرادار قامت وزارة الدفاع باستنساخه مباشرة لمشروع مانهاتن وتوظيف العديد من العلماء من مختبر لوميس. صرح الرئيس روزفلت فيما بعد أنه لم يقم أي مدني بالإسهام بالنصر في الحرب العالمية الثانية أكثر من الفريد لوميس.
متبرع آخر مؤسس شركة كوداك جورج ايستمان الذي عمم التصوير في بدايات عام 1900. كان التصوير لدى إبتداء عمله خليطاً بين الفن والظن والقليل من العلم. وظف كيميائيين من كلية مغمورة تدعى بوسطن تك وكتعبير عن الإمتنان لما قدموه لشركته تبرع لاحقاً بمعظم الأموال التي حولت بوسطن تك إلى مركز النفوذ الأشهر معهد ماساتشوستس للتقانة ام اي تي. وفعل ذلك دون أن يعلن عن إسمه- وعلى إمتداد سنوات وسنوات تمت الإشارة لمانح ام اي تي بالسيد “سميث”.
كان لايستمان ولعاً بالموسيقى ولذلك أسس وبنى بشكل منهجي كلية ايستمان للموسيقى في جامعة روتشيستر المشهورة على المستوى العالمي. لعبت الكلية دوراً مهماً في إشاعة الموسيقا الكلاسيكية في أمريكا ولا تزال حتى اليوم من أهم المؤسسات الثقافية في بلادنا.
ساهم متبرع أميركي عظيم يدعى ميلتون هيرشي بتحويل الشوكولاته من دلع باهظ الثمن مقصور على الأثرياء إلى سلعة متوافرة للجميع. وكان مسؤولاً مع زوجته عن تأسيس مدرسة للأيتام. كان والد هيرشي مدمناً وفرداً مهملاً في العائلة وعانى من مشاق جمة في طفولته.
قام ميلتون في رغبة منه للتخفيف من محن الأطفال في محيطه ببناء حلقة من المنازل تلتف حول منزله في بنسلفانيا وأسكن في كل منزل زوج وزوجة ليعيشوا مع مجموعة من الأطفال اليتامى. وبنى مدرسة لتوفير التعليم والتدريب الملائم في الحرف الصناعية. وأعلن لاحقاً عن خطط “لجعل الأطفال اليتامى في الولايات المتحدة ورثته” ومنح وقفية مدرسة ميلتون هيرشي ما يعادل 11 مليار دولار في الوقت الحالي.
ولكن قصة البذل الخيري في الولايات المتحدة ليست مجرد قصة تروى أو حتى حكاية إبتداء عن أفراد أثرياء أو مؤسسات كبرى. يحضر 14% من العطاء الخيري في بلادنا من المؤسسات و 5% من الشركات. وتأتي معظم النسبة المتبقية من الأفراد ذوي الدخل المحدود الذين يقدمون ما يعادل 2500$ من كل عائلة في العام.
كانت آن شيبر محاسبة خجولة تقاعدت عام 1944 برصيد 5000 دولار في البنك. وعبر حياة التقشف والإستثمار الموفق في الأسهم حولت هذا المبلغ إلى 22 مليون دولار لدى وفاتها عام 1995 عن عمر 101 سنة. أوصت بكامل المبلغ لجامعة يشيفا بحيث تتمكن الفتيات المجدات والفقيرات من الإلتحاق بالجامعة والدراسة في كلية الطب.
كانت الينور سوروين تدهن منزلها وتجز عشب حديقتها وتزرع خضارها في موديستو كاليفورنيا إلى أن بلغت التسعينات من العمر. لم تشترك بخدمة التلفاز المدفوع ونادراً ما تناولت طعاماً خارج المنزل. ذكرت مستشارتها المالية أنها كانت تسعى لجمع أكبر قدر من المال لجيش الإنقاذ- وأوصت له بكل ما تملك 1.7 مليون دولار لدى وفاتها عام 2011 .
عمل البرت ليكسي ماسح أحذية في بيتسبرغ لمدة 40 عاماً. قرر قبل سنوات التبرع بكل إكرامياته لمؤسسة العناية المجانية في مشفى الأطفال في بيتسبرغ. ومنذ عام 1981 تبرع بأكثر من 200000 دولار لتلك المؤسسة أي ما يعادل ثلث دخله.
هجرت اوسيلا مكارتي من هاتيسبرغ في ولاية الميسيبي المدرسة منذ الصف السادس لتعيل المرأة التي ربتها وذهبت للعمل غاسلة ملابس.
كانت تفضل إستخدام الماء المغلي ولوح كشط و30 متراً من حبل الغسيل في الهواء الطلق على الغسالة والمجففة الآلية التي كانت وفق رأيها لا ترتقي لمعاييرها. وعندما تقاعدت عام 1995 كان رصيدها في البنك 280000 دولار. خصصت مبلغاً يكفي لمعيشتها وتبرعت بـ150000 دولار لجامعة جنوب الميسيسبي التي تبعد ثلاثة كيلومترات عن منزلها لتمويل منح للطلاب المعوزين الحالمين بتعليم حرمت منه. وعندما إنتشر نبأ تبرعها تقاطر سكان هايتسبرغ للتبرع بمبلغ فاق بثلاثة أضعاف وقفيتها الإبتدائية. تقدم منح مكارتي اليوم عدة منح جامعية كل عام للطلاب المحتاجين.
حدث الكثير من الأمور الجديرة بالإشادة في أميركا عبر تجميع العطاء المتناثر. لاحظ المؤرخ دانيال بوريستين أنه في عام 1880 كان سكان ولاية أوهايو لا يزيد عن ثلاثة ملايين نسمة شيدوا 37 كلية. وفي العام ذاته بلغ عدد سكان بريطانيا 23 مليون نسمة وأربع كليات لا غير. كان الفارق في البذل الخيري على المستوى المصغر والموجه نحو التعليم. دشنت كلية ويسترن ريزيرف في عام 1826 وتمت بفضل عطاءات الالآف من سكان أوهايو ومعظمهم من المزارعين الأوائل. قضى أحد الداعمين فصل الشتاء برمته وهو ينقل مستلزمات البناء للكلية من مقلع يبعد عنها عشرة أميال. تبرعت عائلة أخرى بجزء من مبيعاتها من البيض والحليب على مدى سنوات عديدة. وتعلمون جميعاً هذه الحكاية جيداً في كلية هيلسديل التي تشترك ببداية مماثلة.
يحاجج بعض الناشطين اليوم بأن المال الممنوح للفقراء فحسب يعتبر عطاءً خيرياً. ولكن هل تلك يا ترى حجة إنسانية؟
أراها قصيرة الأفق بشكل مذهل. لا يتعلق معظم البذل الذي أدى إلى تخفيض الفقر عبر السنين بالصدقات. وإذا نظرنا للمانحين الذين يتبرعون للمدارس الخاصة نجد أن هذه المدارس أسهمت بكسر حلقات الفقر والفشل البشري أكثر من إسهامات تحويلات الرعاية الإجتماعية.
تعتبر المعرفة بتاريخنا جزءاً أساسياً من المواطنة الأميركية. وهل تعلم أنه تم إنقاذ مزرعة ماونت فيرنون لجورج واشنطن من الخراب بفعل متبرعات من منظمة ماونت فيرنون النسائية والتي تابعت العمل تحت حمايتها لغاية اليوم؟
وتمت حماية مزرعة مونتيشيلو لتوماس جيفرسون لأكثر من قرن من الزمن من خلال التمويل الخاص الذي لا يتلقى أي دعم حكومي.
ويسري الأمر ذاته على مونبلييه منزل جيمس ماديسون والمنزل الصيفي لابراهام لينكولن الذي قضى فيه ربع رئاسته واتخذ فيه أحد أعظم القرارات-وتمت إعادة تأهليه عبر المتبرعين وأفتتح أمام الجمهور عام 2008.
تعتبر كاتدرائيات أمريكا الكبرى نتاج البذل الخاص. بدأ تشييد كاتدرائية سانت جون في مدينة نيويورك بهدية من ج.ب. مورجان وأكتمل بناءها بعد عدة عقود بمساعدة الالآف من التبرعات الصغيرة. وبنيت الكاتدرائية القومية في واشنطن وهي آخر بناء قوطي صرف لكاتدرائية بفضل تبرعات صغيرة على مدى 97 سنة.
وللمكتبات العامة نصيبها ايضاً. منح جاكوب استور وجيمس لينوكس وصامويل تيلدن ملايين الدولاارات لتأسيس مكتبة نيويورك العامة. وقدم اينوخ برات في بلتيمور المال والتخطيط لمكتبة متعددة الفروع. وأسس اندرو كارنيجي أكثر من 2500 مكتبة في المدن والبلدات عبرالبلاد.
يرتبط العلم في أمريكا بشكل وثيق بالبذل الخيري. خذ على سبيل المثال التليسكوبات الحديثة التي تسمح لعلماء الفضاء بإنجاز إكتشافات هامة حول الكون.
أنيرت مراصد ليك ويركيس وماونت ويلسون وماونت بالومر وكيك بفضل تمويل خيري خاص و يعتمد أكبر تليسكوبين يتم بناءهما اليوم – ماجلان وتليسكوب الثلاثين متر – على التبرعات الشخصية.
أنشأت عائلة كوجنهام، التي نربطها بالمتاحف، معظم أقسام هندسة الطيران التي أوصلتنا إلى الفضاء وكانت الممولة الوحيدة لروبرت جودارد العبقري المسؤول عن ريادة الولايات المتحدة في السفر الفضائي.
بدأ تمويل جون روكفلر للبحث الطبي عام 1901 وتلقى 47 فائزاً بجائزة نوبل للعلوم تمويلاً من روكفلر قبل نيلهم الجائزة ودعم 14 عالماً آخر بشكل جزئي بأمواله. تشمل الإكتشافات التي قدمها هؤلاء العلماء والعالمات تطورات في تنميط الدم الوراثية والبنسيلين ولقاح الحمى الصفراء وزرع الكلى. ومولت مؤسسة جون هارتفورد اوائل عمليات زرع الكلى وأسست الجمعيات الإحترافية المتخصصة حيث يتبادل خبراء الكلى المعلومات وأنجزوا عبرها طرائق غسل الكلى العملية للمرة الأولى.
يستجلب موضوع البحث الطبي للأذهان تساؤلاً عن مقارنة البذل الخيري الخاص مع الإنفاق الحكومي. ونجد لدى المقارنة أن البذل أكثر قوة في مقدرته على الفردية والجماعية. وأعني بذلك أن العديد من الأهداف السامية الناجحة في عالم العطاء – غايات مثل الإقراض الصغير ومساعدة المدمنين وبرامج الإشراف وتمكين الطلبة لمتابعة تعليمهم الجامعي – تعتمد بشكل وثيق على مصداقية الفرد للفرد وتستأثر بميزة توفر المعلومة عندما تعلم الشخص الذي تتعامل معه.
ومن خلال إيجاد التحويلات الفردية يتم استخدام قوة العلاقات لتغيير السلوك. وكما قالت الأم تيريزا يوماً ما” لا أفكر بتعابير الجموع ولكن بالأفراد.”
تركز البرامج الحكومية بدافع الضرورة على الجموع. حيث لا تتمكن من توفير مناهج ونظم للأنواع المختلفة من الأفراد وتكون محددة بصرامة لكافة المشاركين. ويثنى عليها لتجانسها ولكن معيار المقاس الموحد للجميع لا يسهم بإزدهار البشر. وهنا تلعب الخدمات الفردية التي توفرها الإعمال الخيرية دوراً رائداً تعجز البرامج الحكومية عن تحقيقه.
ويوصلنا ذلك إلى كلمة محبوبة يجب أن يتعلمها كل أمريكي: الديموقراطية المتعددة الرؤساء- والتي تعني المجتمع ذي موارد السلطة المستقلة المتعددة(على عكس الملكية).
تمتلك الولايات المتحدة ثقافة متعددة الرؤساء والبذل المستقل جزء كبير من هذا المكون. وبحسب إشارة أستاذ القانون في جامعة ييل ستيفن كارتر” يستشعر الأفراد المختلفون إحتياجات المجتمع المحلي بمعايير متباينة وتؤدي ملايين قرارات البذل الفردي إلى تنوع في العطاء وحماية أكبر لوجهات النظر غير الدارجة من البرامج الحكومية.”
ولكن بما أن الكثير من العمل الخيري الخاص يحدث بعيداً عن الأنظار العامة – على المستوى المحلي الخاص وغالباً دون الإفصاح عن المانح –مما يقلل إلى حد كبير من قوته ويؤكد على أن المسائل الكبرى تحتاج للعمل الحكومي الصرف. وينتقدون البذل الخاص لأسباب أساسية ثلاث:

أولاً: إنها نقطة في الجردل.
ثانياً: إنه عمل هواة فوضوي ويفتقد للتعاون المتخصص.
ثالثاً: تندفع أفعال المنح الخاص بفعل غايات غير تقية.

نقطة في جردل؟ توزع مؤسسة جيتس مساعدات خارج البلاد أكثر من الحكومة الإيطالية. وخلال أول عقدين من عمرها يعتقد أن برنامجها للقاحات خارج البلاد سينقذ حياة 8 مليون طفل. وتمثل مؤسسة جيتس شريحة بسيطة من البذل الخيري الموجه خارج البلاد. وترسل الكنائس والمعابد 4.5 ضعف معونات مؤسسة جيتس للمحتاجين الأجانب ويفوق مجموع المساعدات الخيرية الأميركية الخاصة المرسلة عبر البحار(39 مليار دولار) ميزانية المعونة الأجنبية للحكومة الأميركية البالغة 31 مليار دولار.
وماذا عن الإدعاء بأن العمل الخيري الخاص عمل هواة يفتقر للتعاون الخبير؟
دعنا ننظر إلى ليزي كاندير التي أدارت منزل إسكان في بدايات عام 1900 استوعب المهاجرين الروس اليهود. استخدمت التبرعات التي قدمها رجل أعمال من ميلواكي لتعليم المهاجرين مبادئ التغذية والنظافة وتطور الطفل والمهارات القابلة للتوظيف. وقامت ،نظراً لحاجتها لمال إضافي، بتجميع دليل طبخ والعناية بالمنزل للبيع بهدف جمع التبرعات وتغطية كلف الطباعة من خلال بيع الإعلانات. وكان بعنوان “كتاب الطبخ للمستوطنة- مع العنوان الفرعي غير اللائق سياسياً، الطريق إلى قلب الرجل – وبيع منه مليوني نسخة. وساهمت العائدات الناجمة من هذا المجهود بنفع المهاجرين اليهود في أعالي الغرب الأوسط على مدى 75 عام إضافة إلى العديد من المشاريع الخيرية.
عملت لثلاث سنوات في الجناح الغربي من البيت الأبيض وأستطيع إخباركم أن التعاون المتخصص ليس كما يظن البعض. تنتج النماذج المعافاة من التحسين المجتمعي من الكثير من التجارب الصغيرة. قد يفشل البعض ولكن الأخرى تنجح وتستنسخ. وبهذه الطريقة ينجح العمل الخيري الخاص.
فكر بما يحدث في كل عطلة نهاية الأسبوع كل خريف في مئات الملاعب الرياضية على طول البلاد وعرضها. ما الذي يحدث عندما تنقل حشد من 50000 شخص من الملعب إلى سياراتهم ثم إلى منازلهم؟
لو حاولت تخطيط وتوجيه ذلك من مجثم مركزي فسوف تكون النتائج فوضى عارمة. هناك الكثير من المتغيرات . لا يدرك المشجع العادي إنه يبرز ما يسميه العلماء الذكاء التكيفي على مستوى عريض في غياب التوجيه المركزي ولكن ذلك هو ما يفعله. وهناك الكثير من الأمثلة الأقل تبسيطاً على ذلك.
تدار المهام البشرية الأساسية مثل توزيع الطعام دون أي تنظيم مركزي. لا توجد مؤسسة مسؤولة عن الحيلولة دون فقد الحليب في فورت وورث ولكنه لا يفقد قط. وهذا ما يحدث في المجتمع الحر. إذ يكون عوز التعاون والإتساق نعمة أكثر منه نقمة.
وماذا عن الإدعاء الثالث حول فكرة إمتلاك بعض المانحين لدوافع غير تقية؟
لا يهتم المتبرعين العاديين بالحصول على فرجة ضريبية أو وضع أسمائهم على مباني أكثر مما يجب. ولكن هل تعتبر تلك حجة مقنعة ضد العطاء الخيري الخاص؟
كان بول جيتي رجلاً بخيلاً ألزم زوار قصره باستخدام هاتف ماجور مع أنه كان أحد أغنى الرجال في العالم. وعندما خطف حفيده في ايطاليا مقابل فدية 17 مليون دولار دخل في مساومات حول المبلغ إلى أن أرسل الخاطفين له أذن الحفيد. وحتى تلك اللحظة لم يوافق على إقراض ولده مبلغ الفدية إلا بمعدل فائدة 4%. ومع ذلك ورث لنا إحدى أعظم المجموعات الفنية الرومانية والأغريقية وهي هدية سترتقي بأرواح الكثير لقرون قادمة.
كان رسل سيج مراب بخيل غريب الأطوار إحتال على زوجة أبيه عند تشاركهما في العمل. وقام أحد المبتزين الغاضبين بتفجير مكتبه في وول ستريت بالديناميت. استخدم سيج أحد موظفيه كدرع بشري ورفض فيما بعد دفع تعويض له عن الجروح التي تعرض لها. ومع ذلك أوجدت ثروة سيج إحدى المؤسسات الخيرية المبكرة الأكثر نفوذاً في البلاد.
هناك مانحون أغبياء ومشاريع تافهة. ولكن البرامج الخيرية التي لا تولد نتائج ملموسة تموت بسرعة وتتحول نحو شئ مختلف.
تكمن عبقرية آلية البذل في مقدرتها على تلقي الأشخاص على عوائنهم وعيوبهم وتساعدهم على إنجاز أموراً مفيدة بشكل رائع. أشار آدم سميث إلى أن التجارة الحرة قد تحول السلوكيات البشرية الإعتيادية بما في ذلك الأفعال المستأجرة إلى شيء قيم. ويصدق ذلك على عالم العطاء والتجارة على حد سواء.
ويعزى جزء من سحر البنية الخيرية الأميركية إلى مقدرتها على تحويل الإندفاعات الخاصة الشائعة إلى روافع هائلة للمجتمع كله.
نحن البشر حيوانات إجتماعية ونتأثر بطبيعتنا لدى رؤية رفاقنا من المخلوقات يمرون بمحن. إكتشف الأميركيون منذ وقت مبكر أن العمل التطوعي لمساعدة الآخرين على الإرتقاء ممكن وأفضل من الطريقة الأبوية في الحكم التي تحجم الحرية. كان العطاء الخيري الخاص وروح التطوع حصنين أساسين للشخصية الأميركية لا يمكن الإستغناء عنهما في قصة نجاحنا الوطني.

المصدر: مجلة “إمبريمس” Imprimis الصادرة عن كلية هيلسديل في واشنطن السنة 45. العدد 1 تاريخ كانون الثاني عام 2016.

Optimized by Optimole