هل كان شمسُ تبريزي إسماعيليًّا؟

Spread the love

بقلم: خالد محمد عبده /

تعبّر كلمة الباحث والمترجم محمد علي موحدّ بصدق عن عدم التفات الدراسات العربية المعاصرة إلى شخصية شمس تبريزي، على الرغم من الشهرة التي تحققت للرّومي وشمس باجتماعهما معًا، فلم يُعرف الرومي قبل شمسٍ إلاّ شيخًا وواعظًا متابعًا للتقليد الصوفي في عصره، متأدّبًا على نهج الصوفية السابقين، متلقّيًا العلم كأبناء عصره، دارسًا للشريعة، مربّيًا للمريدين. كذلك لا نعرف عن شمسٍ سوى النزر اليسير قبل لقائه بالرومي، وعثوره على ما كان يبحث عنه؛ إذ (كان المطلوب لستة عشر عامًا ينظر في وجه المحبوب، فأدرك الطالب بعد خمسة عشر عامًا أنه جديرٌ بالاهتمام)[2].

ولا ريب أن قلّة المعلومات عن شمسٍ كانت سببًا فيما اكتنف تلك الشخصية من غموض وإبهام؛ مما جعل الدارسين يخلطون بين شخصيات عدّة تحمل الاسم نفسه، وينظر إليها بعين التقديس من قِبل المحبين، فصار شمس مرة صوفيًّا ومرة إسماعيلي المذهب والعقيدة، مستترًا ممارسًا للتقية، ومرةً سنّيًا شافعيًا، ومرة يُذكر باعتباره أنموذجًا للتحول المذهبي، وتغيب ملامح الشخصية وسط هذا الكمّ من التخمين.

سنتناول في هذه الورقة حقيقة شمس تبريزي ومذهبه، وتدخل هذه المسألة ضمن اهتمام الباحث بالتلقّي العربي للرومي والمولوية، كما كانت المدرسة المصرية تفعل في بدايات القرن المنصرم، وتابعها في عملها أساتذة أجلاء من سوريا والعراق والأردن وغيرها من البلدان العربية.

ولأن الدرس الغربي المبكر صوّر شمسًا في صورة أسطورية، اعتمادًا على بعض المعلومات الواردة عند أفلاكي وجامي، رأيت أن أعرض لآراء طائفة من المستشرقين، ومن هنا تمر الدراسة على رأي نيكلسون وبراون ووليم تشيتيك وفرهاد دفتري وغيرهم. ثم تختار أنموذجًا لمن كتبوا عن شمس بالفارسية العلامة فروزانفر المحقق لأعمال الرومي، وعطاء الله تدين، من المعاصرين ممن تلقى كتبهم رواجًا في إيران وتحمل نزعة قومية ظاهرة، وتلا هذا الأنموذج الذي يتبنى المذهب الشيعي، أنموذج لمقاربة أخرى تناولت الرومي والمولوية مرتكزة على الخلفية السياسية والأيديولوجية من جهة، وعلى العلم الحديث من جهة أخرى، وهي مقاربة العراقية إحسان الملائكة، ثم ناقشت رأي الإسماعيليين العرب في شمس تبريزي.

شمس تبريزي في مرآة الدرس الاستشراقي

مَنْ ذلك الرجل الذي تولّى تغييرَ الروميّ تغييرًا تامًّا؟

ليس لدينا الكثير الذي نعرفه عنه، والحكايات التي حيكت حوله تظهره كشخصية قويّة جدًا وعلى قدر هائلٍ من الاعتداد الرّوحي؛ وقد طوّف في بلدان الشرق الأدنى بحثًا عن شيخ. ولم يستطع أحدٌ، من صوفية ذلك الزمان، أن يكون في نجوة من نقده اللّاذع. ويذكر هو نفسه في «مقالاته» أنه كان في وقت من الأوقات مريدًا لشيخٍ كان قد انصرف عنه أخيرًا: (كان فيَّ شيء لم يبصره شيخي، وعلى الحقيقة لم يره أحد قط؛ لكن سيدي مولانا رآه)[3].

تلخّص كلمة المؤرخ التركي عبدالباقي كَلبينارلي للرومي والمولوية ما يعانيه الباحث حول هذه الشخصية من ندرة المعلومات عن شمس؛ وتطوافه وانتقاله في بلدان العالم الإسلامي، وقلقه واضطرابه، ونقده اللاذع للفقهاء والصوفية والعلماء السابقين، وتوقه للحصول على ما يشبع روحه الطامحة لعرفان وتصوف يختلف عما هو سائد في عصره.

وقد نبّهت المستشرقة الألمانية أنّا ماري شيمل في آخر دراساتها «الشمس المنتصرة: دراسة آثار الشاعر الإسلامي الكبير جلال الدين الرومي»[4] من مغبة الخلط بين (شمسين)؛ إذ يعرف أهل الهند شخصاً آخر بالاسم نفسه ينتسب إلى الطائفة الإسماعيلية، فيرتبط جلال الدين الرومي وشيخه الروحي شمس الدين التبريزي بتقليد روحيّ آخر: في مدينة مُلْتان، ضريحُ شخصٍ اسمه شمس تبريزي هو مزارٌ للمؤمنين. وفي أيّ حال، ينتمي البناء البسيط المزخرف بالآجر الأزرق والأبيض مع سَرْوٍ زيني إلى المبشّر الإسماعيلي الشهير (شمس تبريزي) بمرتبة أحد الشيوخ الخمسة «بنج بيري» [بالفارسية]، وهم مجموعة من خمسة أولياء ظلّوا زمنًا طويلاً محلّ توقير كبير في أجزاء من الهند خصوصاً في وادي السند. ويعرفُ أدبُ السّندِ، الذي يخلط دائمًا بين معشوق الرومي والمبلّغ الإسماعيلي أساطير كثيرة حول شمس تبريزي[5]. لكنها تقطع بأنه على أية حال لا يمكن اعتبار شمس الإسماعيلي هو (شمس الرّومي).

يصف المستشرق الإنجليزي رينولد ألين نيكلسون (1868-1945) [6] شمس تبريزي من خلال مطالعاته الأولى في ديوان شمس للرومي، بأنه شخصية غامضة تتدثّر بلبّاد أسود خشن، تضوي لحظة قصيرة على مسرح الحياة ثم تختفي فجأة وفي سرعة فائقة، والمعلومة التي من خلالها يرتبط اسم شمس بالإسماعيلية، هي التي ترد على لسان نيكلسون بصيغة المبني للمجهول! يُقال: إنه من أبناء (جلال الدين) المُلقّب بلقبِ (نو مسلمان = المسلم الجديد) الذي كان زعيمًا للحشاشين. ويضيف نيكلسون قائلاً: «إنه كان إلى حدّ ما أميًّا، ولكنه امتاز بحماسٍ روحيٍّ شديد، مصدره الفكرة التي استولت عليه فجعلته يتخيل أنه مبعوث العناية الإلهية، وقد استطاع بواسطة ذلك أن يسيطر على كلّ من قدم عليه أو دخل في مجلسه. وهو من هذه الناحية، ومن نواحٍ أخرى تتصل بحبّه المتّقد، وفقره المدقع، وموته العنيف، شبيه كل المشابهة بالفيلسوف (سقراط)، فكلاهما استطاع أن يفرض نفسه على أذكياء الناس بقدرته على تصوير أفكارهم البسيطة في تعبير فنيٍّ رائع، وكلاهما استطاع أن يكشف لنا عن خطل العلوم الظاهرة، وعن شدة حاجتنا إلى التثقيف والتنوّر وعن قيمة الحب في حياتنا، وأن الانفعالات الشاردة والتحديات الجاهلة للقوانين الإنسانية، إنما تؤدي إلى فقد (الاتزان العقلي) و(السمو الأخلاقي) اللذين هما مقياس التمييز بين الحكيم والمريد»[7].

ويكتفي براون[8] بإيراد ما كتبه نيكلسون باقتضاب عن شمس وتاريخه ما قبل لقائه بالرومي، ولا نعثر في (تاريخ الأدب) على تعليق حول صحة هذه المعلومة التي تجعل من شمس إسماعيليًّا. والمصدر المعتمد عند براون في الحديث عن شمس ما بعد لقائه بالرومي هو الأفلاكي[9].

لا يقدّم وليم تشيتيك (William C. Chittick)[10] في كتابه الذي ترجم فيه إلى الإنجليزية قدرًا كبيرًا من المقالات معلومات تاريخية عن شمس[11]، لكنه يرى في مقال له أن: اسم شمس يألفه قليلٌ من الذين سمعوا عن جلال الدين الرومي، ونادرًا ما تكون معرفتهم صحيحة ودقيقة. فمعلوماتهم عنه تنحصر في وصوله إلى قونية، ومقابلته للرومي، وما أدّت إليه هذه المقابلة من تغيير حال الرومي رأسًا على عقب (…) وبذلك يكون شمس قد لعب دورًا غير مباشرٍ في التاريخ الإسلامي. ومن هذه النقطة ينطلق سيد حسين نصر[12]بدراسته حول كتابات الرومي، التي بدأها الرومي بعد لقائه بشمس وحتى آخر عمره، كتب نصر يقول: «لم يكن شمس مجرد معلّم صوفي للرومي. فجلال الدين بالتأكيد قد درس التصوف لسنوات عديدة قبل لقائه به، لكن يبدو أن شمسًا هو الرسول الإلهي الذي أظهر الحالة الروحية للرومي بهيئتها الشعرية»[13].

وقد نوّه أيضاً فرانكلين لويس إلى هذا الخلط في الأمر، قائلاً: صوّرت الأسطورة شمساً فاتناً للجماهير، ساذجاً، جوّالاً ممتلكاً طاقات خارقة، اختار الرومي اسمه ليكون بؤرة تدينه ابتغاء اختبار مريديه وتقديم شخصية أدبية لغزلياته. وهذه النظرة منعكسة في آثار جامي ودولتشاه، وإلى حد ما الأفلاكي. وقد عكس الدرس الغربي المبكر هذه النظرة (الأسطورية المتأخرة) إلى شمس، إذ اعتقد براون أنّ شمساً كان الابن لجلال الدين نُو مُسلمان الذي قضى على فرقة الحشاشين[14].

يستفاد من أخبار شمس التي يوردها فرانكلين[15] من خلال اعتماده على (مقالات شمس والأفلاكي) –بالدرجة الأولى– أن شمسًا لم يكن متعصّباً لمذهب من المذاهب الفقهية، فهو وإن تعلّم الفقه الشافعي وصار شافعي المذهب، كان يقول إنه لن يسمح لانتمائه إلى المذهب الشافعي بأن يقف في طريق قبوله الأشياء النافعة في أعمال أبي حنيفة. كان شمسُ شافعيًّا إذن –حسب المقالات– قارئًا على نطاق واسع في المتون الفقهية الأساسية، وهو يذكر تحديدًا واحدًا من المتون الفقهية الشافعية الرئيسة الخمسة كتاب (التنبيه في فروع الشافعية) لأبي إسحاق الشيرازي (تُوفي 1083) في حين كان الرومي حنفي المذهب.

إضافة إلى تأكيد المقالات شافعية شمس تبريزي، هناك ما يشير لاعتناقه مذهب السّنة، وتحديدًا الأشعرية، ورفضه مذهب المعتزلة، ويدعم القول التالي هذا الترجيح: «هذا المذهبُ للسُّنةِ أقربُ إلى الأمر من مذهب المعتزلة؛ فذلك أقربُ إلى الفلسفة؛ من حفر بئرًا لأخيه وقع فيه»[16].

شمس في الدّراسات الإسماعيلية

أريد شخصًا من جنسي لكي أجعله قبلة، وأتوجّه إليه لأنني قد مللت من نفسي. فهل تفهم ما أعنيه عندما أقول: إنني مللتُ من نفسي؟ والآن عندما جعلته قبلة (أي الرومي) يفهم ويدرك ما أقوله[17].

يؤكد فرهاد دفتري[18] في دراساته الإسماعيلية أن شمس الدين بن محمد بن ركن الدين خورشاه (ت. 655هـ/1257) آخر حاكم لألموت وولي عهده المنصوص عليه، قرنته الروايات الإسماعيلية الأسطورية بشمس تبريزي المرشد الروحي للشاعر الصوفي العظيم جلال الدين الرومي، ويخبرنا بأن هذه الشخصية الإسماعيلية قد عاشت بصورة سرية في هيئة نقّاش؛ ومن هنا جاء اللقب الذي عُرف به وهو (زردوزر)، وبوفاة شمس الدين محمد حوالي (710هـ/1310) حدث نزاعٌ بين أولاده على خلافته، وكانت النتيجة أن انقسمت الإمامة والجماعة الإسماعيلية النزارية إلى فرعي القاسمشاهية والمؤمنشاهية المتنافسين[19]. وربما كان تطور العلاقات الصوفية– الإسماعيلية في بلاد فارس سببًا في هذا الخلط، فقد تطورت هذه العلاقات إلى درجة من التمازج والاتحاد بين الصوفية الفارسية والنزارية الإسماعيلية، وهذا ما يفسّر نظرة الإسماعيليين النزاريين الناطقين بالفارسية إلى كبار شعراء المتصوفة في فارس، كفريد الدين العطّار وسنائي الغزنوي وجلال الدين الرومي وغيرهم.

ويواصل الإسماعيليون النزاريون في فارس وأفغانستان وآسيا الوسطى استخدام قصائد شعرية لهؤلاء الشعراء وغيرهم من المتصوفة في العالم الإيراني في احتفالاتهم الدينية، يُضاف إلى ذلك أن النزاريين الفرس سرعان ما تبنّوا المظاهر البارزة في الحياة الصوفية. وظهر الأئمة للغرباء بصورة الشيخ الصوفي أو البير (= شيخ) بينما تبنّى الأتباع التسمية الصوفية النموذجية (المريد)[20].

احتجاب الشَّمس

عام 2007 انتهى شفيق ن. فيراني من تأليف كتابه (صراع البقاء: الإسماعيليون في العصور الوسطى)، وفي هذا الكتاب يخصص فصلاً للحديث عن الإمام الإسماعيلي شمس الدين محمد، ويفسح مجالاً لمحاولة تبديد الظلال الكثيفة التي تحيط بشخصية شمس، معتمدًا على جملة من المصادر الإسماعيلية والدراسات الحديثة التي كُتبت حول (شمس تبريزي) كمقالة المستشرق الروسي المتخصص في الدراسات الإسماعيلية فلاديمير إيفانوف (Vladimir Ivanov)، وغيره من المستشرقين، وإذا كان الدرس الاستشراقي المبكّر –كما رأينا– تبنّى وجهة النظر التي تعتبر شمس تبريزي معلم الرومي أحد الأئمة الإسماعيليين، فكما رأينا، فإن الدرس المعاصر أيضًا لم يدقق في هذه النسبة أو يمنحها مزيدًا من الاهتمام، مما يجعل معالجة فيراني ذات أهمية كبيرة، لذا سنعرض هنا لكيفية معالجته، وإلام انتهى في أمر هذه النسبة.

طبقًا لكتاب الآثار المحمدية، وهو مصدرٌ متأخرٌ جدًّا أتمّه مؤلفه محمد تقي الدين بن علي رضا بن زين العابدين، في مدينة محلات، تم إرسال شمس الدين محمد إلى تبريز برفقة أبيه شاهنشاه، ومارس شمسُ في تلك المدينة مهنة متواضعة فعمل فيها طرّازًا، ومن هنا كان لقبه (زاردوز) أي الطرَّاز.

ويجزم محمد قاسم (فيرشتا) المؤرخ المعروف من جنوبي الهند، والذي كان على اتصال –كما يبدو– مع أحفاد للإمام شمس الدين محمد، وكتب حوالي عام 1015هـ/1606، يجزم أن ابن ركن الدين خورشاه كان معروفًا باسم محمد زاردوز، ولقبه شمس الدين[21].

يرى فيراني، بناء على قراءة ما يرد في هذه المصادر الإسماعيلية، أن إقامة شمس الدين محمد في تبريز قد تسببت في أن عددًا من المؤلفين راحوا يخلطون ما بين مسيرة الإمام الإسماعيلي؛ وسيرة ابن بلدته وشبه المعاصر له شمس تبريزي، المؤدِّب الروحي للرومي، والذي اشترك مع الإمام في الاسم أيضًا. أول ما ظهر هذا الالتباس في تذكرة الشعراء لدولت شاه (انتهى من تألفيه عام 892هـ/1487)، وكذلك فعل نور الله شوشتري (ت. 1091هـ/1610)، في كتابه مجالس المؤمنين، الذي جعل شمس تبريزي مؤدب الرومي من ذرية الإسماعيليين.

بعض المصادر الإسماعيلية كرسالة «خير خواه» تجعل من مولانا جلال الدين الرومي حجة للإمام الإسماعيلي شمس الدين محمد؛ وتحتفظ باقتباسات شعرية من أعمال الرومي كما يُفترض ذلك، وفي حين نعثر على شواهد لهذه الأشعار في أعمال الرومي، فإن مصدرًا إسماعيليًّا كرسالة «الصراط المستقيم» تنسب أبياتًا للرومي لا نجدها في أعماله المعروفة كالمثنوي والديوان[22].

تنفي مصادر إسماعيلية أخرى بشدة الربط بين شمس تبريزي الإسماعيلي ومؤدب الرومي، فالشيخ شهاب الدين شاه (ت. 1302/1884) يكتب على سبيل المثال: «أيها المشايعون للحقيقة! اعلموا أنه بعد وفاة ركن الدين خورشاه، وصل جدّنا، كما ذكرت، شمس الدين محمد إلى تبريز واستقرّ فيها. وكي لا تصل معلومات حول وضعيته إلى أعدائه، ذهب إلى محل طرّاز وشغل نفسه بتلك الحرفة. ولم يمرّ وقتٌ طويل حتى أصبح يُعرف بشمس تبريز بسبب أناقته الفائقة وجمال وجهه وبهائه، الذي كان كالشمس. لكن يجب ألا نتخيّل أن شمس تبريز، الذي كان الملا رومي مريدًا له، كان هذا الشخص نفسه، بل إن شمس تبريز ذاك كان بالأحرى من تبريز في الأصل. واعتادوا تسميته بشمس تبريز بالطريقة نفسها التي يقال فيها سليمان بدخشاني أو إسماعيل هوناكيري»[23].

ويخلص فيراني بعد مناقشة ما ورد في المصادر إلى أن مسألة انحدار شمس تبريزي (مؤدب الرومي) من أئمة ألموت لا تزال مفتوحة، فضلاً عن اقترانه بالشيخ الإسماعيلي من ملتان، الذي لا يزال مقامه القديم في تلك المدينة محطّ زيارات مسلمين من مختلف المذاهب باعتباره مدفن الرومي[24].

صورة فارسية لشمس

عطاء الله تديّن وشمس تبريزي

أحدُ المحققين المدققين في شأن مولانا جلال الدين الرومي، قدّم إفادة لم تنل قبولاً عند عطاء الله تديّن في مؤلفه «بحثًا عن الشّمس – من قونية إلى دمشق»، محتوى الإفادة: «نعلم أن حياة شمس مغلفة بغلالة من الإبهام، وأن علاقة مولانا بهذا الرجل الطّاعن في السّنِّ، إحدى أكثر الوقائع إثارة للعجب وانطواء على الأسرار». واعتبر عطاء الله أن هذه العلاقة ليست لغزًا فمتى ما طالع المرء بعناية معجزات وكرامات العشق، ودقق في لطيفة العشق، وتأمّل بشكل عرفاني أشعار مولانا، لتبدد الوهم وكُشف الستر[25].

لكن ذلك لم يمنع عطاء الله من أن يصف شمسًا بكونه محاطًا بهالة من الغموض؛ ويكرر ما وصفه به سبهسالار في رسالته «شمس الدين محمد بن علي بن مُلْك داد، سلطان الأولياء الواصلين، تاج المحبوبين، قطب العارفين، فخر الموحدين، صاحب الحال والقال»[26].

ويؤرخ عطاء الله للقاء شمس بالرومي في السادس والعشرين من جُمادَى الآخرة من عام 642هـ؛ فقد لقيَ الرّومي في هذا اليوم في «خان تجّار السُّكَّرِ في قونيةَ درويشًا رثَّ الثياب، يقول بعض الباحثين إنه من نسل إسماعيلية قلعة ألَمُوت، وكان يبدو أنه حادُّ الطّبْع. وأحسّ بنوعٍ من العشق الإلهي أو المحبّة العميقة اللامتناهية إزاء هذا المعشوق المعنوي أو الرّباني. كان هذا الشيخ الرثّ الثياب شمسًا التبريزي، الذي كان ذا مشربٍ صوفيٍّ حادّ»[27].

يكتفي عطاء الله تدين هنا بنقل رأي أحد الباحثين، دون تسميته أو الإشارة إلى المصدر الذي حدد مذهب شمس، لكنه في سياق آخر لا يكتفي بالنقل، ويقرر في شأن شمس قائلاً: «يعلم شعبُ إيرانَ أنه شمسُ الدّين مُحمّدُ بن علي بن مُلك داد. وكانت أسرته من أهل تبريزَ، وله ارتباط من جهة النسب بـ(بُزُركَ أُميد)[28] الذي تولّى في المدّة بين 607 و618هـ الحُكمَ في قلعة ألَموت. نعم، هو من إسماعيلية ألموت. إنه رجلٌ عظيم القدر»[29].

ويعلّق عيسى علي العاكوب على قول عطاء الله تديّن السابق، قائلاً: «حُكمُ المؤلّف هذا متسرّعٌ كثيرًا. وقد أنكر بعض الباحثين المحققين ذلك، ومنهم الأستاذةُ المرحومةُ أنّا ماري شيمل»[30].

لكننا لا نظفر بتعليق على تردد الكاتب وتناقضه فيما يسوقه من حوار على لسان جلال الدين الرومي، يرى فيه أن شمسًا ليس من الإسماعيلية: سأل أحدهم جلال الدّين البلخي: هل صحيحٌ أن شمسًا من نسل كِيا بُزُرْك أُميد، إمام الفرقة الإسماعيلية، وترك الآن المذهب الإسماعيلي؟ فكان الجواب (المتخيل) من قِبل عطاء الله تدين: هو مُسلمٌ، تلقّى تعليمَه الأوليَّ في تبريز، وسلك طريق التصوف (…) وأعتقدُ أنه ليس مرتبطًا بالإسماعيليين، ولا بالفرق المختلفة، وعنده في شأن ماهية الوجود ووحدة الوجود آراءٌ جديدة، مستمدة من فكر ابن عربي[31].

بديعُ الزّمان فروزانفر وشمس تبريزي

بناء على تاريخ دخول شمس تبريزي قونيةَ عام 642هـ وتحديد عمره في ذلك الوقت (كان في سنّ السّتين) لا بد أن يكون شمسُ قد وُلِد عام 582هـ. دخل شمسٌ قونية وهو شيخٌ طاعن في السن، حسب إشارة مولانا الرومي: «رجعتُ بسببك شابًا جميلاً سعيدًا. أي شمس الدين الطّاعنُ في السّنِ»، اعتمادًا على هذا التاريخ وما يقوله مولانا، وتأكيد كتب المناقب التي تعتمد على أسانيد قديمة، لا يقبل العلاّمة فروزانفر ما يرد عند دولتشاه في تذكرته من كون شمسٍ ابنًا لجلال الدين حسن المعروف بـ(نو مسلمان = المسلم الجديد)، أو وُلد ما بين سنتي (607-618هـ)، فما يرويه دولتشاه لم تذكره أي من المصادر الأقدم عهدًا، كما أنه بنصّ المؤرخ عطا ملك الجويني لم يكن لجلال الدين حسن نو مسلمان ابنٌ آخرٌ غير علاء الدين محمد (618-653هـ)[32].

وكما ضعّف فروزانفر مرويات دولتشاه الأكثر ذيوعًا عن شمس وبدء أمره، ضعّف كذلك اعتمادًا على التدقيق التاريخي ما يُقال عن مرحلة تلقّيه وتعلّمه مبادئ الطريق الصوفي وصحبته لفخر الدّين العراقي؛ وعلى الرغم من كون الأفلاكي لا يحجم عن ذكر الأخبار الصحيحة والسقيمة جنبًا إلى جنب، إلاّ أن فروزانفر لا يستبعدُ هذا المصدر بشكل كامل، ويستفيد منه في التأريخ لشمس والرومي[33]عارضًا مروياته على ما ورد في كتاب المقالات المنسوب إلى شمس، وما يقوله الرومي في المثنوي والغزليات، ومن هنا جاء قبوله لصحبة شمس ولقائه بأوحد الدين كرماني، وتاريخ وصول شمس قونية وتحديد الأماكن التي أقام بها[34].

لا تحظى فكرة مذهبية شمس الإسماعيلية بمزيد من الدرس عند فروزانفر، على الرغم من كونه المصدر الأكثر تحقيقًا للرومي والمولوية، ولعل رصده لخطأ دولتشاه المتعلق بتأريخ ميلاد شمس ونسبته، أنهى مسألة كونه من الطائفة الإسماعيلية.

الإسماعيليون العرب

عارف تامر وشمس تبريزي

ارتبط اسم عارف تامر (1921-1998) بالدراسات الإسماعيلية العربية تحقيقًا للتراث وتأليفًا وتوضيحًا للصورة العربية عن هذه الفرقة؛ كان عارف قد اعتبر أن للرومي تاريخًا طويلاً في قونية، وعلاقة مباشرة بالإسماعيلية الباطنية، وذلك في مقال نشره عام 1994 [35]! لكنه كان قد تحدث عن شمس تبريزي الإسماعيلي بشكل أكثر وثوقية في مقال نشره في مجلة «الأديب»[36] عام 1956، معتمدًا على دولتشاه –دون إحالة مرجعية– فنعرف من تذكرة دولتشاه أن شمس الدين التبريزي (كان في صباه جميلاً رائعًا، حتى إنه رُبّي بين النساء غيرة عليه، ثم كثرت سياحاته وتنقلاته حتى لُقّب بــ«روانه» أي الفراشة)! وهذا النقل لا يفيدنا كثيرًا في التعرّف على شمس من وجهة النظر الإسماعيلية، وربما كان النقل الخاص بطريقة شمس في الوعظ والتعبير عن آرائه يتفق مع بعض النقولات الواردة في المقالات، التي تظهر فيها بعض الحدة التعبيرية وعدم الرضا عن خطاب الصوفية في عصره.

ينقل عارف تامر بتأكيد –لا نجد له شاهدًا في مقاله– أن شمساً كان قويّ النفس جريئًا مؤثرًا في سامعيه شديدًا عليهم، يلقب من يعظهم أحيانًا بالثيران والحمير، وكان قليل الدرس فيما يظهر، ولكن ثورة نفسه واعتقاده أنه ملهم، وأنه ينحدر من أعظم أسرة إنسانية، كان يسحر من يلقاه. ثم يعتمد تامر في إظهار صورة شمس على ما يقوله المستشرقون (نيكلسون، وإدوارد براون، وسبرنجر) مقتبسًا ذلك عن إدوارد براون دون أن يحيل عليه[37].

من هو شمس تبريزي؟

يحدد عارف تامر ماهية شمس من خلال ما يورده إدوارد براون في تاريخ الأدب في إيران، ويعتمد على مصدر إسماعيلي [مخطوط «فصول وأخبار» أخبار الإسماعيلية في فارس صفحة «312» وإذا أورد هذا المصدر شيئًا فهو راجح عند تامر، لأنه –على حد قوله-: «ينطبق على الواقع، وإن كتاب (فصول وأخبار) هو أقدم مصدر تاريخي موثوق!»].

والمعلومة التي ترد في هذا المصدر عن (شمس الشموس) الإمام شمس الدين لا تعطينا أي صورة جديدة عما سلف واقتبسه تامر عن دولتشاه؛ إذ يورد أن الإمام شمس الدين (التبريزي) قد خرج من (قلعة الكهف) مستترًا لما هاجم الظاهر المملوكي قلاع الدعوة الإسماعيلية السورية، ثم عاد إليها بعد أن تمّ الصلح معه سنة 697هـ. وقد كان شمس مضرب الأمثال في الحُسن والجمال، لا يمكن لأي إنسان أن يطيل التحديق فيه أو التكلّم أمامه، فصيح اللسان، تجري الحكمة على لسانه، ويشع من عينيه نورٌ غريبٌ يصلُ إلى القلبِ[38]، مات سنة 707 في بلدة قونية ودُفن فيها.

ثم توسّع في مقالته أكثر في مجلة الدراسات الأدبية، التي تختصّ بشؤون الأدب الفارسي، ولم يعدد لنا مصادره التي اعتمد عليها، وغاية ما ذكر مرجع مخطوط لم يُطبع، يحتفظ هو بنسخته، ولأن المجلة الأخيرة تعنى بالأدب الفارسي، فلا بد أن يكون للإسماعيلية نصيب من مشاهير الكاتبين بالفارسية، وكما نُسب ابن عربي إلى الإسماعيلية ميلاً واستفادة، لا بد أن يُنسب الرّومي إلى الإسماعيلية، عن طريق تلقّيه تعاليم التصوف الجديدة من شمس تبريزي.

وفي تأريخه الموسّع[39] للإسماعيلية كتب عارف تامر عام 1991 عن شمس الدين محمد الإمام الخامس والعشرين، ويعتبر هذا الإمام آخر أئمة النزارية الإسماعيلية في ألموت، وُلد هذا الإمام في ألموت 643هـ واستطاع أن ينجو من المغول، وعاش متنقلاً بين أذربيجان وتركستان وبغداد وحلب. ثم أقام في قونية فترة طويلة، وعُرف بأنه كان يمتهن مهنة التطريز، وكان وسيمًا بهي الطلعة حتى أطلقوا عليه اسم (الشمس) أما شمس التبريزي الذي ذُكر بأنه معلّم جلال الدين الرومي، فهناك أقوال عديدة عنه. فالبعض يؤكد أنه هو نفسه الإمام شمس الدين بن محمد، والبعض الآخر يؤكد أنه شمس الدين ابن الإمام علاء الدين، أي عمّ الإمام شمس هذا. وهناك من يذكر: أنه شمس الدين بن صلاح الدين من أهالي (سبزه) وكان من دعاة الإسماعيليين البارزين[40].

مصطفى غالب والكتابة عن الرومي

عام 1982 ألّف مصطفى غالب –وهو محقق اشتهر بنشره نصوص التراث الإسماعيلي، وهو من أتباع قاسم شاه– كتابًا بعنوان (جلال الدين الرومي) ضمن سلسلة من الأعلام أصدرها في مؤسسة عز الدين ببيروت، كتب عن الرومي كما كتب عن الحلاج والسهروردي وغيرهما، ونركّز هنا على ما كتبه حول الرومي وشمس.

يخلو كتاب مصطفى غالب من المراجع العربية أو الفارسية أو الأعجمية، باستثناء أربعة مراجع تُذكر في هذا الكتاب، هي: المثنوي بترجمة الدكتور محمد عبدالسلام كفافي، وكتاب كفافي عن جلال الدين الرومي وتصوفه[41]، والنسخة العربية من كتاب المؤرخ الإنجليزي إدوارد براون عن تاريخ الأدب في إيران، ورسائل إخوان الصفا. وعن الترجمة العربية للمثنوي وكتاب كفافي المذكور، استطاع غالب أن يخرج كتابه.

يقول مصطفى غالب في كتابه: «ظلّ جلال الدين يعمل بالتعليم والإرشاد نحو أربع سنوات، وفي شهر رجب سنة 624 هجرية (…) مرّ به شيخ كبير تظهر على محياه علائم الإجلال والاحترام، فرحب به وأجلسه بجواره (…) ولم يكن الشيخ إلاّ حدًّا من حدود الدعوة الإسماعيلية، يُعرف بشمس تبريز، فأخذه الرومي إلى داره، وبقيا معًا لا يفترقان مدة عامين، ولا يعلم أحدٌ كيف تحوّل الرومي بعد اجتماعه بشمس تبريز إلى إنسان آخر، اختلفت كلّ أحواله عما كانت عليه من قبل»([42]).

يحيل غالب هنا على كتاب له بعنوان: أعلام الإسماعيلية، والكتاب ليس مرجعًا من المراجع التي تؤصّل معارفنا عن الرومي أو شمس، بل هو من تأليف غالب، ويحيل بعدها على كتاب مناقب العارفين للأفلاكي، ويبدو أنه سها فكتب اسم الأفلاكي (الخاكي)!

يعود غالب فيتحدث عن شمس والعلاقة الروحية التي ربطت بينه وبين الرومي، إذ هي علاقة لا يتوصّل إليها إلا من سبر أعماق شمس تبريزي وعرف مناقبه الروحية السامية[43]، وفي عودته تلك لا يحيل على أية مراجع تفيد القارئ وتجعله يتبين حقيقة شمس.

الصفحات (34-44) يخصصها غالب للحديث عن مصنفات الرومي، ولا يحيل على أي مرجع يوثّق ما يقوله من معلومات، أو ما يذكره من أشعار –على كثرتها– ويعدد مؤلفات الرومي على النحو التالي: (المجالس السبعة – الرسائل – فيه ما فيه – الرباعيات – ديوان شمس تبريزي – المثنوي) مكتفيًا بإشارة سريعة لا توضّح هل طالع هذه المؤلفات أم لا وهو يكتب كتابًا عن الرومي؟! ولا يظهر من حديث غالب أنه طالع شيئًا من هذه الكتابات باستثناء المثنوي، وتحديدًا الترجمة الجزئية التي قام بها كفافي، ولا تظهر ترجمة للمثنوي أخرى طوال صفحات كتابه، فلم يطالع مثلاً ترجمة الدسوقي شتا ولا ترجمة الجواهري، مما يعني أنه لم يطلع على المثنوي في صورته العربية التامة نظمًا أو نثرًا. وإذ يخصص غالب عشر صفحات للحديث عن مصنفات الرومي، فإن أغلب الصفحات انصب اهتمامه فيها على المثنوي، مقتبسًا أغلبه عن كفافي.

في الصفحات (45-49) ينقل لنا غالب قصة من قصص المثنوي بعنوان: (قصة البقال والببغاء) دون مقدمة أو تمهيد لماذا يختار هذه القصة، ويكتفي في الخاتمة بقوله: (هذه الحكاية الرمزية الحقانية قُصد من ورائها النصح والإرشاد إلى عدم الأخذ بالقياس، والعمل بما يقيسه بعض الفقهاء)! وتتلو هذه القصة قصة أخرى أكبر ينقلها غالب في الصفحات (50-76) عن الجزء الثاني من المثنوي، وهي قصّة الأسد والوحوش، ويكتفي غالب بعد أكثر من خمس وعشرين صفحة نقل للقارئ فيها قصة تتحدث عن أمور شتى، تخص الإنسان وسعيه وحياته، بأن يعلّق في سطرين أن «مثل هذه الحكايات الرمزية تهدف إلى تجسيد الأفكار، ومعالجة بعض الأمور الخطيرة التي تجري على مسرح العالم الإسلامي عن طريق الرموز والإشارات والكنايات!»[44].

ثم يذكر غالب قصة من قصص رسائل إخوان الصفا، دونما إشارة واضحة للرابط بين هذه القصة وما ينقله عن مثنوي مولانا، وما إن ينتهي النقل يبدأ المؤلف بنقل جديد، والنقول الواردة في الكتاب على النحو التالي: قصة التاجر والببغاء ص(84-92)، وقصة الأعرابي وزوجته ص(93-110).

بعد ذكر القصص يشير مصطفى غالب إلى صلة الرومي باللغة العربية، وينوّه بأهمية أشعاره التي قرضها بالعربية وآثاره النثرية، ويقدّم نماذج من شعره بالعربية، تستمر هذه النماذج من ص111، حتى ص149. ويختم الكتاب بنقله لقصة أخيرة، هي قصة الصوفي وحماره من ص149 إلى ص163، لينتهي الكتاب.

صورة عربية لشمس

إحسان الملائكة وصائغ النفوس

عام 1983 (وهي في الثامنة والخمسين من عمرها) نالت إحسان الملائكة شهادة الدبلوم في اللغة التركية وآدابها من جامعة إسطنبول؛ وانكبّت على ترجمة الأدب التركي، ثم انصرفت إلى توثيق تأريخ التصوف في تركيا بعد عودتها إلى العراق نهاية العام نفسه. وألّفت كتاباً عن مولانا جلال الدين الرومي، قدّمته في ذلك الوقت إلى دائرة الشؤون الثقافية في بغداد عام 1985، واعتذرت الدار عن نشره لكون العراق –آنذاك– في حرب مع إيران، والرومي إيراني الأصل[45]! فلا يمكن طبع كتاب يدعم الفكر الإيراني، حدث هذا مع كتابات أخرى في الحقل الصوفي، بل إن بعض الكتب في تلك الفترة كانت تُطبع وتحذف منها فصول كاملة قبل طبعها لتتناسب مع سياسة الدولة العراقية. تم طبع الكتاب بعد وفاة الشاعرة في المركز الثقافي العربي عام 2015، وقد خلت هذه الطبعة من التنسيق والتدقيق، ولعل الناشر غضّ الطرف عن جريدة المصادر والمراجع التي أشارت إليها الكاتبة في ثنايا دراستها، ووعدت القارئ بأنه سيجد ما يعينه على الاستزادة –إن أراد– بالرجوع إلى القائمة التي أعدتها عن الرومي والمولوية في الدراسات التركية.

انتفعت إحسان الملائكة من كتابات شمس تبريزي، وأفادت كثيرًا من كتابات العالم التركي عبدالباقي كَلبينارلي، وتابعته في تحديد تاريخ ميلاد شمس 541هـ/ 1146، ونقلت عن مقالات شمس ما يساعد القارئ على معرفة طفولته وصباه. ويظهر شمس في دراسة إحسان كقارئ لكثير من المعارف، دائم البحث عن العرفان، كثير الدّرس للفقه والفلسفة والكلام، ملتمس للجمال والكمال، باحث عن رفيق الطريق، والرفيق لا بد أن يكون من جنسه، فلا تصلح المرأة للرفقة في الطريق، وتعزو إحسان ذلك إلى «أن المرأة في القرون الوسطى، كانت محجوزة في خبايا سراديب الحريم، وقد فقدت إنسانيتها: تحوّلت إلى كائن لم تخلقه الحياة، وإنما شوّهته مجتمعات الطمعِ والبلادة، كائن عجيبٌ يقع ما بين الإنسان والحيوان»[46]؛ فكان على شمسٍ البحث عن رجل.

والسبب في أن شمسًا جوّاب آفاق ولا يستقرّ في مكان، دائم التنقّل بين البلدان هو انتسابه إلى (المذهب الإسماعيلي) لقد كان أجداد شمس من الإسماعيلية، لكن والده تبرّأ من هذا المذهب، وكانت الشام أحب المواضع إلى شمس لأنها تفتح ذراعيها للصوفية، وفي الوقت ذاته كانت مقرًّا لكثير من فدائيي الإسماعيلية. لا تقدّم إحسان أية أدلة على تنصّل والد شمس من الإسماعيلية، أو تحيل القارئ على مصدرٍ يؤكد معلوماتها، وفيما نعلم أنها وحدها من بين الكتّاب العرب التي اقترحت لحل لغز شمس تحوّله المذهبي عن الإسماعيلية إلى عقيدة المتصوفة في قونية (أهل السنّة) فشمس بمجرد وصوله إلى قونية 641هـ لم يكن على المذهب الإسماعيلي، وسبب ذلك عندها أنه كان متصوّفًا، والإسماعيلية ضد المتصوفة، والحياة وفقًا لتعاليم الإسماعيلية تتعارض مع حياة الصوفية؛ لحرص الإسماعيلية على متع الحياة[47].

تعود إحسان الملائكة مرّة أخرى للحديث عن مذهب شمس في سياق عرضها لمذهب جلال الدين الرومي؛ وهذه المرة تسوق جملة من كلمات شمس بلهجة عربية معاصرة[48]، معتبرة أن شمسًا، بناء على تلك الأقوال والآراء التي يسوقها في المقالات، منتمٍ من «الناحية الأيديولوجية، إلى الطائفة الإسماعيلية، وبما أن حسن بن الصباح زعيم الإسماعيلية وصاحب قلعة ألموت يُعدّ ضمن قائمة أجداد شمس، فإن صلة هذا بالإسماعيلية صلة دم أيضًا، أعني صلة قرابة، وربما يعطينا هذا تفسيرًا حاسمًا لحذره الدائم من الأرصاد، وإصراره على الطّواف في الأرض وعدم الاستقرار، ومن يدري؟ فربما كان مقتله نتيجة هذه القرابة بالفعل»[49].

تتناقض هذه النتيجة التي تصل إليها إحسان مع ما قالته سابقًا من كون شمسٍ (لم يكن على المذهب الإسماعيلي)، إضافة إلى كونها لا تعتمد في فرضياتها أو ترجيحاتها على مصادر أو مراجع تدعم طرحها. على عكس ما تفعله عند الحديث عن شمس بعد لقاء الرومي، ولعل هذا السلوك مرهون بشحِّ المصادر عن شمس قبل اجتماعه بالرومي.

شمس تبريزي: الشخصية الغامضة

يتضّح لمتابع هذا العرض لصور شمس تبريزي التي رسمتها له الكتابات العربية والاستشراقية؛ غموض هذه الشخصية واحتجاب كثير من المعلومات التي من شأنها أن تساعد الباحث في التعرّف على حقيقته، وعلى الرغم من شح المعلومات وكثرة التخمينات من الدارسين، فإن بعض الصور تبدو غير موثقة، ويعتمد الكاتب فيها على خياله ومذهبيته أكثر، يظهر ذلك –على سبيل المثال– في كتابة كلٍّ من عارف تامر ومصطفى غالب، فالمرجعية العلمية لكتابة أحدهما لا تتوافر إلا نادرًا، ولا يمكن اعتبار ما وصلا إليه من آراء معبّرة عن حقيقة تاريخية، بقدر ما نلتفت إلى رؤية كل منهما كتعبير عن مقالة الإسماعيليين العرب في العصر الحديث عن شمس تبريزي.

إن ما يقوله نيكُلسون –على سبيل المثال– عن شمس له وجاهته، فالشخصية الغامضة تليق بشمس، وتشبيهه بأحد فلاسفة اليونان يمكن قبوله، لكن لا يستطيع المرء أن يطمئن إلى فكرة كون شمس تبريزي رجلاً أمّيًا غفلاً من المعارف والعلوم، يعتمد على الحدس والإلهام فحسب، فنظرة لتعاليم شمس ومناقشاته واعتراضاته وآرائه في كتابه (المقالات) توضّح أن الرجل مطّلعٌ بشكل جيّد على ما كتبه الفلاسفة وعلماء الكلام والمفسّرون والأطباء والعرفاء، ويعتبر نفسه أهلاً للحكم على العلماء، يقول في مقالاته: «حدّثِ الناس على قدرِ أفهامهم، ولِنْ لهم على قدرِ صفائهم وانسجامهم. أمّا أنا فلا شأن لي في الدّنيا، وفي قونيةَ خاصةً، بالعوامِّ، لم آتِ من أجل العوام. أختبرُ هؤلاءِ الأشخاص الذين يَعُدّون أنفسهم مُدرّسين ومعلّمين بحقّ، أؤاخذُ الغلاظَ القلوب المطّلِعين المُرائين، لا المُريدينَ المُحبّين».

ويقول في سياق آخر: «إن في الطّبيعةِ أسرارًا خفيّةً لا يمكنُ فهمُها بالمنطقِ والفلسفةِ والرّياضيات والكيمياء. هذه الأسرارُ وراء العُلُومِ. والكُمَّلُ والعارفون هم وحدهم الذين سيطلعون على هذه الأسرار، فأسرارُ الطّبيعةِ لا يمكنُ تعليمُها لِكُلِّ غِرٍّ غير ناضجٍ»[50].

ويعترض على أحد المتكلمين مستبعدًا ما يُقال عن ذات الله وصفاته من هؤلاء القوم؛ قائلاً: في يومٍ من الأيام كان أسدُ المُتكلّم يفسّر الآية الكريمةَ }وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ{ [الحديد: 4]. وبالرغم من فضله الكبير، عندما كنتُ أسألُه عن شيء على الملأ كان ينفجرُ غيظًا. في يومٍ من الأيام سألته: عندما تقول: وهو معكم، أي إن الله معكم، كيف يكون اللهُ معكم؟ قال: أنت شخصٌ تافهٌ؛ أيُّ غرضٍ لك في هذا السؤال؟ ومثلما كان في الحلم كان في الغضب، كان ينفجرُ غضبًا. قلتُ: ما معناه؟ –ليس لي غرضٌ، فلم يرد على هذا السؤال. فأجبتُ: أنت كلبٌ معقودُ اللسان، طبعتَ نفسك على الإيذاء.

كيف تفسّرُ معنى «وهو معكم»، كيف يكونُ الله مع العبد؟

قال: نعم، الله مع العبد في العلمِ.

قلتُ: إن العلمَ غيرُ منفصلٍ عن الذّات وليس ثمّة صفة منفصلة عن الذّات.

فقال: أنت تسأل أسئلة قديمة.

قلتُ: وماذا تعني بالقديم؟ إنه سؤالٌ يموتُ الإنسانُ من جِدّته. والناسُ يقولون إن المتكلِّمَ هو هذا[51].

إن نقاشات كثيرة يمكن مطالعتها في كتاب المقالات تجعلنا على يقين أن شمسًا ليس أميًّا[52]بالمعنى الدارج للكلمة، من جهل صاحبها بالقراءة والكتابة والمعارف، ربما بشيء من التحفّظ نقبل بكونه أميًّا بالمعنى الصوفي، أي إنه لم يتلوث عقله أو تنشغل روحه بالمعارف الشكلية والظاهرية التي تحجب السالك عن الارتقاء وبلوغ الكمال الصوفي.

ويبدو مدهشًا بالنسبة لي ألا يقدّم فرهاد دفتري قولاً فصلاً في تاريخية شمس تبريزي على الرغم من إلمامه بكثير من المصادر الإسماعيلية؛ وقد أظهر شفيق فيراني اهتمامًا أكبر منه كما رأينا في العرض السابق، إلاّ أنه ترك المسألة مفتوحة للنقاش على الرغم من عودته إلى مصادر مهمة تخص الدرس الإسماعيلي والدرس الصوفي على حدٍّ سواء، وعلى الرغم من مطالعته لما كتبه إيفانوف عن شمس تبريزي.

إن أكثر معالجة تبدو فاصلة –على الرغم من اختصارها ووجازتها– في شأن شمس هي ما قدّمها العلامة فروزانفر، وعلى الرغم من اطلاع عطاء الله تديّن على عمله السيري عن مولانا لم يستفد منها، وتضاربت المرويات التي نقلها للحديث عن شمس، فمرّة يعتبره تديّن من الطائفة الإسماعيلية، ومرة يعدّه غير ذلك، لكن فروزانفر بتدقيقه التاريخي فصل في المسألة فلا يمكن اعتبار شمس ابناً للداعية الإسماعيلي الذي تنسبه المصادر الإسماعيلية المحدثة إليه، ويمكن التعويل بكثير من الاطمئنان على ما كتبه فروزانفر، فلا نعرف شخصًا في العصر الحديث وهب عمره في درس الرومي وعاش أفكاره مثلما فعل فروزانفر، فقد حقق فروزانفر[53] مجموعة من الأعمال الأدبية الكلاسيكية الفارسية، عبر مقارنة النصوص بأقدم المخطوطات الأصلية، منها: كتاب (فيه ما فيه) و(ديوان شمس تبريز) لمولانا جلال الدين الرومي، وكان في طليعة الباحثين في الأدب الفارسي، حيث تركزت أبحاثه في الأساس على علمين من شعراء الصوفية والأدب الفارسي: فريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي[54].

ويُعدُّ تحقيق فروزانفر للمثنوي من أجود التحقيقات، وأهم المراجع لدخول عالم مولانا، وقد أصدره في مؤلف بعنوان (شرح المثنوي الشريف)[55]. وحسب تصريحات توفيق سبحاني (باحث في أعمال مولانا)، يكفي أن نقرأ بعناية وتمعن الأبيات التي شرحها وعلّق عليها فروزانفر، وعددها (3012) لكي نفهم المثنوي بأكمله، لأن مولانا قد وضع مجمل أفكاره في الكتاب الأول.

قام فروزانفر كذلك بدراسة نقدية لشروح المثنوي المدونة خلال القرون السابقة: فقد ربط الشارحون القدامى أفكار مولانا بأفكار ابن عربي وصدر الدين الشيرازي، ولم يكن فروزانفر من المؤيدين لذلك، حيث يعتقد أن تلك الشروح قد ابتعدت كثيرا عن الفكر الصحيح لمولانا جلال الدين الرومي.

ألّف فروزانفر كذلك كتاب «أحاديث المثنوي» وهو كتاب جامع للأحاديث التي ذكرها مولانا في المثنوي، بينما كان كتاب «مآخذ قصص وتمثيلات مثنوي» عصارة جهوده في بحث استمر خمسة وعشرين سنة، حيث ضمّ قائمة بـ(251) حكاية وصورة مجازية، استعملها مولانا في المثنوي، وقد أضاف فروزانفر لهذه القائمة القصص الأصلية بالفارسية أو بالعربية، ثم مختلف الروايات الموجودة حول كل حكاية.

كما كتب فروزانفر كذلك كتابًا حول سيرة مولانا، تحت عنوان: «رسالة در تحقیق أحوال وزندگانی مولانا جلال ‌الدین محمد مشهور به مولوی»[56] (رسالة في تحقيق أعمال مولانا جلال الدّين محمد، المشهور بالمولوي وحياته) والذي يعدّ من المراجع المهمة التي عدنا إليها في هذا العمل.

ومما يجعلني مطمئنًا لكون شمس ليس ابنًا لداعية من دعاة الإسماعيلية، أنه بنفسه يقرر في المقالات أن هوة شاسعة تفصل بينه وبين والده، فهو في طريق ووالده في طريق ثان، وهو ما يذكّرنا بأحوال كثيرين من الصوفية السابقين، فحين رأى شمس تبريزي قلق والده عليه حاول التخفيف عنه قائلاً: «أنا أبدو مثلكم ظاهرًا، لكنني في الحقيقة مُباين ومختلف عنكم»[57].

كان شمسُ عاجزًا عن إظهار كشوفه الصوفية لوالده، بالرغم من أنه أراد ذلك، وكان يقول عن والده: «كان رجلاً طيّبًا ذا خُلق نبيل، سرعان ما تفيض عيناه بالدمع، بالرغم من أنه ما كان (عاشقًا) أو عارفًا. وأن يكون المرءُ إنسانًا طيّبًا شيءٌ، أما أن يكون عاشقًا للحقِّ فقصّةٌ أخرى تمامًا».

جعل العشق شمساً الصوفي غير ميّال للطعام، ويحكي عن صباه وشبابه قائلاً: «يُقال: إنه في صغري أُزيلت شهيتي، إذ كانت تمرُّ ثلاثة أيام أو أربعة من دون أن آكل شيئًا، بسبب شيء قاله الله، لا الناس، كان أبي يقول: وا أسفاه لولدي، يقول: إنه لن يأكل شيئًا. قلت: لكنّي لستُ ضعيفًا، أنا قويٌّ إلى حدّ أنني لو شئتُ أن أطير من النافذة لطرتُ مثل الطّائر. في كلّ أربعة أيام يغلبني شيءٌ من النعاس للحظةٍ، ثم ينصرف. لا تنزلُ اللقمةُ في حلقي.

ماذا حصل لك؟

لم يحصل شيءٌ. هل أنا مجنون؟ هل مزّقتُ ثياب أحد؟ هل وقعتُ عليك؟ هل مزّقتُ ثيابك؟

ألا تأكل شيئًا؟

اليوم لا آكل. غدًا – بعد غدٍ؟ في يومٍ آخر»[58]؟!

ويضيف شمسٌ: والدي لم يفهمني البتة، كنتُ غريبًا في مدينتي، والدي كان غريبًا عليّ، وكان يخشاه قلبي، كنت أظنّ أنه سيقع عليَّ، كان يكلّمني بلطفٍ، فكنتُ أظنُّ أنه يضربني، ويخرجني من البيت، كان والدي يسألني: ماذا حدث لك؟ أعرف أنك لست مجنونًا لكنني لا أفهمُ أي سلوك لديك!

إن كنت تتصرفُ هكذا مع أحبائك، فكيف ستعاملُ أعداءك؟

وعندما كان والد شمس يلحّ عليه في السؤال: ماذا حدث لك؟ كان يجيبُ شمسٌ بأنهما لم يُقطعا من القماش نفسه.

يا ولدي، يقينًا لستَ مجنونًا، ولستَ أيضًا مرتاضًا، لا أفهمُ حقيقة تصرُّفِكَ وسلوكك، فما مشربُكَ الحقيقيُّ؟ فقلتُ:

– اسمع مني كلمةً واحدةً، إنّ حالَك معي تُشبهُ حال من وضعَ بيضَ طائرٍ مائي، كالبطِّ، تحت طائرٍ منزليٍّ، فحضنها الطائرُ الأهليُّ، ثم خرج منها صغارٌ من طائر البطّ. وقد كبِرتْ صغارُ البطِّ هذه، وذهبتْ مع أمّها إلى شاطئ نهرٍ، وألقتْ بأنفسها في الماء. أمُّها، الطائرُ المنزليُّ، تذهبُ إلى شاطئ النهر، ولكن لا قُدرة لها على دخول الماء.

فيا والدي، اعلم بأنني أرى بحرًا صار هو مركبي. وهذا هو ظنّي وحالي: إذا كُنتَ أنتَ مِنّي، أو أنا منك، فادخل في ماء البحر هذا، وإلا فاذهب كما يذهبُ الطائرُ الأهلي.

ألقى والدي عليّ نظرةَ تعجبٍ وقال:

– معي، أنا الحبيب، تفعلُ هكذا، ماذا ستفعلُ مع العدوّ؟

ويقولُ شمسٌ إنه تأثّر من كلام والده، وتأسّف لأنه لم يفهم حقيقة كلامه، ولم يعرف أيّة شُعلةٍ كانت تحرقُ وجوده[59].

مثل هذه الأقوال تظهر والد شمس في صورة عادية للغاية، فلا يعدو كونه رجلاً من العامة يصاب بالذهول والاندهاش من تصرفات ابنه، وأحيانًا يشك في جنونه، إنه لا يتفهم مطلقًا ما يعتريه من وجد، أو ما يسير فيه من درب صوفي يبلغ به هذه الحال.

وفضلاً عن عدم قبولنا لكثيرٍ من المسالك في معالجة سيرة شمس قبل لقائه بالرومي، فإننا لا نقبل ما يُقال عن كون شمس شخصية خرافية خُلقت على يد الرومي، وهو رأي تم افتراضه سابقًا في الدرس الاستشراقي الكلاسيكي، وأعيد إحياؤه في العصر الحديث على يد بعض الأدباء العرب أمثال جمال الغيطاني[60]، من باب الفتنة بهذا الكائن الذي يتحدث عنه الرومي في الغزليات، فلا يعقل بالنسبة للقارئ أن يكون الشخص المكتوب عنه في الغزليات حقيقة أنه ليس موجودًا في دنيانا!

كذلك لا يمكن تجاوز خطأ تحسين عبدالجبار إسماعيل دون التنبيه عليه، فحينما ترجم تحسين مجموعة من المختارات من أشعار مولانا جلال الدين الرومي معتمدًا على النسخة الإنجليزية لكتاب (رومي الشعر والصوفية) لنيكلسون وسجّل في مقدّمته لتلك المختارات أن (شمس تبريزي) هو نفسه (ابن عربي)[61]! وهو اجتراح ليس له مستند تاريخي، كما أن رؤيته تتناقض مع فكرة شمس تبريزي والرومي عن ابن عربي، فابن عربي الوليُّ لم يكن مبجّلاً بالقدر الكافي عند شمس والرومي، وقد وجّه شمس في مقالاته نقدًا له ولأفكاره[62]، وكذلك أُثر عن مولانا جلال الدين أنه رأى فتوحات زكي (المغنّي صاحب الصوت الجميل) خيرٌ من فتوحات مولانا ابن عربيّ المكّية ! وعلى الرغم من تصريح الرومي بذلك، فإن تلميذ ابن عربي (صدر الدين القونوي) ظلّ على مقربة من الرومي، حتى إنه في عُرس وفاة مولانا طُلب منه أن يؤم المصلين لصلاة الجنازة عليه، لكن الرواية تقول إنه خرّ مغشيًا عليه حينما طُلب منه ذلك.

كما لا يمكن التغافل عن توثيق سلطان ولد ابن مولانا لشخصية شمس تبريزي، وحديثه عنها في كتابه ولد نامه، هذا إذا تغاضينا عن ذكر بقية كُتّاب السير لشخصية شمس منفصلة عن ابن عربي[63]. فضلاً عن كون سيرة ابن عربي معروفة للجميع.

مولانا جلال الدين الرومي والسلفيون الجدد

استاء أحد شيوخ المولوية من كثرة الجدال والنقاش الدائر في عصره حول الطقوس والممارسات الصوفية، ورأى أن الكتابة المضادة لم تفهم إشكاليات الممارسة الروحية، كون أصحابها يفتقرون إلى المعرفة والخبرة، واعتبر أنه من الأفضل ألا يُناقش الموضوع مع الذين يهاجمونه، وقد يئس من الحديث معهم، على الرغم من ذلك كتب بنفسه رسالة في حق (الدوران الصوفي) وتحدث فيها عن شرعية السماع الصوفي مستندًا إلى القرآن وممارسة أتباع النبي للذكر بطرائق مختلفة في الإسلام المبكر، منتهيًا إلى أن شريعة الله لا تحرّم مثل هذه الطقوس[64].

تظل المولوية موضوعًا للجدل والنقاش، ويحظى مولانا جلال الدين الرومي باهتمام بالغ شرقًا وغربًا، وأخيرًا نجد حضورًا كبيرًا لأقواله ومعارفه الصوفية، الجمهور الأكبر يلتقط كل ما يُكتب عن الرومي أو له بحبٍّ وشغف بالغ، وقد انزعج البعض من أتباع الطرق الصوفية لهذا الحضور، مما حدا ببعضهم أن ينزع عن الرومي تصوفه، ويصم التصوف الفارسي بابتعاده عن الشريعة. الموقف نفسه أكثر حدة وصرامة من جانب التيار السلفي، فقد أعاد أحدهم إثارة المشكلات نفسها التي استاء منها نوري أفندي، وتحدث عن (فسوق المولوية) وعن نشرهم للفجور واستهانتهم بتعاليم الإسلام، معتمدًا في ذلك على قراءة كتب التاريخ، جاعلاً المقولات العقيدية حاكمة على ما يرد هنا أو هناك من أخبار.

في هذه الورقة أتناول مصدرًا غلبت عليه الأسطورية كما هو الشأن في الكتابة المناقبية وقصص القديسيين، أرّخ للرومي والمولوية بقلم المريد الذي يكتب عن شيخه، والمؤمن عن نبيّه، والعاشق عن معشوقه، فغابت الحقيقة وسط هذا الكمّ من التبجيل والأسطرة، مما وضع الباحث أمام مهمة صعبة وهو يتعامل مع هذا الكم الهائل من المواد.

البعضُ وفّق في التعامل مع المرويات التاريخية، والبعض الآخر اتخذها مطية لإدانة الرومي، وسنرى في هذه الورقة أمثلة لذلك.

الأفلاكي وسيرة الرومي

اشتهر الأفلاكي بكتابه (مناقب العارفين) وهو الكتاب السيري الأكثر طولاً وتفصيلاً في كل ما يتعلق بسيرة الرومي وآبائه الروحيين وتلاميذه ومريديه؛ وعلى الرغم من أنه يقدّم معلومات مفصلة عن أشياء كثيرة في كتابه، فإن الأفلاكي تظلّ جوانب كثيرة من حياته غير معروفة عند المحققين والمؤرخين، فحسب ثاقب دده نعرف أن اسم الأفلاكي أحمد آهي ناطور، تتلمذ لبدر الدين تبريزي، وله سياحات ورحلات قطعها في سبيل تحصيل العلم، ويُقال إن أباه كان يروي مناقب بهاء الدين ولد سلطان العلماء ووالد حضرة مولانا جلال الدين.

بدأ الأفلاكي في كتابة «مناقب العارفين» في قونية عام 718هـ/ 1318 واستمر في تنقيح الكتاب وتوسيعه فترة طويلة؛ لذا توجد من الكتاب أكثر من نسخة، يعثر قارئها على تعديلات كثيرة، وكما أُهملت المعلومات عن حياته وكأنه كان نسيًا منسيًّا، فلم يبرز اسمه على نسخ مناقب العارفين[65]!

جمع الأفلاكي مرويات سيرته عن طريق المشافهة من أشخاص أحبّوا مولانا واتبعوا طريقته التي أبرز ملامحها ابنه سلطان ولد؛ بعض هؤلاء الأشخاص كانوا على قيد الحياة والتقوا بمولانا وولده، وكعادة المحبّين تم إضفاء هالات ونسبة أشياء كثيرة إلى محبوبهم من باب التبجيل والتعظيم يستحيل قبولها عقلاً أو صدورها عن الرومي، كما يستحيل حدوثها في الواقع كما سيأتي في هذا المقال.

التقى الأفلاكي بأولو عارف جلبي[66] وبناء على تشجيعه بدأ في كتابة السيرة، وليس غريبًا على الأفلاكي أن يعتقد في كرامة جلبي، وينسب إليه كرامات كثيرة، فجلبي الحفيد الأبرز لمولانا، والحامل للأنوار السبعة «وجهه مبارك ميمون، ومشاهدته مباركة للأرواح»[67]، لذا فملازمة الأفلاكي حققت له مبتغاه من التعرف على عالم مولانا عبره، لأن الأفلاكي لم يعرف الرومي معرفة شخصية إذ وُلد بعد وفاته، ومن خلال مطالعة لويس فرانكلين لمناقب العارفين يؤكد لنا ما أكده غيره من الدارسين على النحو التالي: (صورة الرومي التي رسمها الأفلاكي غيرُ مقيّدة بأي ذكريات مباشرة للرومي، المخلوق البشري، ولعل هذا يفسّر جزئيًا تقبّله القصص الأكثر خيالية وغرائبية، التي تدور حول موضوع الشخص الذي هام فيه. ويروي الأفلاكي أحداثًا خارقة للعادة من دون أن تطرف له عيْنٌ، إلى جانب تفاصيل أكثر دنيوية عن حياة الرومي العائلية تبدو قابلة للتصديق إلى الحد الكافي. وعندما يكتب الأفلاكي بعد ذلك بكثير يقدّم معلومات أكثر كثيرًا في شأن حياة أولو جلبي والمولوية المتأخرين، وإذا كان العلماءُ غير ميالين إلى النظر إلى مناقب الأفلاكي على نحو أكثر تحقيقًا وتمحيصًا، فما ذلك إلاّ لأن التفاصيل السيرية التي يقدّمها لا يمكن العثور عليها في أي مصدر آخر) [68].

تنسبُ السّيرُ الصوفيةُ أعمالاً وكرامات لا يمكن قبولها من قِبل كثيرين وخصوصاً خصوم التصوف، وتتم إدانة المتصوفين بناء على هذه المرويات. اللافت للنظر أن التلقي السلفي لمولانا وسيرة حياته لا يذكر شيئًا عن هذه الخوارق، بل يحاول طيلة الوقت أن يُظهر مصداقية المصدر الأسطوري؛ ليؤكد لجمهوره ما وصل إليه من استنتاجات تجعل حكمه محل رضا وقبول تام، وإذا ذكر أمرًا خارقًا فإنه يتغافل عن عدم إمكان تحققه واقعًا وأسطوريته وينشغل بما يمس المعتقد فيه!

ومن ذلك ما فعله أبو الفضل القونوي[69] في كتابه (أخبار جلال الدين الرومي)، إذ اعتمد الأفلاكي مصدرًا رئيسًا[70] لكتابة سيرة مولانا برؤية مخاصمة، وسأورد هنا نماذج لتعامله مع المرويات تبعًا للاعتقاد ومحاكمة لها دون النظر إلى تحقق وقوعها، وسأناقش بشكل مفصّل مروية ذائعة تتحدث عن موقف الرومي من المغول، وبالأحرى موقف الصوفي من الجهاد.

نماذج من التعامل السلفي مع المرويات التاريخية

إن مسألة التحيّز والانتقائية يُصاب بها كثيرون في حديثهم عن شخصيات تُقدّس –نسبيًا– من قِبل محبّيهم أو من يعتنقون أفكارهم؛ يمثّل هذا السلوك سلوك جمهور عريض يصعب حصره أو متابعته، لكنه يشتركُ في أمر مهم، وهو التشجيع والمتابعة دون الالتفات إلى الحقائق حتى وإن مرّت أمامه، وفي أوقات كثيرة يعطي ظهره لما يقدّم إليه[71]، حتى وإن كان ما يُقدّم إليه من شخص ليس متحيزًّا إلى فئة تخاصمه وتزهد في مقولاته، فقد اعتدنا في تراثنا الثقافي أن نوجّه التاريخ تبعًا لما نؤمن به عقديًا، فالشيعي لا يقبل بالرواية السنية، والسلفي لا يقبل بالرواية الأشعرية، مما يجعل الحديث عن رواية تتصف بالإجماع في أيّ من مستوياته أمرًا مستحيلاً[72].

سنعمل هنا على متابعة التلقّي السلفي لما كُتب عن مولانا جلال الدين الرومي، والعينة التي نعمل عليها هي كتابات بعض الأتراك المقيمين في دولٍ عربية، مثل محمد القونوي احتشد الكاتب للتأليف ضد الصوفية فكتب في هذا الجانب مؤلفات عدة تعلن الخصومة على التصوف، فوصف كل ما لا يعجبه بـ(التصوف المنحرف) ورغب أن ينتقل محبو التصوف من هذا اللون الصوفي إلى (تصوف أهل الحديث والأثر).

خصص الكاتب تدين عدة مؤلفات الرومي والطريقة التي نُسبت إليه (المولوية):

– «المهول من نبأ من خدم المغول».

– «المنتخب من مناقب العارفين للأفلاكي في أخبار جلال الدين الرومي».

– «اللباب المعنوي في انتخاب المثنوي»،

«الهابط الغوي من معاني المثنوي».

– «البراهين المعنوية الأولية على فسوق المولوية الدنيوية».

– «أخبار جلال الدين الرومي».

بالإضافة إلى رحلة الإمام بدر الدين العيني إلى قونية، وغير ذلك من الرسائل التي انتخب فيها أقوالاً وجمعها لتدعم فكرته في إدانة التصوف.

لسنا بصدد تحليل ودراسة هذه المؤلفات وما ورد فيها من آراء مغلوطة، إذ تحتاج هذه المواد إلى مجموعة من المقالات أو تخصيص بحث موسّع لها، لكننا سنتناول مروية تتعلق بموقف الرومي من المغول، إضافة إلى بعض المرويات الأخرى، لنرى إن كان ما يقوله الكاتب له وجه من وجوه الصحة أم إنه انتقى من الروايات ما يخدم فكرته وترك الكثير مما ينزه الرومي عما قاله.

يروي محمد عبدالله أحمد (أبو الفضل القونوي) في كتابه (أخبار جلال الدين) عن الرومي ما يجعل منه (موافقًا على كفر جنكيز خان وما يقرّبه من الخيانة والعمالة للمغول، وهي التهمة التي يلصقها السلفيون دومًا بأهل التصوف عامة مع اختلاف العصور)، ويخلط الكاتب بين ما يقوله جلال الدين بما يُقال عنه في السير بشكل أسطوري، ففي الفصل المعنون بـ(المغول وأهل الفتوة في الأناضول وعلاقة الجلال الرومي بهما) (ص72-104)، لن يعثر القارئ إلا على إحالة واحدة على نصّ للرومي ورد في كتابه النثري (فيه ما فيه)، عاد الكاتب فيه إلى الترجمة التركية، وسنقف عند هذا الكتاب لننقل للقارئ ما لم يشر إليه الكاتب؛ لتثبيت فكرته عن الرومي وإظهاره في صورة الخائن لأمة الإسلام! كما اعتاد مخاصمو الصوفية أن يفعلوا ذلك، متغافلين عما يُقال في الفقه ويؤكده التاريخ من تبني الفقهاء والعلماء من غير الصوفية لمبدأ (نحن مع من غلب)، (لا أقاتل في الفتنة، وأصلي وراء من غلب)، وهو ما تأثر به التيار السلفي حتى يومنا هذا، وقطاع كبير منه ينتصر للحاكم المتغلب بناء على هذه الفكرة.

لننتقل إلى ما يقوله مولانا جلال الدين الرومي بنفسه عن المغول، لا ما ترويه السير:

1- يستحضر مولانا جلال الدين قصة نبوية في الفصل الأول من «فيه ما فيه» [كلّ شيءٍ من أجل الحق]، فيذكر في أسلوب قصصي بديع سبب نزول قوله تعالي }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ{[73] في تعقيبه على شرحه لقول مأثور (شرّ العلماء من زار الأمراء، وخير الأمراء من زار العلماء، نِعم الأميرُ على باب الفقيرِ، وبئس الفقيرُ على باب الأمير)[74]، وموجّهًا كلامه لمعين الدين سليمان بن مهذّب الشهير بـ(بروانه)[75] موبّخًا إياه قائلاً: «إنك في أول الأمر برزت بطلاً للإسلام. إذ قلت: سأقدم نفسي فداءً، سأضحي بعقلي وتدبيري ورأيي من أجل بقاء الإسلام، وكثرة أهل الإسلام لكي يستمر الإسلام آمناً وقوياً.. ولكن عندما اعتمدت على رأيك ولم ترَ الحق، ولم تنظر إلى كل شيء على أنه من الحق، جعل الحق تعالى ذلك السبب والسعي نفسه سبباً لنقص الإسلام، فقد حالفت التتار، وقدمت لهم العون، لتفنيَ الشاميين والمصريين، وتخربَ دولة الإسلام، ولذلك فإن الله سبحانه جعل ذلك الذي كان سبباً لبقاء الإسلام سبباً لاضمحلاله، وفي هذه الحال، توجه إلى الله عزَّ وجلّ الذي هو محل الخوف، وتصدق لعل الله يخلصك من حال الخوف السيئة هذه، ولا تقطع الرجاء منه، بالرغم من أنه ألقاك من مثل تلك الطاعة في مثل هذه المعصية. رأيت أن تلك الطاعة آتية منكَ، فوقعت في هذه المعصية. والآن وأنت في هذه المعصية أيضًا لا تقطع الرجاء وتضرّع؛ فإنه تعالى قادرٌ، فقد أظهر من تلك الطاعة معصية، وهو قادرٌ على أن يُظهر من هذه المعصية طاعة. وهو قادرٌ على أن يعطيك الندامة على هذا الذي قدّمت، ويهيئ لك الأسباب لكي تسعى من جديد لكثرة المسلمين، وتكون قوّة للمسلمين، فلا تقطع الرجاء! (…) كان غرضي أن يفهم هذا، فيتصدق، ويتضرع. فقد انحدر من حال غاية في السمو إلى حال من الضعة[76].

نلاحظ في هذا النص توبيخ مولانا لمعين الدين بروانه واعتباره مخرّبًا لدولة الإسلام، لمحالفته للتتار واعتماده على تفكيره وتدبيره. ألا ترى مطالبة مولانا له بأن يتوب إلى الله اعتمادًا على قوله تعالى: }إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ{[77]، عسى أن يجدّ في العمل على تقوية دولة الإسلام، ويصلح ما أخطأ فيه.

2- في الفصل الخامس [عرائس الأسرار: ص108-111] وهو الفصل الذي اجتزأَ منه الكاتب ما أدان به مولانا، «يسأل أحدهم مولانا: يأخذ المغول الأموال، وبين الفينة والأخرى يعطوننا الأموال أيضًا. وهذا وضعٌ عجيب. ما حكمك على ذلك؟» فيجيبه مولانا ويبيّن له بمثال توضيحي كعادته، ويختم كلامه قائلاً: «وهكذا فإن مالنا حرامٌ عليهم، ومالهم حلالٌ لنا» [ليدقق من يرجو التحقيق في هذه الجملة]. في مثاله يشرح مولانا عمل الحق سبحانه وتعالى. وإذا كان الكاتب السلفي قد استبعد الرواية السابقة التي يظهر فيها الرومي موبّخًا الأمير لمحالفته للمغول؛ لأنها لا تخدم اعتقاده، وما أراد أن يوجّه القارئ إليه ليدين التصوف، فإن تعامله مع هذه المروية أيضًا جاء على نحو انتقائي، فانتخب منها ما أراد وترك ما يوضح رؤية الرومي للمغول.

لنقرأ نصًّاً آخرا للرومي جاء فيه:

«قال أحدهم: عندما جاء المغول لأول مرّة إلى هذه الولايات كانوا عراة ومجردين، كان مركوبهم الثيران وأسلحتهم من الخشب. أما في هذا الزمان فهم محتشمون وشبِعون، ولديهم خيول عربية مُطهّمة وأسلحة جيّدة.

قال مولانا: في ذلك الوقت، عندما كانوا منكسري القلوب وضعفاء ولا قوة لديهم أعانهم الله وأجاب دعاءهم. أما في ذلك الزمان الذي غدوا فيه محتشمين وأقوياء فإن الحق تعالى يهلكهم بأضعف الخَلق؛ لكي يعرفوا أنهم بعناية الحق ومدد الحق استولوا على العالم وليس بقوتهم وقدرتهم. في موطنهم الأول كانوا في صحراء، بعيدين عن الناس، لا حول لهم ولا قوة، مساكين، عراة، فقراء. من دون قصد، جاء بعض منهم تجاراً إلى ولاية خوارزمشاه وبدؤوا بالشراء والبيع، وكانوا يشترون الكرباس [ثوبٌ من القطن الأبيض] ليغطوا أجسادهم. وقد منعهم الخوارزمشاه، وأمر بأن يُقتل تجارهم، وأن يُؤخذ منهم الخراج أيضاً، ولم يأذن للتجار بأن يذهبوا إلى هناك. مضى التتار إلى مليكهم متضرعين، قائلين: «لقد هلكنا». طلب منهم ملكهم أن يمهلوه عشرة أيام، ودخل في كهف عميق؛ وهناك صام عشرة أيام. وأظهر الخضوع والخشوع. فجاء نداء من الحق تعالى: «قبلت ضراعتك وتوسلك. اخرج: أينما ذهبت فستكون منصورًا». وهكذا كان. عندما خرجوا انتصروا بأمر الحقّ واستولوا على العالم.

وهذه هي الفقرة التي استبعدها الكاتب:

قال أحدهم: التتارُ يقرّون بالحشر، ويقولون بأنه سيكون هناك حسابٌ. قال مولانا: يكـذبون، هم يريدون أن يجعلوا أنفسهم مشاركين للمسلمين (…) هذه المعاصي والمظالم والسيئات التي اقترفوها كالثلج والجليد تجمّعت طبقاتٍ فوق طبقات. وعندما تأتي شمس الإنابة والندم وأخبارُ الآخرية وخشية الله ستذيب ثلوج المعاصي تلك كلها مثلما تذيب الشمس الثلج والجليد.

علم الكاتب التركي بالنصوص السابقة، وعدم استشهاده بها في حديث الرومي والمغول، يظهر تعمده لإخفاء رأي الرومي في المغول وتوبيخه لمن يتعامل معهم من الأمراء. وعدم استشهاده بالفقرة الأخيرة التي يكذّب فيها الرومي التتار ويصف أفعالهم بـ(المعاصي والمظالم والسيئات) يجعل ما قاله في (ص104) من كتابه «أخبار جلال الدين» غير صحيح: «فها أنت ترى الجلال ينسب إلى الكافر جنكيز خان الوحي أو ما هو في معنى الوحي، والصيام والتضرع ولا يذكر شيئًا عن كفره ومظالمه».

ما مدى تأثير هذه الرواية السلفية وتلقيها من قبل الجمهور دون اختبار لصحتها؟

نقرأ للروائي محمد عبدالقهار عن اهتمامه بالتاريخ، ويظهر ذلك من خلال عمله الأدبي (سراي نامه: الغازي والدرويش)، وروايته (غارب) التي شكر بعد صدورها مجموعة من الأساتذة على معاونته في العودة إلى مصادر تاريخية كثيرة. لكن، نلاحظ أنه استشهد في إحدى مقالاته (دين الملحمة) بما أورده الكاتب السلفي مقتبساً إحدى مروياته في صورتها المنتخبة، محيلاً على النسخة العربية من كتاب «فيه ما فيه»، مما يعني إمكان مطالعته للنصوص السابقة وتعرفه عليها بسهولة. ومن العجيب أن يحث هذا الشاب من خلال مقال كتبه بعنوان (هل نقرأ التاريخ) بعد صدور الرواية، على قراءة التاريخ دون الاعتماد على الوعظ أو الوقوع في حيز الإسقاط والتنبؤات، ويقع فيما أنكره على غيره!

يبقى سبيل التعرف على الرومي عند معظم التيار السلفي منحصراً فيما يردده الكاتب، وخير دليل على ذلك ما جاء في رواية الغازي والدرويش: «وهؤلاء الراقصون لا يزالون يُلهون الناس منذ زمن شيخهم الأكبر الرومي الذي رقص والمغول يخربون الأناضول، ورقص الناس معه ليهربوا من ألم الفواجع، وجلس البراوناه صنيعة المغول الذي حكم الأناضول باسمهم في مجلس الرومي يحاوره في الزهد والفناء». يحتفي الشباب بهذه الفقرة، ويشتركون في ترديدها دون التحقق من صحتها.

انتقلت المعلومة من السعودية إلى مصر، وما تزال تنتشر كالنار في الهشيم، كباقي المقولات التي تحمل وراءها ضغائن للرومي، ويستوي حامل المعلومة مع الجمهور في التلقي دون فحص أو اختبار، وكما أسهمت الكتابة المتحيزة في نشر صورة خاطئة للرومي، أسهمت الكتابة الأدبية كذلك كما رأينا في المثال السابق. كان هذا مثالاً على أنموذج مع التعامل مع مروية تاريخية واحدة تم اقتطاعها من سياقها لاتهام الرومي من خلالها. لنتابع مع نماذج أخرى.

1-ينقل أبو الفضل في (ص130) عن الأفلاكي مروية تتحدث عن شمس تبريزي وهو في بغداد، وللتنويه لا نعرف الكثير عن شمس، فبالرغم من آلاف الصفحات التي كُتبت عن الرومي، لم يُكتب عن شمس في كتب التاريخ أو الطبقات سوى النزر اليسير الذي يجعل سبيل التعرّف على شخصيته أمرًا خاضعًا للظن والتخمين، اللهم إلاّ إذا قرأنا كتابه (المقالات) الذي اكتُشف حديثًا، وحاولنا أن نلتقط منه أخباره كما يرويها بنفسه.

يقول الأفلاكي[78]: «بينما كان الشمس يمرُّ في بغداد بباب أحد القصور، إذا بصوت عَزْف يَطرُقُ مسامعه، فأراغ أن يستمع إليه شيئًا، فدخل القصر، فأشار سيد القصر الغافل عن سرّ هذه النشوة إلى عبده أن اضرب هذا الدرويش ليذهب. فاستل العبدُ سيفه وهجم عليه، لكن الفالج سرعان ما نزل بيده، فأمر عبده الآخر فجمدت يده في الهواء، وخرج الشمسُ من القصرِ وأخذ الطريق فلم يلحق به أحدٌ. وفي اليوم التالي رحل سيد القصر إلى الدار الآخرة»!

لم يلتفت أبو الفضل إلى إصابة شخص بالفالج، وتوقفت يده عن الحركة بشكل آلي، والآخر كذلك! إن هذا لو حدث بالفعل لجعل من كانوا يودون إيذاء شمس تبريزي يؤمنون به كما نقرأ في السير والتاريخ عن أمثال ذلك!

لكن القونوي علّق على الرواية مثبتًا إياها قائلاً: «هذا متطفلٌ يدخل البيوت بغير إذن أصحابها، وهو اعتداء، فما قوبل به الشمس لا يُلام صاحب القصر عليه؛ لأنه يدفع بذلك عن عرضه. وتأمّل قوله «فلم يلحق به أحد» فإني أخال أنه هرب بسرعة كبيرة، هروب الجناة المعتدين المتطفلين»[79].

2- قَبِل محمد القونوي مروية الأفلاكي التي تتحدث عن لقاء شمس بالرومي، وسفّه من حوار دار بينهما، كان الحوار مجال الحديث فيه عن عظمة حضرة النبي والإنكار على بايزيد البسطامي[80]، لكن القونوي تعمّد ألا يذكر شيئًا من ذلك، وركّز اهتمامه على المقطع الأخير في رواية الأفلاكي: «وأغلق عليهما باب حجرة فيها، وحرّم على أهل الدار أن يدخلها منهم أحد، إلا صلاح الدين زركوب، وبقيا في الحجرة ثلاثة أشهر وقيل ستّة[81]، لم يخرجا منها قط». يعلّق القونوي: «وهذا يعني أنهما قعدا عن صلوات الجماعة في المسجد وعن الجمعة»[82]! وزاد في هامش الصفحة أن شمسًا كان يؤخر الصلاة عن وقتها بغير قصد! لا مجال عند الكاتب للتأويل أو المجاز، فإن صحت الرواية ألا يمكن أن يكون معناها التزام الرومي بصحبة شمس، وأنه لم يكن ليترك فرصة للجلوس معه إلا والتزم بذلك.

3- يذكر الأفلاكي أن شمسًا طلب من الرومي شخصًا يخدمه، فقدّم مولانا زوجته كيرا خاتون لتخدمه، فرفض شمس وطلب غلامًا، فقدّم مولانا ابنه سلطان ولد ليخدم شمسًا، فطلب شمس من مولانا الخمر، فملأ مولانا إبريقًا من حيّ اليهود وقدّمه إليه، فأخبره شمس أنه كان يختبره وعقّب قائلاً: إنما فعلتُ ذلك لأعلم درجة حلمه وصبره، مضيفًا: إن عالم مولانا يضيق عنه نطاق الرواية لسعته.

منح القونوي الرواية دلالة جنسية مدينًا الرومي، فما يطلبه شمس يتعلق عنده بأن يتخذ غلامًا أو امرأة ليس للخدمة فحسب وإنما للمتعة! فعقّب على الرواية بشكل تهكّمي: «ونحن بهذا علمنا غيرته على حُرَمِه وفقهه في دينه»[83].

لم يلتفت القونوي إلى رواية مماثلة تدل على أن شمساً كان يختبر فعليًا الرّومي، على الرغم من إيراده لها –في بداية كتابه– لكنه انشغل عنها بإدانة الشخص المذكور أيضًا. يورد الأفلاكي الرواية على النحو التالي:

قال الشيخُ أوحدُ الدّين: «برغبة كاملة: أريد بعد اليوم أن أكونَ في خدمتك! قال: إنك لا تطيق صُحبتي. فجدّ الشيخُ وقال: اقبلني في صحبتك، أرجوك. قال: بشرط أن تشرب النبيذ معي على الملأ في وسط سوق بغداد. قال: لا أقدر على ذلك. قال: تقدر أن تأتي لي بنبيذ خاصٍّ. قال: لا أقدر. قال عندما أشربُ تقدرُ أن تصحبني. قال: لا أقدرُ. فصرخ مولانا شمسُ الدين: انصرف عن الرجال». يُعلّق العلامة فروزانفر على الرواية قائلاً: وكان غرضه من هذا الكلام اختبار أوحد الدين في مقام التجريد والتفريد، الذي تتمثل حقيقته في مرحلة المعاملات في صرف النظر عن الخلق والتوجّه إلى الخالق بكمال الهمة وتمامها[84].

يمكننا أن نرى في الرواية أثرًا لحضور الخضر (العبد الصالح) مع موسى، ففي الرحلة التعليمية التي سجل القرآن وقائعها، كانت الحوادث التي تُعرض على النبي موسى (عليه السلام) بمثابة اختبار له، فما يبدو غير منطقيِّ أو مخالفاً للتعاليم وأحدثه العبد الصالح، كان بمثابة درس لموسى عرف فيه الفارق بين فعل المخلوق وحكمة الخالق، ومن المعروف أن شخصية الخضر كانت حاضرة في التراث الصوفي والتفسيري والحديثي، فربما كانت هذه الشخصية حاضرة في مخيال كاتب الرواية التاريخية (الأفلاكي) –إن لم يتحقق لقاء شمس بالكرماني[85]– وربما كان شمس مستحضرًا لأنموذج الخضر، فهو نفسه كشيخ له علاقة بمريد أقرب إلى صورة الخضر التي يرسمها التراث الصوفي[86].

4- ذكر القونوي في كتابه مرويات عدّة عن سلطان ولد ابن مولانا، نقل جميعها عن الأفلاكي، مدينًا سلوكه من وجهة نظر المقولات السلفية[87]، لكنه أحجم عن ذكر مرويات لا يمكن تصديقها عقلاً، ربما لأن هذه المرويات تجعل من المصدر الذي يعتمده للتأريخ لحياة الرومي والمولوية مصدرًا غير موثوق في مصداقيته، سنذكر رواية واحدة من جملة هذه المرويات التي لا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال.

يحكي الأفلاكي عن الفترة التي سبقت فِطام سُلطان ولد عن حليب أمه قائلاً: «كان سلطان ولد دائمًا ينام في حضن حضرة مولانا، وعندما كان يريد في التهجد أن ينهض ويقوم لصلاة قيام الليل، كان سلطان ولد يصرخ ويبكي، وعندئذ كان حضرة مولانا من أجل تسكينه يترك الصلاة ويضعه في حضنه. وعندما كان يطلبُ حليب أمه كان مولانا يضع ثديه المبارك في في وَلَد. وبأمر الله بسبب فرط حُنوّ الوالد كان يتدفق حليبٌ صافٍ «لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين» إلى أن يشبع من لبن ذلك الذي هو أسد المعنى وينام، مثلما انبثق الماءُ الزّلال من بين أنامل رسول الله»[88].

يضرب القونوي صفحًا عن مثل هذه المرويات[89] ولا يوردها في كتابه، ويركّز أكثر على ما يلتمس فيه مخالفة للعقيدة أو ما يقدح في السلوك، ويظهر الرومي في صورة غير أخلاقية. كذلك أغفل عن ذكر مرويات للأفلاكي تقدّم الرومي عالمًا محبًّا للفقه والشريعة، نذكر منها ما أورده الأفلاكي على لسان مولانا قائلاً: «كان الإمام أبو حنيفة النعمان والمطلبي (الشافعي) وأئمة آخرون (رضي الله عنهم) من صنّاع عالم الأرض الجذباء، من اتبع طريقهم بكلِّ صدقٍ واتخذ هؤلاء العقول العظيمة كقدوة، ظلَّ في مأمنٍ من شرِّ الخبثاء وتجّار الدين ونجا. لكن الجنيد وذا النون وبايزيد وشقيقاً البلخي وإبراهيم بن أدهم والمنصور (الحلاج) وأمثالهم، فهم طيورٌ مائية، سبّاحون عابرون لبحر الفكر، من اتبعهم نجا من مكر الهوى الخادع، وتقدم في طريقه نحو جوهرة بحر القدرة[90].

فروزانفر والأفلاكي

ثمّة تعامل مختلف مع مرويات الأفلاكي، يلاحظه من يطالع سيرة جلال الدين الرومي التي كتبها فروزانفر، فإلى جوار مصادره الكثيرة عن الرومي، نجد حضورًا لمرويات الأفلاكي من بداية السيرة إلى منتهاها، فيذكر في مقدمة كتابه أنه أدرج أكثر مطالب هذا الكتاب في تضاعيف السيرة، حتى إن القراء بعد مطالعة كتاب فروزانفر ليسوا في حاجة إلى قراءة المناقب، ويقول: «وحيثما لزم الانتقادُ لم أُحجمْ عنه»[91].

ومن نماذج تعامله مع مرويات الأفلاكي، مناقشته للخصومة التي حدثت بين الفخر الرازي وبهاء ولد سلطان العلماء، فأغلب الكتّاب يؤكدون ذلك اعتمادًا على نقد بهاء ولد لطريقة الفخر الرازي المفسر، ومن المعروف أن الصوفية يعيبون طريقة الحكماء والفلاسفة ببيان شديد الوضوح، ويعدونهم منحرفين عن جادة الصواب، لإعلائهم من شأن العقل على الروحانيات، ومن كلام مولانا جلال الدين الرومي في هذا الشأن: «إن قدم الاستدلاليين من الخشب، والقدمُ الخشبية لا تمكين لها البتة». ومنه أيضًا: «ذو العقل يهرب من النملة الميتة حذرًا، وذو الحُبّ يدوس على التنين ولا يعبأ». وفي المثنوي يرد مشهد لمجادلة عائلية يكون فيها العقل هو الأب، وتكون فيها النفس الروح الدنيا، هي الأم. فالأم تريد أن تدلل طفلها الإنسان بإبقائه في البيت قريبًا من صدرها، لتجنبه كل أنواع المشاق في الحياة. أما العقل الأب فيعظها بأن ترسل الصبي إلى المدرسة من أجل إعداده لحياة شريفة. ويمثّل هذا المشهد الطريقة التي يتحدث بها معظم المتصوفين عن العلاقة بين العقل والنفس، الملكات الطبيعية الدنيا[92].

لم تكن هذه الإشارات بصارفة لفروزانفر من أن يتحقق من صدق رواية الأفلاكي، أن الفخر الرازي كان سببًا في هجرة والد مولانا من بلخ، فتعقّب روايات الأفلاكي عن الهجرة، ورأى أن أغلبها متعارض إلى حدّ أنه لا يمكن الجمع بين المرويات، وعقّب على ذلك قائلاً: «والظاهر أن الأفلاكي من أجل إثبات كرامة أسرة مولانا، وجَعلِها في غاية القرب في المقام الإلهي، بل في نهاية الاقتدار والاستطاعة في عالم الكون والفساد والتصرف في الحوادث والأكوان، جمع هذه الروايات من دون مراعاة الترتيب التاريخي، وقد كتب الآخرون أيضًا في كتبهم مقلدين إياه. وبوجود روايات السابقين التي أيّدتها القرائنُ التاريخية قدر المستطاع، أرى أن السبب الرئيس لهجرة بهاء ولد من بلخ، إنما كان الخوف من سفك الدّماء والقسوة لدى جيش التتار»[93].

ويدعم فروزانفر رأيه بالاستناد إلى مصدر أكثر وثوقية في الحديث عن الرومي وأسرته، وهو سلطان ولد في مثنوي ولد نامه، إذ يجعل هجرة جدّه على إثر إيذاء أهل بلخ له، ومصاحبةً في الوقت نفسه لحملة المغول، ولا يذكر الفخر الرازي والخوارزمشاه.

لا يتوانى فروزانفر عن نقد مرويات الأفلاكي كلما وجدها غير مطابقة للأحداث التاريخية، ومخالفة لما يرد في المراجع التي يؤرخ لها المعاصرون للحدث، فنراه يعقّب مرة أخرى في حادثة هجرة عائلة الرومي على الأفلاكي قائلاً: «وغيرُ معلومٍ من أي مصدرٍ جمع الأفلاكي هذه الروايات، وعلى أي أساس جاء بها مخالفة لرواة شيخه ومرشده، على الرغم من أن مثنوي ولد كان في حوزته، وكان هو نفسه ملازمًا لسلطان ولد وتلميذًا له»[94].

وتتكرر عبارات من مثل: «أخطأ الأفلاكي في أمر …»[95]، وكذلك «رواية الأفلاكي محلّ إشكال»[96]، «ولا بد أن الأفلاكي يتصرف في كلامه بطريقة أخرى لكي لا يتناقض أول الرواية مع آخرها»[97]، وعبارات أخرى توضّح اختلاق الأفلاكي بعض المرويات من باب نشر الطريقة، من مثل: «يكون الأفلاكي قد أورد ذلك من عنده»[98]، «ذلك أن الأفلاكي في أغلب هذه الأمور يسوق كلامًا خارجًا عن دائرة التحقيق، وهدفه في كتابه الترويج لطريقة المولويين وعقيدتهم»[99].

يتعامل فروزانفر على هذا النحو من التثبت مع مرويات الأفلاكي بعد عرضها على المصادر التاريخية، فإذا كان هناك ما يدعمها اعتمدها وأفاد منها لكتابة سيرة الرومي، وإن بدت مشكلة ناقشها، وإن كان هناك ما يعضدها من كلام الرومي نفسه تتأكد صحتها، ومن ذلك ما يسرده فروزانفر في الفصل الثامن عن (صورة مولانا وسيرته)، فكما تطلعنا رسائله المترجمة والمنشورة[100] نعرف أن الرومي كان محطّ أنظار ملوك الروم وأمرائهم، وكانت هذه الطبقة تتوق إلى لقائه، وكان يجالس –على الأكثر– الفقراء والمحتاجين، ويسعى دومًا لخدمتهم وتلبية احتياجاتهم، يفعل هذا الرومي في وقت كان يوصد بابه مرارًا كثيرة أمام الملوك. يتحدث فروزانفر عن أخلاق مولانا الرومي في المعاملات، ويستأنس بمروية للأفلاكي تدعم رفضه للأمراء، ويعقّب عليها قائلاً: وهذا الكلام تؤيده الإشارات الموجودة في كتاب (فيه ما فيه)[101]. وحينما نراجع كتاب (فيه ما فيه) النثري لمولانا، نعثر على ما يؤيد كلام فروزانفر، فالفصل الثالث من الكتاب، الذي يبدأ بالقول المأثور «شرّ العلماء من زار الأمراء، وخير الأمراء من زار العلماء، نِعم الأميرُ على باب الفقيرِ، وبئس الفقيرُ على باب الأمير» يشرح فيه مولانا لماذا لم يكن حريصًا على صحبة الملوك وزيارتهم، وفي الفصل السابع نشاهد صورة من ضجر معين الدين بروانه من عدم لقاء الرومي به، ويروي بروانه أن والد الرومي لم يكن يحبّ لقاءه أيضًا، وكان يتعلل بالانشغال قائلاً: «لا أرغب في أن يأتي الأمير في حالة لا أستطيع أن أكون فيها لطيفًا معه، وليس لديّ الفراغ لأن أعظه وأتجاذب أطراف الحديث معه»[102].

لم يمنع تبنّي فروزانفر لخطاب الرومي ومحبته له أن يدقق في المرويات، ويستند إلى القرائن والبراهين التي تساعده في كتابة سيرة أقرب لما كان عليه قدر استطاعته، ولم تجعله محبته يكرر فعل الأفلاكي الذي بالغ كثيرًا في رسم صورة خيالية للرومي.

مركز المسبار للدراسات والبحوث

Optimized by Optimole