“السلام الاقتصادي” الذي تسعى له “صفقة القرن” لا يشكل ضمانة للسلام السياسي

Spread the love

بقلم: يوسي ميلمان – محلل عسكري إسرائيلي —

تستمر حملة التسريبات من واشنطن بشأن خطة السلام الأميركية لحل النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين [“صفقة القرن”] لكنها في واقع الأمر لا تنطوي على أي جديد يُذكر. وبعد شهر من المتوقع أن يُعقد في البحرين مؤتمر خاص يناقش موضوع الاستثمارات العالمية لدعم الاقتصاد الفلسطيني في المناطق [المحتلة]. ومن المفترض أن يكون هذا المؤتمر نقطة الانطلاق نحو تلك الصفقة التي وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن تؤدي إلى تسوية النزاع في منطقة الشرق الأوسط.
ووفقاً للتسريبات، يمكن التقدير منذ الآن أن “صفقة القرن” لن تكون أكثر من هامش بسيط لعشرات خطط السلام السابقة التي عرضتها الإدارات الأميركية منذ حرب الأيام الستة [حرب حزيران/يونيو 1967]. فقد أعلنت السلطة الفلسطينية التي تواصل مقاطعة الاتصالات مع إدارة ترامب بعد أن قامت هذه الأخيرة بتقليص المساعدات المالية للسلطة ولوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين [الأونروا] وللمستشفيات في القدس الشرقية، أن مندوبيها لن يشاركوا في مؤتمر البحرين.
ولا شك في أن النهج الذي تتبعه إدارة ترامب إزاء الفلسطينيين مليء بالتناقضات الصارخة، فهي من جهة تعاقبهم، ومن جهة أُخرى تدعو إلى عقد مؤتمر دولي تطلب فيه من رجال أعمال ودول عربية أن يقدموا لهم مساعدات مالية.
لا بد من القول إن هذه التناقضات ليست مفاجئة على الإطلاق، فسياسة الإدارة الأميركية الحالية تتسم بالتناقض في كثير من الموضوعات على المستويين الداخلي والخارجي، كما يمكن الاستدلال على ذلك من متابعة خط سير هذه السياسة فيما يتعلق بالأزمة مع كوريا الشمالية على سبيل المثال، أو فيما يخص الحرب الأهلية في سورية، والأزمة الآخذة بالتفاقم مع إيران.
كما أنه ينبغي ألّا نتفاجأ من آخر التطورات المتعلقة بـ”صفقة القرن” إذا ما أخذنا في الاعتبار أن من يشرف على صوغ خطة تسوية النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني والدفع قدماً بها هم ثلاثة من مستشاري ترامب: المبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط جيسون غرينبلات، ومستشار الرئيس وصهره جاريد كوشنير، وسفير الولايات المتحدة في إسرائيل ديفيد فريدمان. وثلاثتهم من أشد المؤيدين لإسرائيل بصورة عامة واليمين الاستيطاني بصورة خاصة. بناء على ذلك كيف يمكن للفلسطينيين أن يؤمنوا بأنهم سيكونون “وسيطاً عادلاً”؟. فضلاً عن ذلك فإن هؤلاء الثلاثة يفتقرون إلى أي تجربة في إدارة نزاعات دولية، ومن الصعب الإيمان بكونهم ملائمين للدفع قدماً بمفاوضات تتعلق بنزاع معقد للغاية مثل النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين.
إن ما تبين حتى الآن من التسريبات أن الخطة الأميركية مؤلفة من مرحلتين. المرحلة الأولى هي “السلام الاقتصادي”، وتليها مرحلة “السلام السياسي”. وفكرة “السلام الاقتصادي” هي جوهر الخطة الأصلية لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لتسوية النزاع. وسبق لنتنياهو أن أعلن سنة 2008، حين كان زعيماً للمعارضة، أنه قبل إجراء أي مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين يجب إدارة “مفاوضات اقتصادية” معهم. وقال نتنياهو في سياق الخطاب الذي ألقاه في “مؤتمر هيرتسليا” الذي عُقد في تلك السنة إن السلام الاقتصادي هو بمثابة ممر نحو سلام سياسي في مرحلة لاحقة. وأضاف أن الهدف من هذا السلام الاقتصادي هو عرض أفق أمام الفلسطينيين فحواه أن هناك إمكاناً لتحسين حياتهم وجلب الطعام إلى موائدهم، مشيراً إلى أن هذا السلام سوف يستند إلى قوتين: الأمن الإسرائيلي وقوى السوق.
بعد سنة من رؤية نتنياهو السالفة بشأن “السلام الاقتصادي” انتُخب لرئاسة الحكومة. وبسبب خوفه من الإدارة الأميركية السابقة برئاسة باراك أوباما ألقى خطاب بار إيلان الذي اعترف فيه بـ”حل الدولتين”. لكن منذ ذلك الوقت يعمل نتنياهو بصورة ممنهجة على تدمير هذا الحل وتكريس انقسام الشعب الفلسطيني بين قطاع غزة والضفة الغربية من خلال اتباع سياسة “فرّق تسد” وتنمية حركة “حماس”. وفي المقابل لم يقم نتنياهو بأي خطوة من شأنها الدفع قدماً بفكرة السلام الاقتصادي المذكورة. بل على العكس، قامت الحكومات الثلاث التي وقف على رأسها منذ ذلك الوقت بجعل الأوضاع الاقتصادية في كل من القطاع والضفة أسوأ مما كانت عليه.
لعله ليس من المبالغة القول إن تأثير نتنياهو في ترامب ومستشاريه كبير للغاية. فقد تبنى الرئيس الأميركي اقتراح رئيس الحكومة بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران والعودة إلى سياسة فرض العقوبات عليها. ولو كان الأمر متعلقاً بنتنياهو لكان يفضّل أن تقوم الولايات المتحدة بشنّ حرب على نظام طهران بغية إسقاطه، لكنه لا يتجرأ على المجاهرة بهذا علانية خوفاً من اتهام إسرائيل واتهامه هو شخصياً بالتسبب بمقتل جنود أميركيين في حال اندلاع حرب بين الولايات المتحدة وإيران.
وعلى المنوال ذاته، يؤثر نتنياهو في ترامب أيضاً في كل ما يتعلق بموضوع التسوية مع الفلسطينيين. ويبدو أن الإدارة الأميركية قبلت عملياً اقتراح رئيس الحكومة بشأن “السلام الاقتصادي”.
على الرغم من ذلك ثمة شك كبير فيما إذا كان مؤتمر البحرين المرتقب أو أي مؤتمرات شبيهة أُخرى ستُعقد بعده ستسفر عن أي تطور مهم، دراماتيكي أو كاسر للتوازن. وهذا الأمر يدركه جيداً جميع المقربين من نتنياهو. ويبدو أن هذا هو السبب الذي يجعلهم يشددون منذ الآن على أهمية مجرد عقد المؤتمر في البحرين لا على نتائجه المتوقعة.
ويظل الأهم من ذلك كله هو أنه حتى في حال نجاح مؤتمر البحرين في توفير رافعات لتحسين وضع الاقتصاد الفلسطيني في المناطق [المحتلة] فإن “السلام الاقتصادي” لا يشكل أدنى ضمانة للسلام السياسي. إن للشعوب والأفراد الذين يعيشون تحت وطأة الاحتلال والقمع، ويعانون التمييز ومصادرة الأراضي وإقامة المستوطنات، تطلعات قومية وطموحات للحرية وليس فقط رغبة في تحسين مستوى المعيشة. ومن شبه المؤكد أن “صفقة القرن” ستكون حتى بعد كشف النقاب عن جوانبها السياسية منحازة إلى إسرائيل التي حظيت بامتياز نقل السفارة الأميركية إلى القدس الشرقية. وبناء على ذلك لن تساهم في الدفع قدماً بأي تسوية سياسية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وما سيبقى هو السؤال: لماذا كانت إدارة ترامب بحاجة إلى سنتين ونصف سنة من أجل بلورة مثل هذه الخطة/الصفقة؟.

المصدر: صحيفة “معاريف” الإسرائيلية – عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole