إسرائيل رفست القاعدة التي تقف عليها أي دولة متحضرة

Spread the love

بقلم: يغئال عيلام – مؤرخ باحث في تاريخ الصهيونية وإسرائيل —

الدولة هي، أولاً وقبل أي شيء آخر، سلطة القانون. هذا هو جوهرها. هي ليست سلطة الشعب. هي ليست حُكم الأغلبية. هي ليست حكم الجمهور. هي ليست حكم النُّخب. هي سلطة القانون. لكن الأمور اختلطت علينا وتشوشت مؤخراً. إنهم يمجّدون “مبدأ الحوكمة” ويهلّلون له، كأن مهمة الدولة الرئيسية هي الحكم، بأي ثمن ومهما يحصل. لكن بين السلطات الثلاث التي تتكون منها الدولة – السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية – يشكل القانون مهمة السلطتين الأولى والثانية، وليس الأمر صدفة أو عبثاً. فنظام القانون هو الذي ينظم إدارة الدولة وهو الذي يسبغ الشرعية على أعمالها ونشاطاتها. إن مصدر كلمة “شرعية” هو من الكلمة اللاتينية “قانون” (lex). وأولئك الذين يتحدثون باسم “مبدأ الحوكمة” يدّعون عملياً أن السلطتين اللتين تحفظان نظام القانون يجب أن تكونا في خدمة السلطة الثالثة، التنفيذية. إنه مبدأ مشوّه، يتكئ عليه أي نظام دكتاتوري.
لنظام القانون وظيفة مزدوجة: أ. تقييد حريات الفرد الطبيعية، لإتاحة العيش الجماعي المشترك ولإتاحة الحكم الرسمي؛ ب. تقييد صلاحيات السلطة ومنعها من ارتكاب أعمال تعسفية. ليس مطلوباً من القانون أن يُملي وأن يحدد حريات الفرد وحقوقه، وإنما أن يقيّدها فقط، بالمقدار المطلوب والضروري لإتاحة الحياة الاجتماعية والرسمية. في المقابل، يُملي القانون ويحدد، بالتأكيد، صلاحيات الدولة والسلطة. وهاتان الأخيرتان ليستا فوق القانون، بل هما نتاج القانون وخاضعتان له.
بنو البشر هم الذين يضعون القانون ويؤسسون الدولة. هم أصحاب السيادة؛ هم وحدهم وليس أي كيان آخر سواهم. والعيش بأمن وأمان، وبحرّية وحقوق طبيعية ـ هذه كلها مستحقة لنا بفعل كوننا بشراً. هذه مسلّمات ليس من الممكن حفظ القانون والدولة من دونها. لكن هذين الكيانين ـ القانون والدولة ـ لم يُقاما إلاّ من أجل ضمان وجود بني البشر وحقوقهم، من أجل تحقيق الرؤية الإنسانية التي نحملها. هذه هي القاعدة التي يتم اختبار القانون والدولة على حد سواء، وفقاً لها وبموجبها. فالقانون الذي يمسّ بهذه القاعدة، وبالمبادئ التي تتشكل منها رؤيتنا الإنسانية، غير قانوني. إنه يمسّ بالغايات التي وُضع من أجلها وبالمهمة الأساسية الملقاة على عاتقه. هو قانون ينقض ذاته بذاته.
من هنا ليس من حق أو صلاحية أي مجموعة من بني البشر، سواء أكانت نخبة مهيمنة أو أغلبية عَرَضية موقتة في نظام ديمقراطي، أن تسنّ قوانين كهذه. ومن أجل ترسيم حدود المسموح والممنوع في التشريع، من أجل الحفاظ على القاعدة الأساس التي يقوم عليها القانون ويتم تفسيره بموجبها، تُصاغ وثيقة تحدد وتبيّن مبادئ الأساس الملزمة للقانون وللدولة، على حد سواء، وهي الوثيقة التي يشكل نصها أساساً لقسم يمين الولاء. إنه الدستور. وهذه كانت مهمة “المؤتمر التأسيسي” [الكنيست الأول] الصريحة والواضحة التي تهرّب منها وتنصّل. وبدلاً من الدستور، جاءت “وثيقة الاستقلال” كوثيقة تعبّر عن مبادئ الحد الأدنى التي تلتزم بها إسرائيل كدولة متحضرة. هذه المبادئ صيغت كما يلي: “[دولة إسرائيل] تطبق المساواة التامة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع مواطنيها، بغض النظر عن الاختلاف في الدين، العرق والجنس؛ تضمن حرية الدين، حرية الضمير، اللغة، التعليم والثقافة؛ تحافظ على الأماكن المقدسة لجميع الديانات وتكون وفيّة لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة”.
لكن، ها هو “قانون أساس: إسرائيل ـ الدولة القومية للشعب اليهودي” الذي أقرّه الكنيست في تموز/ يوليو 2018، يشطب المبدأ المُلزم بتحقيق وضمان المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع المواطنين، بغض النظر عن الانتماء الديني، العرقي أو الجنسي. وبذلك رفست إسرائيل وأزالت من تحت أقدامها القاعدة التي تقف عليها أي دولة متحضرة، لأن الدولة التي لا تعترف بأن مضمونها المدني سابق لأي مضمون آخر، كأنما تعلن نفسها دولة غير سوية. ليس متوقعاً من الحريديم والمتدينين التأثر والانفعال من هذا التعريف. العكس هو الصحيح، فقد اعتبروا الدولة، منذ البداية، كياناً غير سوي: “ليس ككل الأغيار في بيت إسرائيل”. لكن، ليس في الإمكان تعلّم أصول الدولة من الوسط الحريدي ـ المتدين، وبصورة خاصة من تيار الصهيونية الدينية الذي يتغطى برداء الرسمية. هؤلاء أيضاً يمثلون إرثاً تاريخياً معادياً للرسمية ولم ينجحوا في رأب الصدع القاعدي العميق بينهم وبين الوجود الرسمي إلاّ بعد تشخيصهم دولة إسرائيل بكونها “تجلياً مسيانياً”.
إن إسرائيل في ظل “قانون القومية” الجديد ليست دولة إنما شبه دولة. والدولة التي تتنكر لجوهرها المدني لا تستحق الاعتراف بها كدولة. في حينه، خلال النقاش الذي جرى في الأمم المتحدة في سنة 1947، بشأن إنشاء دولتين، يهودية وعربية، في أرض إسرائيل، طُرح تخوّف من أن تكون الدولة اليهودية المستقبلية دولة كهنوتية لا تتحمل أقليات غير يهودية بين ظهرانيها؛ لكن المتحدثين باسم الدولة اليهودية المستقبلية بذلوا جهوداً جبارة كي يثبتوا أن لا أساس لهذا التخوف وأن الدولة اليهودية ستلتزم بجميع الأحكام والمعايير المطلوبة من دولة سويّة متحضرة. وفعلاً، لولا تبنّي جميع تلك الشروط التي تضمّنها قرار الأمم المتحدة من يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 بشأن إقامة الدولة اليهودية والدولة العربية في أرض إسرائيل، ولولا تضمينها الصريح في نص “وثيقة الاستقلال”، لكان من المؤكد أن دولة إسرائيل لن تحظى باعتراف وتأييد أغلبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وفي مقدمتها الدولتان العظميان الخصمان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
جميع أولئك الذين يتحدثون الآن عن النموذج الشائع للدولة القومية وعن حق تقرير المصير المكفول للشعوب يميلون إلى تمويه، بل تغييب، حقيقة أن تعريف مفهوم الدولة القومية في الدول الغربية يرتبط، ارتباطاً وثيقاً، بالنموذج المدني ولا يقبل، بأي حال من الأحوال، الصيغة القومجية القائلة إن الدولة معدّة (مُلك) لقومية معينة أو أن الدولة هي مجرد أداة تنفيذية للقومية (على غرار المفهوم الإسلامي القائل إن الدولة هي أداة تنفيذية للدين). وهي ليست كذلك طبعاً. الدولة هي أداة تنفيذية لمواطنيها فقط. وحقيقة هي أن ثمة دولاً تعرّف نفسها أنها “دول قومية” وتؤكد طابعها القومي، لكنها تحرص عادة على التوضيح والتأكيد أنها تطبّق مبدأ “دولة جميع مواطنيها” أيضاً.
في واقع الأمر فإن “حق تقرير المصير” ليس محفوظاً للشعوب أياً كانت، وإنما فقط لسكان البلاد (شعب البلاد) الذين اتفقوا على إنشاء سلطة ذاتية من أجل ضمان حقوقهم الطبيعية، إذا لم تكن هذه الحقوق محفوظة ومضمونة، بسبب انتمائهم إلى عرق، قومية، ديانة أو ثقافة “أُخرى”. وضمان هذه الحقوق هو الأساس لوجود أي دولة مهما تكن، وعلى هذا الأساس يجوز لأي دولة أيضاً قمع وإحباط أي محاولة للانفصال عنها. لكن ما هو حكم الدولة التي تنفصل بنفسها عن قواعد اللعبة الرسمية؟ والتي يعلن قادتها جهاراً أنها ليست دولة جميع مواطنيها، وإنما دولة الشعب اليهودي بشكل حصري، بل ويدفعون نحو سن “قانون التغلب” الرامي إلى خصي الجهاز القضائي الدولتي واستبداله بما سيُطلق عليه، كما يبدو، “قانون الشعب”؟ إن هذه الدولة فقدت صوابها وخرجت عن سكّتها على صوت جعجعة احتفالية.

المصدر: صحيفة هآرتس الإسرائيلية، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole