سياسة حركة حماس ما بين الثابت والمتغير

سياسة حركة حماس
Spread the love

بقلم: د. عقل صلاح* — تعود الأصول التاريخية لحركة حماس إلى جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين التي تأسست على يد الشيخ الشهيد أحمد ياسين، والتي كانت فرعًا من أفرع حركة الإخوان المسلمين في مصر التي أسسها الشيخ الراحل حسن البنا عام 1928. وتوضح “حماس” صلتها بجماعة الإخوان المسلمين في المادة الثانية من ميثاقها بأن “حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين، وحركة الإخوان المسلمين تنظيم عالمي، وهي كبرى الحركات الإسلامية”.
لقد بدأت حركة حماس كحركة دعوية إجتماعية هدفها نشر الهوية الإسلامية بين الأجيال الشابة من خلال الحلقات والندوات الدينية في المساجد، وخلال هذه المرحلة من عمر الحركة لم تمارس أي عمل مقاوم ضد الاحتلال الصهيوني، وإنما كانت منشغلة بالحشد والتعبئة وبناء مؤسساتها، ومن ثم تطور عملها مع اندلاع الإنتفاضة الأولى لتنخرط في العمل العسكري أسوة بباقي فصائل المنظمة وحركة الجهاد الإسلامي.
ومن ثم أصبحت “حماس” قوة أساسية على ساحة المقاومة الفلسطينية منافسة للتنظيمات الفلسطينية الأخرى، مما غيّر من نظرة المجتمع الفلسطيني لحركة الإخوان التي ظلت عازفة لمدة عقدين من الزمن عن الجهاد ضد الاحتلال الصهيوني.
فيما عرفت “حماس” نفسها في الوثيقة السياسية “وثيقة السياسات العامة” التي أصدرتها في الأول من أيار/مايو2017 في باب التعريفات من الباب الأول في البند الأول بأنها “حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها السامية”، لاغية في تعريفها هذا ارتباطها الفكري والتنظيمي بحركة الإخوان المسلمين الأم.
ومن هذا يتضح، أن “حماس” حذت حذو حزب النهضة التونسي والفكر الجديد للشيخ راشد الغنوشي الذي فك ارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين المصرية التي فشلت فشلًا ذريعًا في الحكم. ولعل فك “حماس” ارتباطها بجماعة الإخوان جاء نتيجة للعديد من الضغوط الذاتية والموضوعية وأهمها: إغلاق المنفذ الوحيد للقطاع، وسياسة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تجاه القطاع.
علاوة على ما سبق، قدمت “حماس” تنازلات واقعية بناء على التغيّرات الإقليمية من أجل تكييف علاقاتها مع الخريطة الجديدة للشرق الأوسط، فالمتتبع لمسيرة “حماس” السياسية يلحظ مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الثابت في مسيرتها هو المصلحة الحزبية، على اعتبار أن سياستها منبثقة من الإسلام، بينما يظهر أن المتغير هو ما قيل عنه ذات يوم، إنه من الثوابت والاستراتيجيات التي لا تساهل فيها، ولا حياد عن أصولها. لكن الأحداث والتحالفات والاصطفافات السياسية في الوطن العربي ما بعد ما أطلق عليه “الربيع العربي” تظهر بوضوح تذبذباً سياسياً واضحاً في موقف “حماس” وولاءاتها واصطفافاتها، ما يدفع إلى الاعتقاد أن “حماس” تنتمي إلى مشروع سياسي تغلب عليه المصلحة والتعاطي مع كل فرصة تخدم ذلك المشروع السياسي، بصرف النظر عن مدى مشروعية تلك الفرص وانسجامها مع الثوابت الأساسية، والمعتقدات الدينية التي تضبط إيقاع برنامجها السياسي، وتحالفاتها وعلاقاتها ومواقفها المتعددة.
في هذا السياق، أوضحت مسيرة حركة حماس بجلاء مدى البراغماتية التي يتسم بها السلوك السياسي للحركة، وقدرتها على تطويع المبادئ لصالح ما تراه مفيداً لها في لحظة معينة، ومن مظاهر ذلك قبولها بدولة على حدود عام 1967 والتخلي عن علاقتها التنظيمية مع حركة الإخوان المسلمين الأم.
لقد أصبحت حركة حماس أمام خيارات جديدة بعد وصولها إلى سدة الحكم وتعرضها للحصار المطبق، مما وضعها بين خيارين إما استمرارها بالتشدد الأيديولوجي أو التأقلم مع وقائع الحكم. ولكنها فضلت تطويع أيديولوجيتها لتفتح نافذة الولوج إلى الخارج وبناء علاقات مع مصر والمجتمع الدولي، متخلية بشكل كلّي عن الميثاق وعن ارتباطها الوثيق بحركة الأخوان المسلمين.
وعلى نفس المنوال، تجاوزت “حماس” نصوص الميثاق من خلال مشاركتها في النظام السياسي الفلسطيني القائم على أساس اتفاقية أوسلو، ومن خلال تصريحات وممارسات قادتها. فقد دعا عدد من قيادات الحركة إلى تغيير الميثاق في بداية التسعينيات من القرن الماضي، أي قبل مشاركة الحركة في انتخابات المجلس التشريعي الثانية.
أضف إلى ذلك، بخصوص علاقتها بمنظمة التحرير، أوردت المذكرة التعريفية أن الحركة لا مانع لديها من الانضمام إلى المنظمة على أساس التزامها بالعمل على تحرير فلسطين، وعدم الاعتراف بالعدو الصهيوني وإعطائه شرعية الوجود على أي جزء من فلسطين. لقد تنازلت الحركة عن الجانب الأيديولوجي المتعلق بإسلامية منظمة التحرير كشرط للانضمام لأطرها، حيث بدأت الحركة في هذه المرحلة بتغليب السياسي على الأيديولوجي.
أما بخصوص الموقف الجديد لـ”حماس” من منظمة التحرير الذي أوضحته الوثيقة الجديدة في البند التاسع والعشرين بأن “منظمة التحرير الفلسطينية إطار وطني للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه، مع ضرورة العمل على تطويرها وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية، تضمن مشاركة جميع مكوّنات وقوى الشعب الفلسطيني، وبما يحافظ على الحقوق الفلسطينية”.
وفي الوثيقة الجديدة، أكدت الحركة في الجزء الأول من البند العشرين على أنه لا تنازل عن أرض فلسطين من نهرها إلى بحرها. وفي الجزء الثاني من نفس النقطة توافق “حماس” على إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران – يونيو لعام 1967 تحت مسمى صيغة توافقية مشتركة. على الرغم من أن ميثاق “حماس” السابق بين موقفها من القضايا المختلفة وأهمها الحق الإسلامي في فلسطين الكاملة وليس في الأراضي ضمن حدود عام 1967 فقط. بررت “حماس” اعترافها بدولة ضمن حدود عام 1967 بأنها لا تريد الوقوف في طريق الاجماع الفصائلي، فقد حملت مسؤولية قبولها بهذه الحدود لمن سبقها في الموافقة عليها.
يقودنا كل ما سبق، إلى أن خطوة “حماس” في الإقرار في حدود عام 1967 هي بداية الاعتراف العلني بـ”إسرائيل”، ومن ثم التفاوض المباشر معها، وهذا ما تؤكده جملة تصريحات لقادة الحركة، وعلى رأسهم خالد مشعل رئيس المكتب السياسي السابق. ففي تصريح لمشعل في عام 2008 بيّن فيه أن “حماس” تقبل بدولة على حدود عام 1967 ، وأن هناك محاولات إسرائيلية لفتح قنوات اتصال مع الحركة.
تشير المعطيات إلى أن “حماس” مرشحة لأن تمر بذات المراحل النضالية والسياسية التي مرت بها حركة فتح من حيث الصلابة السياسية والعسكرية في سبعينيات القرن العشرين، والتي أخذت تتآكل مع مرور الزمن والتغيّرات السياسية المحلية والإقليمية حتى وصلت إلى حد التعاطي أو القبول مع الأمر الواقع، فعملت على تجيير منظومتها الفكرية لتنسجم مع التحولات الجديدة. كما تشير المعطيات إلى أن “حماس” تسير بخطى سريعة نحو التعاطي مع الواقع المحيط، والمستجدات السياسية المتلاحقة مما يؤهلها لأن تتبوأ المكانة السياسية التي تتبوؤها حركة فتح. فقد انتهت حركة فتح بالمعنى القديم، وستنحو “حماس” مستقبلًا منحىً أكثر براغماتية يحل فيه السياسي مكان الأيديولوجي بشكل كامل، فالمستقبل لحركة حماس. ومن المتوقع أن تقوم حركة حماس، بناءً على ما آلت إليه الوقائع الجديدة، بـالخطوات الآتية، وخوض انتخابات تشريعية ورئاسية، وتأييد الحل السلمي عبر قيام دولة فلسطينية على المناطق المحتلة عام 1967، والتفاوض مباشرة مع “إسرائيل”.
وهذا عائد بالدرجة الأساسية إلى قدرة “إسرائيل” على استغلال هذا التحول الحمساوي، وتهيئة الفرص السياسية لإنجاحه بحكم أن “إسرائيل” هي ذاتها التي لم تساعد حركة فتح رغم كل ما قدمته من تنازلات ذات آثار عميقة في الواقع السياسي الفلسطيني. فقد أثبتت حركة حماس قدرتها وبجدارة منذ نشأتها على قراءة الواقع السياسي قراءةً صحيحةً وإدراكها للفرص المتاحة أمامها على الرغم من بعض الأخطاء التي ارتكبتها.

*كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.

Optimized by Optimole