مستقبل المنطقة ما بعد “داعش”  

Spread the love

 

بقلم: د. هيثم مزاحم — من الصعب استشراف مستقبل منطقتنا الإسلامية، التي يطلق عليها تسميات مختلفة من الشرق الأوسط إلى الشرق الأدنى إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج، الخ. فهي منطقة مركبة ومعقدة complex and complicated بسبب تنوعها الديني والعرقي والثقافي من جهة وتاريخها السياسي والثقافي المليء بالصراعات والحروب والتقلبات فهي مهد الحضارات والديانات. كما أن موقعها الجغرافي الجيو الاستراتيجي في قلب العالم وعلى مفترق الطرق، وثراوتها النفطية والغازية والمعدنية، كل ذلك يجعل منها هدفاً استراتيجياً ومطمعاً يغري الدول الكبرى للسيطرة على المنطقة أو على الأقل على جزء منها والحصول على حصة من ثرواتها وعلى النفوذ في دولها وأنظمتها.

كما أن الحديث عن ما بعد “داعش” يتضمن خلاصة مفادها نهاية التنظيم السلفي الجهادي الإرهابي الذي أقام خلافته المزعومة المسماة “الدولة الإسلامية” في سوريا والعراق” ومدّ أفرعه وخلاياه إلى معظم الدول العربية والإسلامية من مصر وليبيا وتونس إلى لبنان والأردن وصولاً إلى اليمن والبحرين والسعودية والكويت، وصولاً إلى نيجيريا ودول الساحل الأفريقي وبعض دول شرق آسيا فضلاً عن أوروبا.

طبعاً هذه الخلاصة غير صحيحة وغير دقيقة فلا يزال لتنظيم داعش وجود يضم آلاف المقاتلين في بعض مناطق غرب العراق في الأنبار وخلايا سرية نائمة في مدن عراقية في غرب وشمال العراق كان يسيطر عليها سابقاً، وفي  شرق سوريا في المنطقة الصحراوية الحدودية مع العراق، في بعض قرى ريفي الرقة ودير الزور وفي الجنوب في بعض قرى ريف حمص، حيث يقوم بهجمات وغزوات متفرقة في سوريا والعراق، ويشتبك خصوصاً مع الجيش السوري في البادية وفي الجنوب وريف دير الزور ويشتبك دوماً مع “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من التحالف الدولي بقيادة أميركا في ريفي الرقة ودير الزور، الخ.

لكن الخبر السار والجيد أنه لم يعد للتنظيم الإرهابي دولة ولا سيطرة على المدن في كل من سوريا والعراق بعد هزيمته على أيدي الجيش العراقي و”الحشد الشعبي وتحرير” مدن تكريت والموصل والأنبار وكركوك، وتحرير الجيش السوري وحلفائه مدن دير الزور وتدمر وريفي دمشق والسويداء ومخيم اليرموك والحجر الأسود، إضافة إلى المرتفعات الحدودية اللبنانية – السورية بين القلمون السوري والبقاع اللبناني بالاشتراك مع حزب الله والجيش اللبناني.

أما في ليبيا واليمن ومصر فقد تراجعت قوة التنظيم بعد سيطرة القوات المعادية لــ”داعش” في هذه الدول على معظم المدن والمناطق التي سيطر عليها خلال السنوات السابقة، لكن لم ينتهِ وجوده نهائياً فهو يقوم بهجمات إرهابية متفرقة في مصر وليبيا وخصوصاً ضد الجيش المصري في سيناء تحت مسمى قوات “بيت المقدس”.

ووقد حقق الجيش السوري تقدّماً جديداً في ملاحقة فلول التنظيم في عمق البادية، وأحكم سيطرته على الحدود الإدارية لريف السويداء الشرقي بشكل كامل، وذلك في إطار هجومه المتواصل على المنطقة الواقعة على بعد أقل من 50 كيلومتراً من مناطق سيطرة التحالف الدولي والفصائل المدعومة غربياً وأميركياً. وسيطر على تلال في منطقة بركانية في الجنوب يستخدمها داعش ملاذاً له يشن منها الهجمات على السويداء والجنوب السوري.

ومع اندحار التنظيم عن السويداء ومن قبلها القضاء عليه في ريف درعا الغربي، لم يعد لهذا التنظيم الإرهابي تأثير في جنوب سوريا، والذي يكتسب أهمية بسبب قربه من الحدود مع الجولان السوري الذي تحتله إسرائيل، ومع الأردن.

لكن يُتوقع انتشار عناصر “داعش” في البادية السورية، إذ لا يزال التنظيم يحتفظ بجيوب له فيها، خصوصاً في ريف حمص الشرقي وفي بادية دير الزور التي تتصل جغرافياً بصحراء الأنبار العراقية، حيث سيطرت القوات العراقية على قضاء القائم المقابل لمدينة البوكمال السورية، مما هيأ لفتح قريب للمعبر الحدودي بين البلدين على غرار فتح معبر نصيب بين سوريا والأردن.

وتقع محافظة السويداء إلى الجنوب الشرقي من العاصمة دمشق، وهي من المحافظات السورية صغيرة المساحة، إذ تبلغ نحو 5 آلاف كيلومتر مربع، ولها حدود جغرافية مع الأردن من ناحية الجنوب، فيما يحدها من الشمال ريف دمشق، ومن الغرب درعا، ومن الشرق البادية السورية، وصولاً إلى المثلث السوري الأردني العراقي. وبلغ عدد سكان السويداء التي يقطن فيها بدو سوريون إلى جانب أكثرية من الطائفة الدرزية، نحو 700 ألف نسمة عام 2011، إلا أن عدداً من سكانها، خصوصاً الشباب منهم، هاجروا إلى دول أوروبية إبان سنوات الحرب على سوريا، على غرار باقي مكونات الشعب السوري.

ويذهب بعض الباحثين إلى أن “داعش” بات لا يسيطر اليوم إلا على 2% من مساحة العراق، و1% من مساحة سوريا. لكن التنظيم قد جهّز نفسه ليوم ما بعد سقوط “الخلافة”، وفقدانه الدولة وأراضيها وعشرات آلاف المقاتلين ولمعظم قياداته، وفرار الكثير من الكوادر والمقاتلين إلى أوطانهم أو إلى دول آخرى في شمال أفريقيا والساحل الأفريقي وربما إلى بعض مناطق جنوب آسيا، وذلك بعد أن كانوا يتوافدون للانضمام على التنظيم من أصقاع العالم.

وعلى الرغم من أن الهدف الأساسي الذي ظهر من أجله التنظيم هو تأسيس دولة في معناها المادي وليس تنظيماً عابراً للحدود مثلما كان عليه الأمر بالنسبة إلى تنظيمات أخرى، وأيضاً اعتماده شعار البقاء والتمدد مما مكّنه من السيطرة على 90.800 كيلومتر مربع من الأراضي في سوريا والعراق، ولكن خسارته للأرض تعني أن التنظيم خسر أهم مكوّن من مكوّنات وجوده وهو الوجود على الأرض إضافة إلى تراجع موارده المادية. لذا فإنّ منطق الدولة انتهى ويعني ذلك أن هذه التنظيمات لا يمكن أن توجد إلا في إطار اللادولة، وأنها لا يمكنها أن تتمدد على أراضٍ تحكم سيطرتها عليها. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن ظاهرة “داعش” ستنتهي، فمن وجهة نظر بعض الخبراء والمحللين تبدو المجموعات التابعة لـ”داعش” جاهزة “لدولة إسلامية دون دولة”.

 

 

الصراع الفكري أفضل وسيلة للقضاء على الفكر المتطرف

على الرغم من تشكيل التحالف الدولي لمواجهة تنظيم “داعش” عسكرياً والذى يتكون من حوالى 50 دولة، إلا إنه لا يمكن أن يتم القضاء على “داعش” وأخواتها من “جبهة النصرة” والجماعات الجهادية السلفية التكفيرية الأخرى، باستخدام الأساليب العسكرية فقط، فضرب هذه التنظيمات الإرهابية في مكان ما لا يحول دون ظهورها في مكان أخر. كما أن المواجهة العسكرية تكلفتها المادية والبشرية هائلة، وأفكار هذه التنظيمات الإرهابية انتشرت بشكل كبير ولها تأثير بالغ على الكثير من الأفراد من الفئات العمرية المختلفة، وخصوصاً الشباب الذي يعاني من الاغتراب. ولذلك لا بد من مواجهة ثقافية وفكرية للإرهاب، لاسيما أنّ تنظيم “داعش “يعتمد كثيراً على الاعلام ويسميه بـ”الجهاد الإعلامي”.

والحركات الإسلامية المعتدلة مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى لخوض الصراع الفكري والثقافي ضد التنظيمات الإرهابية والتكفيرية، حتى تمنع دعاة الفكر الدموي من اختطاف الإسلام وتقديمه للعالم كدين تطرّف وكراهية وإرهاب. فثمة ضرورة أن يجري التصدي للفكر الداعشي الإرهابي على أسس فكرية وعلمية، من خلال فتح الباب أمام الإصلاحيين والإسلاميين المعتدلين لتفكيك هذا الفكر وكشف عيوبه وإبعاد الناس عنه، استناداً إلى قاعدة تقول إن “الإسلام المتطرف هو المشكلة، والإسلام المعتدل هو الحل”.

لكن بعض الباحثين والمفكرين العرب والغربيين يرفضون ذلك ويرون أنّ الإسلام السياسي يؤدي إلى ظهور حركات متطرفة منه، لكن المرجعية الفكرية التي ينهل منها هؤلاء الإسلاميون، وإن كانت واحدة. إلا أنها تختلف على مستوى الفهم والاجتهاد والتطبيق والممارسة، فهي موزعة على أكثر من مسار وصعيد، ففي الخط السلفي وحده يميّز الباحثون في الشأن الديني، بين الخط السلفي التقليدي والخط السلفي الحركي والخط الجهادي وهكذا.

ومن المفكرين الغربيين الذين نظروا لهذه الفكرة، أذكر جون سبوزيتو، الذي حذر في مقال له كتبه بعد الأحداث الدامية للحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، تحت عنوان “الإسلام السياسي والسياسة الخارجية الأمريكية”، من خطورة الدمج بين الإسلاميين المعتدلين والإسلاميين المتطرفين، مؤكدا أنّ الاختلافات القائمة بين الفريقين حقيقية ولا يمكن القفز عليها، بل إن المسؤول السابق في شعبة “الإسلام المتطرف” بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، غراهام فولر، ذهب إلى أكثر من ذلك عندما حذر من استبعاد الإسلاميين المعتدلين من أيّة عملية تحوّل ديمقراطي في العالم العربي، وقال بأنّ ذلك لن يعود بالفائدة إلا على المتطرفين.

ويعتبر الموقف من الديمقراطية وحقوق الإنسان والبرلمان ومن المشاركة السياسية عموماً الحد الفاصل بين ما هو معتدل وما هو متطرف.

ويعتقد الخبراء في مقاومة الارهاب الدولي أنّ التركيز على المواجهة الأمنية والعسكرية وحدها لا تكفي، وإنما يجب أن تمتد المواجهة على جميع الأصعدة، وأن تشمل في البداية الجانب الثقافي الديني من خلال العمل على مقاومة الفكر الجهادي بالفكر المعتدل الوسطى وإجراء تحليل ثقافي معمق لظاهرة الإرهاب، لأن الطرق الأنسب لمواجهة “داعش” و”القاعدة” وأخواتهما، تتمثل في رفع الوعي الثقافي الديني في المجتمعات العربية، وإصدار قانون مكافحة الإرهاب، وتكوين جبهة عربية فكرية قوية صلبة عمادها وزارات الأوقاف والشؤون الاسلامية العربية لمواجهة الإرهاب وتبادل الخبرات والعلم والدعاة عبر المؤسسات الدينية الرسمية، أي المواجهة الثقافية.

 

معركة تحرير إدلب

بعد تحرير المنطقة الجنوبية – درعا والقنيطرة وبادية السويداء – حيث تجرعت فيها الجماعات الإرهابية التكفيرية أبرز خسائرها وانتكاساتها السريعة، تبقى محافظة إدلب تحت سيطرة الإرهاب الأسود الجاثم على كاهل أهلها وترابها منذ أكثر من ثلاث سنوات ونيف، حيث تؤجل مراراً المعركة للقضاء على تنظيم “جبهة النصرة” الإرهابي، نتيجة التدخل التركي والتوافق الروسي – التركي – الإيراني على إيجاد مخرج سلمي لمدينة إدلب يجنّب المدينة وأهلها سفك الدماء وتهجير مئات الآلاف منها.

وتتمركز في محافظة إدلب الجماعات الارهابية المتنوعة، وأبرزها تنظيم “جبهة النصرة” الذي يمثل فرع “القاعدة” في سوريا، إضافة إلى خليط كبير من الجماعات التكفيرية ذات الولاءات المتعددة والمختلفة فيما بينها لدرجة التصادم والاقتتال.‏ وعلى الرغم من أن تركيا تمر بمرحلة صعبة في علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب من جهة، ومع الدول الخليجية وبخاصة السعودية والإمارات من جهة أخرىـ فإنها لا تزال تراهن على “جبهة النصرة” والجماعات الأخرى المنتشرة في إدلب، للإبقاء على نفوذها داخل سوريا، كما فعلت شمالاً عبر ما يسمى قوات “درع الفرات” وعملية “غصن الزيتون” التي اجتاحت من خلالها منطقة عفرين معتمدة مجموعات سورية مسلحة تعمل تحت إمرتها.

ملء فراغ “داعش”

ما يجري اليوم هو صراع دولي – إقليمي لملء الفراغ الذي ستتركه دولة “داعش” في العراق وسوريا، وخصوصاً في شرق سوريا حيث تتمركز قوات أميركية في عدد من القواعد في المناطق التي يسيطر عليها الكرد، كقاعدة التنف، في محاولة من أميركا لمنع قيام طريق بري قصير بين سوريا والعراق عبر مثلث التنف يربط إيران بسوريا ولبنان. وقد دخلت إسرائيل على خط الحرب السورية من خلال اعتداءاتها الجوية على مطارات وقواعد عسكرية في سوريا كي تمنع التمركز الإيراني في قواعد تهدد كيانها ومستوطناتها، في محاولة لفرض معادلة جديدة ومنع ترسيخ التواجد الإيراني العسكري في سوريا. وتحاول إسرائيل إقناع الروس بتولي إيجاد مخرج مع الحكومتين السورية والإيرانية يقضي بانسحاب الإيرانيين في مقابل وقف اعتداءاتها وقبولها بعودة سيادة حكومة الرئيس بشار الأسد على سوريا بأكملها. لكن موسكو التي قد تغريها هذه المقايضة الإسرائيلية التي قد تفتح لها باب التسوية مع واشنطن ورفع العقوبات عنها غير قادرة على تنفيذها لانعدام الإمكانات والأدوات.

 

النص هو محاضرة ألقيت في مؤتمر جامعة العلامة الطباطبائي في طهران في تشرين الثاني – نوفمبر 2018.

 

Optimized by Optimole