هل فهموا فكرة حسن البنا عن استخدام العنف خطأ؟

Spread the love

بكر أبو بكر* — عندما طرح حسن البنا (1906-1949) فكرة التربية والإعداد وصولاً إلى إمكانية العمل العنفي في المجتمع، كان لا يضع قانوناً عاماً أو قرآناً جديداً، وكان لا يشرّع حُكماً مطلقاً للتنظيم يصلح في كل زمن ومكان، وإنما من المحتمل أنه صنع قانونه الخاص المرتبط بالواقع والزمن المحدد الذي عايشه.
كان التنظير لاستخدام العنف مبرّراً آنذاك ليس من زاوية (اشتراكية)، لذا رفض البنا (الثورة) كمصطلح وفعل، ورآها من زاوية (إسلامية) كما فهمها هو، فقال بـ”التمكين” بالقوة من عقيدة ووحدة وسلاح هذا من ناحية فكرانية (أيدولوجية) .
أما من ناحية سياسية فقد كانت الأمة عامة في كرب وضيق وانكسار، وكان حسن البنا فيها الناشط ذا القلب المثقل بالهموم والجسد الراغب بالسعي لحل الأزمات التي تعيشها، وذا العقل المتردد بين هذه الوسيلة أوتلك.
كانت الأمة، وكان هو في مواجهة متكاثفة مع الاستعمار، وضرورة التحرر منه، ومن تحكمه في الفضاء الاجتماعي والثقافي وبالتالي الديني كما فهمه، وفي ظل غرق واضح في مستنقع التناقضات الفكرية نتيجة الانفتاح العربي والإسلامي المفاجئ على الغرب إثر سقوط رمزية “الخلافة” لذا ظهر الآخر (الكافر) كعدو متمثلاً بالاستعمار ورموز الاستعمار ولا سيما وأن المملكة المصرية كانت تحت الهيمنة الإنجليزية فلزم لاستمرار (الجماعة) اللجوء إلى الخطاب المختلط الأفهام بين العلني الديني المقدس للفعل والسياسي التجريبي والحزبي الغامض أحياناً وللإعداد العسكري السري.
إن فكرة التنظيم السري أو (الجهاز الخاص) أو العمل العسكري كانت فكرة ليست جديدة لدى البنا، وإنما ارتبطت بمسيرة الأحزاب المصرية قبله، مثل أحزاب الوفد ومصر الفتاة والسراي أي القصر، ممن شكلوا تنظيماتهم العسكرية، أي أنه كان أمراً شبه مقبول وله تأصيله، فلم يأتِ البنا بجديد حينما وجّه التنظيم نحو فلسطين-وإن كان تدخلاً محدوداً- ونحو معسكرات الإنجليز، وأخطأ (الجهاز) حينما انتقل إلى ضرب اليهود في مصر وضرب القيادات المصرية المعارضة بل وقتل المعارضين من الإخوان أنفسهم أمثال سيد فايز الذي قتله عبد الرحمن السندي زعيم الجهاز الخاص للإخوان ذاته.
إن هاجس التقدم والتحرر وإعادة الأمجاد أو التنمية والنهضة ما أسماه البنا (أستاذية العالم) كان سباحة ضد التيار للنجاة من بحر غربي يخنق الفضاء المصري آنذاك كما فهمه، حيث لم يجد أمامه إلا مظاهر (التفرنج) التي أفزعته في ظني، كما أفزعت سيد قطب أكثر منه فصنع تنظيمه الذي تقوقع فيه فحصّنه فكرياً وعسكرياً في مرحلة لربما جاز له أن يفعل فيها ما فعل، ما لا يجوز أن تكون نفس الرؤية أو “الفهم” تتحكم في مرحلة ما بعد انكسار الاستعمار المباشر، ونشوء الدولة الوطنية.
يقول الباحث همام السيد عبد المعبود في دراسة له عن الفكر السياسي لحسن البنا المنشورة في صحيفة الأهرام عام 1991 “لقد أضحت المجتمعات الإسلامية وفى مقدمتها المجتمع المصري منذ ذلك الحين -فترة البنا- ساحة لصراع محتدم بين توجهين أساسيين يتنازعان الدعوة للإصلاح والنهضة.
الأول: توجه المؤمنين بالإسلام المعتزين بانتمائهم إلى تراثه وحضارته ورغم تعدد جماعاته وتباين وجهات نظر أنصاره فإن سعيه في مجمله استهدف تأسيس النهضة وتحقيقها انطلاقاً من إيمانه وانتمائه.
والثاني: توجه الذين آمنوا بالغرب وانتموا إلى تراثه وحضارته ورغم تعدد جماعاته وتباين وجهات نظر أنصار فإن سعيه في مجمله أيضاً استهدف تأسيس النهضة انطلاقاً من إيمانه بالغرب وانتمائه الفكري إليه، وظهر الإمام حسن البنا في هذه الفترة التي تشكلت المعالم الرئيسية للحقبة الليبرالية خلالها وأسس جماعة الأخوان المسلمين وقادها على مدى عقدين من الزمان لتصبح في نهايتها أكبر معركة اجتماعية وسياسية منظمة على ساحة المجتمع المصري آنذاك”.
ويشير الباحث إلى أن فكر البنا تعامل مع (الواقع) الذي يعيشه (أي ما هو متغير حتماً)، ويقول إن البنا قدم: “(1) تصوراً متكاملاً لما يجب أن يكون عليه حال المجتمع فى المستقبل. (2) وصف الواقع الذي عاصره وشخص مشكلاته وحدد أهم قضاياه. (3) بيان حجم الهوة التي تفصل هذا الواقع عما يجب أن يكون عليه طبقاً للتصور المستقبلي المنشود أو الذي يبشر به. (4) اقتراح الأدوات والوسائل العملية الكفيلة بتحقيق الانتقال من الواقع المرفوض إلى المستقبل المرغوب.”
ويقول الباحث عبد المعبود عن فكر البنا بما يتعلق “بالخلافة” إنه سعى إلى “إعادة إحياء المثالية السياسية الإسلامية المتعلقة بالدولة ومحاولة تثبيتها في الأذهان تمهيداً لتحقيقها في الواقع.” ويضيف أن “الخطاب السياسي للبنا قد اتسم بدرجة عالية من المرونة والقدرة على استيعاب إيجابيات المفاهيم الأخرى مثل القومية والوطنية كما اتسم خطابه بالقدرة نفسها على نبذ سلبيات تلك المفاهيم وحاول دوما أن يحصر خلافه معها في أضيق نطاق ممكن”.
لم يعش البنا مرحلة ما بعد الدولة الوطنية، أي بعد ثورة 1952 والا لما كان الفهم المغلوط أو المتطرف “للتمكين” ليأخذ مداه كما هو الآن، أقول ربما، وأنا بين الأجر والأجرين، لأن البنا وإن احتوى خطابه على مستوى عالٍ من المطلق والحصرية والتقديس، فإنه مع ذلك كان رجلاً واقعياً قادراً على إحداث النقلة والانعطافة والانقلاب والتغيير في فكر “الإخوان”، وفق متغيرات الحال ما لم يدركه الكثير ممن من تلاه باستثناء بعض التعديلات فترة حسن الهضيبي وعمر التلمساني.
إن العمل العُنفي في فكر البنا بدا واضحاً خاصة بعد المؤتمر الخامس عام 1938، وما كان لتهديده للحكام إلا بنفس منطق تخيّر الوسيلة أو الأسلوب من متعدد الخيارات، حال حُسن الاستعداد (وأعدوا) كما الحال في ثورة 25 يناير2011 وثورة 30 يوليو، وقبلهما ثورة 25 يوليو 1952 .
ما أظن أن البنا كان يقصد الحرب على الحكام والدول والشعوب برغم قساوة ما استخدمه من عبارات المطلق والتقديس والحصرية، التي تُفهم اليوم وبشكل أعمى في عصر مختلف وكأنها تخاطب حالنا الحاضر ما لا يصح منها كذلك .لقد خاطب حسن البنا بعنف وتحريض عصر الاستعمار وانهيار الوحدة الإسلامية وخاطب الحكومات المستبدة والاستعمارية آنذاك، وأخطأ في إسباغ نوع من الحقيقة المطلقة والمقدسة على أفكاره عندما اعتبرها من الإسلام والقرآن، لذا فهي بالضرورة مقدسة كما سماها، فأصبحت هي حصرياً دون غيرها في عقول مريديه لاحقاً أنها القرآن ذاته والإسلام ذاته في فهم قاصر على أصول البنا العشرين، وشتان بين الأصل وهو القرآن، والفهم وهو الناشىء عن الأصل، ما هو حتماً متعدد وليس حصرياً.
أسبغ البنا الصرامة على الوسائل المستخدمة بحيث ظهر وكأنها صالحة لكل زمان ومكان، أو لربما لم يكن هذا مقصده لا سيما وأن تنظيمه كان علنياً واضحاً، لكن خلط الثابت (الدين) بالنسبي (الفكر والوسيلة..) يقدس الاثنين معاً على اعتبار أنهما من مشكاة واحدة.
إن الخط الانقلابي–الثوري في فكر البنا النهضوي جاء خاصاً منحصراً بفترة الاستعمار وحُماة الاستعمار، وفي ظل انهيار الوحدة الإسلامية ما فهمها بـ”الخلافة” التي أربكته وآذته كثيراً، ولم يأتِ ليُحمّل المجتمع والدول أكثر مما تحتمل.
حسن البنا لم يتعرض للدولة المصرية (برغم عمالتها للاستعمار)، وإنما تعرض للحكومات والأحزاب، ومن رآهم أذناب الاستعمار، ولم يتعرض للشعب بتكفيره أو بتجهيله كلية، أو تحقيره وإنما تعرض للأبعاض (نكص سيد قطب على هذه الأفكار فغالى وشط وتطرف وفق أكثر التحليلات). ومن هنا كان خطه الانقلابي–العنفي خطاً موجهاً، وخطاً محدداً وخطاً مرتبطاً بالفترة الزمنية التي عاشها فقط، والتي كانت فيها الأفكار الثورية العنفية في ظل الثورات في كل مكان في العالمين العربي والغربي مقبولة بل ويُحض عليها.
وما كان لينسحب ما رآه البنا – كما فهمه كثير من لاحقيه – على فترة ما بعد الدول الوطنية (العربية والإسلامية) التي كانت تحتاج من “الإخوان المسلمين” عامة أن يطوروا ويغيروا وينقدوا ذاتهم ويراجعوا فكرهم ومسيرتهم (لاحظ المراجعات الهامة لكل من حسن الترابي وراشد الغنوشي وكمال الهلباوي ود. محمد حبيب، ود. أحمد يوسف في فلسطين…الخ)، وتحتاج منهم لأن يبدعوا لا أن يسير تيارهم المتشدد المنظور إلى أنه الحاكم اليوم (القطبي التجهيلي التكفيري الباطني)على خطى أفكار سياسية -وإن غلّفت بسياج ذهبي من الدين- ارتبطت بواقعها وزمانها ومنهج التفكير آنذاك، ومن خلال حقل ألغام مرعب من “تفسيرات” الآيات القرآنية كان يجب تفكيكه منها كلياً.
في إطار النقد والمراجعة الحديث فإن “دعوة الإخوان هي أوسع من إطار تنظيمي مغلق” كما يقول الإخواني الأردني د. نبيل الكوفحي في ندوة صحيفة الدستور عام 2012. ويضيف أن “الإمام الشهيد حسن البنا يقول: «أنتم روح جديدة تسري في هذه الأمة فتبدد ظلمات الجاهلية بنور الإسلام».. التنظيم إطار لا بد منه لنشأة جماعة حتى تكون لها رؤى واستراتيجيات وأهداف ومتابعة وتنفيذ وشكل من أشكال المحاسبة، لكن، أن تحصر فكرة جماعة الإخوان بتنظيم فأعتقد أن هذا ليس صحيحاً وهو خنق وقتل لفكرة جماعة الإخوان المسلمين”.
المجموعات التي أطلق عليها (الإسلام السياسي) وعلى رأسها “الاخوان المسلمين” في مرحلة ما كما يقول القيادي الناقد أيضا د. رحيل غرايبة الإخواني الأردني في مقال له تحت عنوان (انتهاء مرحلة “الاسلام السياسي”) في شهر تشرين الأول أكتوبر 2016 “ما هي إلّا مجموعات حاولت أن تقدم رؤيتها لنهضة الأمة في سياق الاجتهادات والرؤى الأخرى المنبثقة من فلسفات غربية أو شرقية، وذهب بهم الحماس نحو استعادة هويتهم الثقافية وتاريخهم الحضاري في ظل عملية الاستلاب الحضاري التي تعرضت لها الأمة، وكانت تهدف إلى إعادة إحياء الأمة وإعادة تمسكها بدينها وثقافتها، من أجل استعادة دورها الحضاري. ومن خلال هذا المفهوم لا يجوز أن تتحول هذه المجموعات إلى فئات تتصارع على المكاسب السياسية، أو الوصول إلى السلطة باسم الدين أو من خلال توظيف عواطف الجمهور الإسلامية الجياشة، وبناءً على هذا الفهم فيمكن القول أن عصر مجموعات ما يسمى الإسلام السياسي، في طريقه نحو الأفول المحتم، وعلى شباب الأمة أن ينخرطوا في أحزاب مدنية تهدف إلى الإصلاح، وسيادة الدستور والقانون، وإرساء معالم الدولة المدنية بمرجعية قيمية إسلامية، مثلهم مثل كل أبناء الأمة على درجة سواء”.
يقول القيادي الاخواني د. محمد حبيب الذي كتب مراجعاته في صحيفة المصري اليوم في 10/10/2016 في مقالة بعنوان (مراجعة فكر «البنا» واجبة)، “لماذا لا تُراجع وتتطور وتتغير؟ والعالم لا يستقر أبداً فهو في حركية دائمة”.
ويخلص الباحث عبد المعبود إلى أن “اغتيال حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين في ظل الظروف التي كانت تمر بها مصر وتلك التي كانت تمر بها قضية فلسطين آنذاك، كان خسارة كبيرة بالنسبة لمصر وقضيتها الوطنية وبالنسبة لفلسطين في صراعها مع الصهيونية كما كان بلا شك خسارة كبيرة على مستوى مسيرة الإحياء والتجديد في الفكر السياسي الإسلامي بصفة عامة”.
من كل ما سبق فإن أفكار حسن البنا على ما فيها من معاني ونظرات سلبية أو قابلة للفهم خارج سياق زمنها وواقعها، أو بما تحويه من أفكار جديدة أو ايجابية أو تطويرية في حينها أو متساوقة ومتصالحة مع متغيرات المحيط هي أحوج اليوم للمراجعات، ولأن تبلغ مستوى جديداً من الفهم والوعي والتفسير فلا تؤخذ أدبياته بالشرح والتفسير والموافقة فقط بقدر ما يجب أن تؤخذ بالنقد والمراجعة والتطوير، كما فعل الكثير من القيادات الاخوانية، سواء تلك التي خرجت أو ممن بقوا على الولاء للفكرة وحاولوا التمييز، وكما هو حقيقة التغيّر في المناهج وأدوات التفكير وتطور الوعي البشري، أفلا تتفكرون أفلا تنظرون أفلا تعقلون.

*بكر أبو بكر كاتب وأديب عربي فلسطيني.

Optimized by Optimole