هل يطلب الله الدم؟ أصول الأضاحي كما رأتها الأنثروبولوجيا

Spread the love
بقلم: عبد الله بن عمارة – كاتب من الجزائر |

مع كل مناسبةٍ دينيةٍ إسلاميةٍ تقتضي ذبْح الأضاحي، يتمّ استحضار المعنى الروحي للذبيحة باعتبارها واحدة من الفرائِض الدينية، وطقساً تَعَبُّدِياً يُقرِّب العبد إلى ربّه، في هذا البحث المُوجَز نتتبَّع أهم ما كُتِب عن تاريخ تبلور هذا الطقس، وعن الغاية منه، وعن وظائفه المُختلفة، من وجهة نظرٍ، تتعدّى الجانب الديني المَحْض، أيّ التراث والنصّ المُقدَّس، إلى مُقاربته كمجالٍ مُهمٍّ في العلوم الاجتماعية؛ الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والأثنولوجيا.

وهي العلوم التي من خلالها حاول الكثير من الباحثين فَهْم الظاهرة لجهةِ علاقتها بالإنسان وبتفاعُلاته مع مُحيطه الاجتماعي (المجموعات التي تشاركه نفس أنماط المعاش وترتبط معه في إطارٍ مُتماسكٍ) ومع العالم الغَيْبِي أو المُقدَّس، ومُقَارَبَة هذا الطقس بأدواتٍ معرفيةٍ غير تقليدية، بمعنى غير مُرتبطةٍ بمجالها المُقدَّس فحسب، يستدعي مِنَّا الإشارة إلى نقطتين أساسيتين نراهما مُهمّتين في هذا السياق، أولاً: المُقَدَّس لا يتشكّل، كما يقول الباحِث المغربي نور الدين الزاهي (1)، عبر عملياتٍ نظريةٍ تجريدية، وإنما هو تجربة الأفراد والجماعات في علاقاتهم المُتعدّدة مع مُحيطهم الاجتماعي والطبيعي، أي أنَّنا، أمام تجربةٍ تستدعي التاريخ الواقعي والمُتخيَّل للأفراد، وبالتالي يصبح من الضروري إدراك هذه التجربة في أبعادها الاجتماعية والتاريخية والرمزية، من أجل معرفة الآليات الناظِمة لمُمارسة الطقس المُقَدَّس، وثانياً: محاولة فَهْم تلك الأبعاد من خارج الأُطُر التقليدية، لا يُقلِّل من مكانة الطقس الروحية ومن بُعده الرمزي لدى المُمَارِسِين له، فمن الطبيعي ألا يخرج ذَبْح الأضحية  -باعتباره فرضاً دينياً يُضْفي على النصِّ الديني هالة من القداسة تجعله يتمتّع بمكانةٍ “لاهوتيةٍ” بصفتهِ كتاباً مُقدّساً، وشرعاً مُقدّساً، وأخلاقاً مُقدّسةً (2) – عن نطاق الفقه الإسلامي الذي يُفسّر مختلف التشريعات والواجبات الدينية، ويضبطها في المجتمع، فالفقه هنا كنظامٍ لاهوتيٍ، على حد قول الكاتِب الجزائري محمّد أركون، يُهمِل المقولات الأنثربولوجية والجانب التاريخي الظرفي من السِّياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت قد رُسِّخت فيها الحقائق المُقَدَّسَة والعقائدية(3)، وطقوس الذبيحة هي جزء من تلك الحقائق.

لكن ذَبْح الأضحية، كشعيرةٍ تعبُّديةٍ، وما يتعلّق بها من تفسيراتٍ ميثولوجية، ليس حَكْراً على الإسلام ولا على الأديان التوحيدية الأخرى، بل هو طقس بدائي ارتبط بظهور فكرة الدين أصلاً، وكانت تجري مُمارسته عند شعوبٍ وحضاراتٍ عديدة ضمن الإطار العام للطقوس الدينية، والذي لخّصه عالِم الاجتماع الفرنسي جون كازونوف Jean Cazeneuve، في سِمتين جوهرتين هما؛ الارتباط بمرجعيةٍ دينيةٍ  “ماورائية”، وسِمة العمل المُتَكَرِّر في نوعٍ من الثبات، فالمُمارسة المُتكرِّرة والثابتة (بمعنى خضوعها لمجموعةٍ من القواعد) لأيِّ عملٍ، بشكلٍ فردي أو جماعي، ضمن إطار مرجعية دينيةٍ مُعيّنةٍ، هي التعريف الأمثل للطقس الديني (4).


الذبيحة في الأديان البدائية

الذبيحة إذاً، كطقسٍ، ارتبط بمرجعٍ دينيٍ، هو في الأساس، التقرُّب من الآلهة، أو من كل القوى الماورائية الخارِقة، التي يلمس الناس ضعفاً تجاهها لاعترافهم بسيطرتها وقُدرتها، وبعجزهم أيضاً عن مُجاراتها.

لذلك فإن التقرّب إلى الآلهة بالذبيحة ارتبط بصيغةٍ احتفاليةٍ وموسميةٍ، سوف يصبح معها هذا الطقس من نوع الطقوس الإحيائية، إذا ما اعتمدنا تقسيم عالِم الأنثروبولوجيا البريطاني جيمس فرازر James Frazer (قسّم فرازر الطقوس إلى أربعة أنواع؛ الودية، الإحيائية، الدينامية والطقوس المُرتبطة بالعدوى)، التي تتجسَّد فيها قوَّة الإله والطَوْطَم (5)، كما ارتبط أيضاً بالحاجات الطبيعية الضرورية للشعوب، المُراد تحقيقها من قِبَل الآلهة، فعند الشعوب الزراعية، تستدعي الحاجة إلى المطر، تقديم الذبائح والقرابين إلى الآلهة (قد تكون آلهة المطر)، أو تقديم القرابين (قد تكون بشرية) للآلهة، كما عند المصريين القدامى، حتى تمنع عنهم غَضَب نهر النيل المُتمثّل في الفيضان، كما قدَّمت بعض شعوب أميركا اللاتينية، كشعب المايا، قرابين وذبائح للآلهة طلباً لحاجاتٍ أو تكفيراً لذنوبٍ اقترفوها، وعند السكان الأصليين لأوستراليا كانت تُقدَّم الذبائح في ولائمَ تنتهي بأكل الناس لطَوْطَمِهم (6).

لكن هذه النظرية التي تَوسَّع فيها عالِم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوارد تايلور Edward Tylor، والتي ترى أن الذبيحة، إنما هي هدية أو هِبة يتقدّم بها “المؤمِن” إلى الآلهة من أجل استجلاب كَرَمِها عليه، فتكون في وضعية المَدين له، والمُضطر لوفاء هذا الدَين، واجهت انتقادات عند دارسي الظاهرة من عُلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الغربيين، حيث جاء عالم الأثنولوجيا الألماني Wilhelm Schmidt الذي يعتبر الطَوْطَمية أقدم الديانات، لينتقد أساسها، وهو مبدأ الهِبة، ويدعو لمُقاربةٍ جديدةٍ يتعلّق مضمونها باعتبار الذبيحةِ شكلاً من أشكال المآدب المشتركة بين الآلهة والناس، حيث يتناولون نفس أنواع الأطعمة فيحدث التقارُب بينهما.

أما نظرية فرازر في هذا المضمار، فتعتمد على أن الآلهة، ورغم قوّتها وسطوتها على الناس، تخضع لقوانين الطبيعة، فمصير الطبيعة مُرتبط بمصير هذه الكائنات القوية (الآلهة) فإذا ضعفت أصاب الطبيعة الهزال، و” من أجل أن يَحُول الإنسان من دون وقوع هذه الكارثة يقوم بنقل القوّة الموجودة في الآلهة إلى شخصٍ آخر، وهذا ما كانت تُجسّده بعض القبائل المكسيكية، فتأخذ أحد أسراها وتعبده مدّة ستة أشهر من السنة، ثم تأكله وتذبحه وتصنع من جلده ثياباً لأسيرٍ جديد، يصبح بدوره إلهاً، وتعتقد بأن الإله الذبيح قد ذهب بأمراضها وجرائمها وعِللها”(7).

أما نظرية البريطاني غرانت آلن Grant allen، فاعتمدت على أن الذبيحة نابعة من عبادة الأسلاف، لأن القبائل المُتوحّشة تقدِّم الذبائحَ لأرواحِ الموتى حتى تتّقي شرّها.

أمَّا عالما الأنثربولوجيا والسوسيولوجيا الفرنسيان مارسيل موس Marcel mauss وهنري هوبير Henri hubert ، وهما لم يخرجا، كما يرى الأنثروبولوجي البلجيكي جون بول كولاين Jean-Paul Colleyn، عن إطار المدرسة السوسيولوجية التي أسَّسها إميل دوركايم  Emile durkheim، والتي ترى في المُقَدَّس تعبيراً رمزياً عن المجتمع، وتعتبر الدين “أقنوماً”(8) للوعي الذي يُعطيه المجتمع لنفسه، فقد اعتمدا في دراستهما المُخَصَّصَة لطبيعة ووظيفة الأضحية بعنوان “بحث حول طبيعة ووظيفة الأضحية“، على مبدأ أن الذبيحة، هي فعلياً، تكريس يجري معه التحوّل من الحلالِ إلى الحرام، بهدف تغيير حالة مُقدِّم الذبيحة.

وقد ركّزا، وفق تقديم عالِم الاجتماع والأثنولوجيا السوري يوسف شلحت، على كيفية وقوع الذبيحة عند الهندوس، حيث يقوم الكاهِن بتكريس الضحية لتكون على صلةٍ بعَالَم الآلهة، ولا تكتسب صفتها التحريمية التامّة إلا بعد انتهاء مراسِم الاستعداد عندما يرفعها الكاهِن إلى هِبة للآلهة، لكن القوّة المُكتسَبة لا تخرج سوى بخروج الحياة، فيقتل الكاهن الذبيح، ثم يقوم بتقديم أجزائه على مَن حصلت التضحية لأجلهم ليستفيدوا من التكريس.

مبدأ التكريس إذاً، هو الانتقال من المُدنَّس (الدنيوي) إلى المُقَدَّس لأن الأضحية تُحِيل، حتماً، إلى التكريس بمعنى الانتقال من المجال المشترك إلى المجال الديني، كما عارضا، عالِم الحفريات الفرنسي سلومون ريناك Salomon Hermann Reinach الذي اعتقد بوجودٍ للطَّوْطَمية خلف كل أضاحي الآلهة في العالم الإغريقي-الروماني (9).

فذهبا إلى أن تقديم الأضحية للآلهة ليس بالضرورة أن يكون من أصلٍ طَوْطَمي، وانتقدا أيضاً، نظريات عالِمي الأنثروبولوجيا البريطانيين سميث روبرتسون William Robertson Smith وفرايز، حول طقس الأضحية، على اعتبار أنهما لم يُفسِّرا وظيفته ولم يتعمّقا في أبعاده.

لقد رأى موس وهوبير أن للذبيحة (الأضحية) وظيفة أيديولوجية وسياسية بحيث أن “التراتبية الاجتماعية في عددٍ كبيرٍ من المجتمعات الدينية/السياسية تتحدَّد بصفاتٍ مُكْتَسَبَةٍ أثناء التضحية المُقدَّمة من كلِ فرد … وقد تُضحّي الجماعة أيضاً” (10).

يتَّضِحُ لنا بعد هذا السَرْد المُقْتَضَب، لأهمِ نظريات العلوم الاجتماعية التي فسّرت أو “أرَّخت” لتطوّر مفهوم الذبيحة أو الأضحية عند الأديان القديمة، أن النقطة المشتركة بينها هي إراقة الدماء، أو ما يُمثِّل عنصر الحياة في الضحية (11).


الذبيحة في الميثولوجيا اليهودية والمسيحية

تجدر الإشارة هنا إلى أن استعمالنا لمُصطلح الميثولوجيا أو الأسطورة، لا يعني تبنِّي موقف قِيَمي مما يعتقد به المؤمِن، من أيِّ دينٍ كان، من قَصَصٍ أو حكاياتٍ مُتوارثة شفهياً، تلعب فيها “الكائنات الماورائية” أدوراً أساسية، أو واردة في الكُتب المُقَدَّسة، ولسنا أيضاً بصَدَد مُناقشة مضمون هذا المفهوم في سياقه الفلسفي، وما أثاره من جدلٍ ونقاشٍ على مستوى الفكرِ الغربي، كما على مستوى الفكر العربي (12)، وإنما سرد التبريرات والتفسيرات التي يتمّ من خلالها إضفاء الشرعية الدينية والقداسة على ممارسة طقس ذَبْح الأضحية.

اعتمدت الميثولوجيا اليهودية من خلال التَوْراة، باعتبارها الكتاب المُقَدَّس الأول المُؤَسِّس للعقيدة الدينية التوحيدية، على مبدأ التكفير عن الخطايا والذنوب، وعلى طلب العون من الرب، فلم يختلف مضمون الذبيحة عندها عن مضمون الأضحية والقرابين لدى الأديان الوثنية والبدائية، فنجد إراقة دماء الأضاحي في الكثير من المواضع في التَوْرَاة؛ في قصة إبنيّ آدم قابيل وهابيل، وقصة نوح، نجد الحيوانات موضوعاً للتضحية، كما نقرأ عن “التضحية البشرية” أيضاً، في قصّة أمر الرب لإبراهيم بالتضحية بإبنه إسحاق، في استحضارٍ لطقسِ القربانِ البشري الذي عَرفته حضارات وشعوب قديمة (المصريون، السومريون…)، وإبراهيم هو الأب الذي تتّصل به كل الأديان التوحيدية باعتباره أباً لعقيدة التوحيد.

أما في الميثولوجيا المسيحية فإن فكرة الذبيحة تجسَّدت في المسيحِ المصلوب، فالتكفير عن الذنوب والخطايا والتقرّب من الرب وطلب الغُفران، لا يتأتّى من خلالِ تقديمِ أضحيةٍ حيوانية، وإنما هي مُجَسَّدة في يسوع الذي يَفْتَدي أتباعه بدمه، ويتحمَّل عنهم خطاياهم.


الذبيحة في الميثولوجيا الإسلامية

تحتلّ الذبيحة في الميثولوجيا الإسلامية، المُنْتَسِبَة لإبراهيم كأبٍ مُؤَسِّسٍ للأديان التوحيدية، موقعاً رئيسياً في الطقوس التَعبُّدية، باعتبارها واحدة من الشعائر الأساسية للمسلم، والتي تجري وفق نَسَقٍ طقوسيٍّ مُتكامِل، وهي وإن التقت مع مثيلتها اليهودية التوراتية، لكنها تختلف عنها في تفاصيلَ طقسيةٍ معينةٍ من ناحية، وفي قصة أمر الرب لإبراهيم بافتداء إبنه (إسحاق في الرواية التوراتية اليهودية، وإسماعيل في الرواية الإسلامية) كقصةٍ مركزيةٍ في المسار التأسيسي لطقس ذَبْح الأضاحي في الميثولوجيتين اليهودية والإسلامية، من ناحيةٍ ثانية.

وقصّة القُربان الإبراهيمي تأخذ لها في النظام اللاهوتي الإسلامي حيِّزاً كبيراً، وما يترتّب عنه من ارتباطٍ بإطارٍ زمنيٍ مُقَدَّس، هو زمن طقوسي، أو فترة مُقَدَّسة “لا تُسهم بالفترة الزمنية التي تسبقها والتي تتبعها، والتي هي من بنيةٍ أخرى وأصلٍ آخر، لأن هذا هو زمن بدئي، قدس من قِبَل الآلهة وهو قابل ليصبح حاضراً بالعيد “(13)، ويأخذ طقس الذبيحة هذا، طابعاً احتفالياً تُدَشَّن معه دورة طقوسية، قد تتميَّز أشكاله، والتظاهرات المرتبطة به، من منطقةٍ الى أخرى في العالم الإسلامي، كما لاحظَ عالِم الأنثروبولوجيا المغربي عبد الله حمودي ذلك التَمَيُّز في منطقة المغرب (الجزائر، تونس، المغرب الأقصى) (14).

وقد تشكّل هذا الطقس، في الزمن الإسلامي الأول، اعتماداً على الموروث الإبراهيمي، باعتبار الإسلام كدينٍ جديد، جزءاً من نفس المنظومة الإبراهيمية التوحيدية؛ “وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ  مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ  هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ  فَنِعْمَ المَوْلىَ وَنِعْمَ النَّصِيرُ“(15)، وقطع مع النظامِ الطقوسيِ الوثنيِ الذي جسّده العرب قبل الإسلام، بالنحرِ في الكعبةِ للآلهة الأوثان والأصنام، ولربِ البيت الذي يحميها، والذي لا يمكن أن يكون، وفق المنظومة الدينية الوثنية، سوى من جنسِ هذه الآلهة والأصنام.

فربّ البيت الذي هو ربّ للأوثان، كما يقول الكاتب التونسي وحيد السعفي، وفق هذا المنطق هو أيضاً وثن من الأوثان، فإذا كانت الكعبة البيت الحرام، بيتاً للأوثان ولربّها الحارس الحامي، ستصبح هي أيضاً وثناً، ويصبح النحر عندها للهيكل الوثن(16)، ولكنه أبقى على نحر البُدْن من الأنعام، التي كانت من الإبل كما كانت تفعل العرب قبل الإسلام، في الهَدْي الذي رافق العُمُرَات التي أدّاها الرسول (ص)، إلى غايةِ “حَجَّة الوداع”، التي يمكن منها التأريخ لعملية التأسيس للأضحية بالكبش، فَتَقَوَّضَ نِظَام الهَدْي، “ودخل الكبش يفرض على الناس الأضاحي، ويجعل من الحجّ عيداً للذبح، ويعلن على مسامعِ الملأ، انقضاء زمن الهَدْي والنَحْر”(17). من هنا تبدو القطيعة مع طقوس الذبيحة العربية لفترة ما قبل الإسلام، ليتمّ ربط شعيرة الذبيحة، وما ارتبط بها من طقوس، نهائياً، بالأصلِ الإبراهيمي؛ ذبح الكبش يُخَلِّد، على حد قول السعفي، الكبش الهابِط من السماء فداءً لإسماعيل، والنحر في حَجَّةِ الوداع عند مِنًى، يُخَلِّد القربان العظيم عندما همَّ إبراهيم بذبح إبنه فداءً للربّ في منًى.


الدم والعنف والذبيحة

رغم أن القرابين المُقدَّمة للآلهة، كانت نباتية عند بعض الشعوب والأديان، إلا أن القربان الحيواني كانت له الأولوية، لأن التضحية بالحيوان مرتبطة بإراقة دم الأضحية، الذي يُحيل إلى رمزية الحياة.

ولعلّ في قصّة تقبّل الربّ لقُربان أحد إبني آدم ورفض الآخر ما يدعم هذا الطرح، والذي وَلَّد عداوة، حسب القصة المعروفة، بين الأخوين أدّت في النهاية لأن يقتل قابيل أخاه هابيل. فِعْلُ القتل هنا حدث حتى لا يتمّ تأسيس العلاقة القربانية مع الله كما يقول الباحِث السوسيولوجي المغربي نور الدين الزاهي في كتابه “المُقَدَّس الإسلامي”، بمعنى أن قتل هابيل لقابيل لكي لا يحدث فعل القتل، الذي حصل أصلاً حتى يحول دون تحوّل القتل إلى فعلٍ دائمٍ ومُدمّرٍ للحياة والاستمرارية.

عملية المَنْع تلك هي التي أسّست لرمزيّته اللاحقة. فالله قبل قربان هابيل حتى يعوّض به تكرار التجربة الأصلية (القتل) ويحصرها في المجال الرمزي أو الطقوسي “الأضحوي”(18). العنف في هذه الحال يذهب للأضحية أو الذبيحة بدل الأضحية البشرية، أي أن الذبيحة الطقسية تقوم على “إبدالٍ معاكسٍ” يكون الهدف فيه من تقديم الذبائح الحيوانية، صرف العنف عن بعض الكائنات التي نعمل على حمايتها كما يقول عالِم الأنثروبولوجيا الفرنسي رينيه جيرار René Girard في كتابه “المُقدَّس والعنف”(19).

ومن خلال هذا السياق تبلور مفهوم التضحية عند المسيحية تضحية المسيح بنفسه فداءً لأتباعه ليتحمّل عنهم خطاياهم، وفي الإسلام من خلال “الاستشهاد” من أجل إعلاء كلمة الدين والأمّة.

في قصةٍ متوارثة في التراث الصوفي الجزائري تتجسّد من خلالها الرمزية المُحيطة بإهراق الدم الحيواني من أجل تحقيق غَرَضٍ إيديولوجي سياسي ذي مضمونٍ عُنفي، عن القطب الصوفي أحمد بن يوسف المَلْيَانِي (لعب دوراً حاسماً في تشكيل “الكيانية الجزائرية الحديثة” بتحالفه مع الإخوة بربروس)، الذي حمل على عاتقه تعبئة الناس لمواجهة الهجمات الإسبانية على ثغور بلاده، من خلال اصطفاء نخبةٍ من مُريديه الأكثر ولاءً واستعداداً للتضحية من أجل مشروعه الجهادي، فامتحن أتباعه في عيد الأضحى بطريقةٍ غريبةٍ كما ينقل لنا الباحِث الجزائري محمّد حاج صادق، في كتابه عن مدينة مَلْيَانَة الجزائرية وولِيِّها ؛”تتابع الأتباع في بيتٍ له بابان، واحد للدخول وآخر للخروج، وبعد دخول أحدهم يظهر خيط من الدم من باب الدخول يراه الحاضرون وهم ينتظرون دورهم، والحقيقة هي حيلة فقط شبيهة بالقصة الوارِدة في التوراة والقرآن عن تضحية إبراهيم الخليل بإبنه إسحاق في التوراة وإسماعيل في القرآن والضحية هنا وهناك إنما هي خروف أو كبش”(20). أراد بن يوسف المَلْيَانِي من خلال استحضاره لقصة القربان الإبراهيمي، أن يستثمر في الرمزية التي يجسّدها القربان من أجل تحويل طاقة العنف الكامِنة فيها نحو النخبة ذات الولاء التام لشيخ الطريقة الصوفية، التي يحشدها لعملٍ جهادي قادِم، ضدّ أعدائه الإسبان، واستعدادٍ مُطلَق للشهادة من أجل الأمّة والدين.

وهذا يُذَكِّرنا بما يُسمّيه عالِم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستروس Claude Lévi-Strauss النَسَق الديني والنَسَق الحربي، بمعنى أن نسبة الذبيحة إلى ربّ الأسرة، أو إلى شيخ الطريقة كما في قصة المَلْيَانِي، هي نسبة الشهيد إلى الأمّة الإسلامية، الضحية الذبيحية تبذل نفسها مكان الأب أو الشيخ (21).


خاتمة

هل يطلب الله الدم؟ عن الذبيحة في الأنثروبولوجيا

الذبيحة في الأديان البدائية والتوحيدية، وعلى رغم الاختلاف الظاهر في الطقوس المُرتبطة بها، أو في كيفيّة حصولها وطُرُق تقديمها، أو الميثولوجيا المُبَرِّرَة لها، أو المُفَسِّرة للغاية منها، هي في النهاية، أضحية يتمّ تقديمها لقوى ماورائية أو ميتافيزيقية من أجل استدرار عطفها ومَدَدها وطمعاً في نَيْل مَرضاتها.

أما الثابت فيها فهو إراقة الدم الحيواني الذي يرمز لعنصر الحياة وللاستمرارية، وهي كطقسٍ، مرتبطة بالمُقَدَّس المُتماثل مع الإلهي الذي يتميّز بالتعالي عن حياة الأفراد وهو الوجه المفارِق والمُتعالي لحياة الجماعة الدنيوية.

وبسبب سِماته هذه، فإنه لا يستطيع التعايُش مع ما يُعارضه سوى بكيفية مفارقةٍ ومتوازيةٍ كما يقول إميل دوركايم(22)، كما أن الذبيحة كممارسةٍ طقسية، تستبطن رمزية معيّنة لها دلالات في المُتَخَيَّل الجَمْعِي للجماعة المُمَارِسة لها.

فمن وجهة نظرٍ أنثروبولوجية وسوسيولوجية تصبح كل تلك الطقوس ذات الطابع الاحتفالي، فرصة لرَفْدِ الوعي الجَمْعِي بوظائف اجتماعية أو سياسية لها دلالاتها الرمزية التي تُؤَسِّس لشرعيةٍ سياسيةٍ معينة أو لمركزٍ اجتماعي متقدّم.

وبالتالي فعلوم الأنثربولوجيا والسيوسيولوجيا، تُمَكِّنُنَا من دراسة الممارسة الطقوسية من خارج مجالها اللاهوتي (كشعيرةٍ تعبُّديةٍ واجبة)، أيّ كممارسةٍ اجتماعيةٍ لمحاولة فَهْم ما هو كامِن في المُتَخَيَّل الجَمْعِي وتحليل المضامين الرمزية التي تحرّك ذلك الفعل الطقسي.

 


المصادر

(1) نور الدين زاهي، المُقدّس والمجتمع، إفريقيا الشرق، المغرب، ص 75

(2) محمّد أركون، القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت 2005، ص 25

(3) محمّد أركون، نفسه، ص26

(4) jean cazeneuve, sociologie du rite, tabou, magie, sacré, paris, puf, 1971 p14

(5) الطوطم: أخذت عن الأوجيبوا، وهي لغة سكان البحيرات الكبرى في أميركا الشمالية، وقد أُدخلت إلى القواميس الغربية سنة 1791، لكن استخدامها العلمي يعود إلى الأسكتلندي ماك لينان سنة  1870، ويُستخدم بمعنى العلاقة الاجتماعية (القرابة أو الصداقة) القائمة بين شخصين، هناك بعض الجماعات تنتظم في عشائر أبوية النَسب وخارجية الزواج، وتتّخذ كل عشيرة لقباً مستمداً من الحيوانات.

(6)M. Segalen, rites et rituels contemporains, édition Nathan, Paris, 1998, p 8

(7) يوسف شلحت، نحو نظرية جديدة في الاجتماع الديني :الطوطمية-اليهودية-النصرانية-الإسلام، دار الفارابي، بيروت، ص 79.

(8) الأقنوم: Hypostasis باليونانية هى هيبوستاسيس، وهي مكوّنة من جزءين: هيبو وتعنى تحت، وستاسيس وتعنى قائم، فكلمة هيبوستاسيس تعنى تحت القائم، وفي اللاهوت تعني ما يقوم عليه الجوهر أو الطبيعة، والأقنوم هو كائن حقيقي له شخصيته الخاصة به، وله إرادة، ولكنه واحد في الجوهر والطبيعة مع الأقنومين الآخرين بغير انفصال.

(9) Salomon Hermann Reinach, Cultes, mythes et religions, paris ,1905

(10) Marcel Mauss, Œuvres complètes, Paris, Éditions de Minuit, 1968, p 270

(11) يوسف شلحت، نفس المصدر ، ص 81

(12) نذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما كتبه محمّد أركون حول هذا الموضوع في كتابيه “تاريخية الفكر العربي الإسلامي” و”القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني” وفراس السواح في كتابيه “مغامرة العقل الأولى ، دراسة في الأسطورة : سوريا وبلاد الرافدين”، “الأسطورة والمعنى : دراسات في الميثولوجيا والديانات الشرقية”

(13) مرسيا الياد، المُقدّس والمُدّنس ، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق ،1988، ص59

(14) عبد الله حمودي، الضحية وأقنعتها: بحث في الذبيحة والمسخرة في المغارب، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، 2010 ص 10 .

(15) آية رقم 78 من سورة الحج.

(16) وحيد السعفي، القربان في الجاهلية والإسلام، تبر الزمان، تونس،2007، ص196

(17) وحيد السعفي ، نفس المصدر ، ص 200.

(18) نور الدين الزاهي، المُقدّس الإسلامي، دار توبقال، المغرب 2005، ص 96.

(19) رينيه جيرار، المُقدّس والعنف، ترجمة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ص 20.

(20) ورد هذا النصّ التراثي في كتاب محمّد حاج صادق، مليانة ووَلِيِّها سيدي أحمد بن يوسف، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ص91.

(21) عبد الله حمودي، مصدر سبق ذكره، ص168.

(22)Emile durkheim, les formes élémentaires de la vie religieuse, livre de poche, paris, 1991, p539

المصدر: الميادين نت

Optimized by Optimole