سياحة في عالم المعنى.. في حضرة جلال الدين الرومي

Spread the love

بقلم: د. عبدالجبار الرفاعي – خاص بمركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط |

أمضيت أياماً في إسطنبول عام 2010 للمشاركة في ندوة تناولت أثر “الإصلاح الديني في التنمية السياسية”. اسطنبول مدينة موحية، تتجلى فيها هيبة وشموخ وعزة الإسلام، تضم أكثر من ألفي مسجد، معظمها يعود الى العصر العثماني. تلك المساجد مدهشة، تنطوي على فرادة وإبتكار وإبداع في نمط عمارتها. أروع ما تفصح عنه هذه المدينة انها مرآة الشرق في الغرب ومرآة الغرب في الشرق، مناخاتها الإسلامية الفواحة فجرت المكبوت من أشواق الروح وذكرياتها، فطلبت من صديقي مراد ولي، وهو دليل سياحي تركي، خبير بتاريخ الدولة العثمانية، أن يدلني على خانقاه المتصوفة المولوية في اسطنبول. وسألته هل عاد المولوية الى مجالس الذكر الخاصة بهم، بعد أن أغلقها أتاتورك، هذه المجالس المصحوبة بالموسيقى، والإبتهالات، والرقص الصوفي على أنغام الناي؟ فهاتف مراد أحد زملائه الذي أخبره بوجود ملتقى للمولوية في معظم أيام الأسبوع، يجري فيه كل ذلك. وحدد العنوان في منطقة (سركه جي) القريبة من جامع السلطان أحمد وآيا صوفيا.

الأسفار الأربعة تتجلى روحيا وجماليا في السلامات الأربعة:

ذهبت في الليلة التالية الى خانقاه المولوية، المبنى أثري يعود للعصور الوسطى، حافظوا على نمطه التقليدي، توافد عليه عشرات الناس، معظمهم من الشباب، إناثاً وذكوراً، ينتمون الى إثنيات متعددة، ما خلا العرب. بدأ المشهد الساعة السابعة والنصف مساءً، بموسيقى دينية، تعزفها فرقة ترتدي لباساً مميزاً يتصل بمضمون الموسيقى، ضمت الفرقة عازفتين من بين مجموعة رجال، تناغمت مع أوتار العازفين ألحان أذكارهم، بالتركية تارة والعربية تارة أخرى، ثم خرج من الباب الخلفي عدد من الشباب يمشون بخطى واثقة، يكللهم صمت هادئ، يبوح بلغة لا نفهمها، تبعث الخشوع والطمأنينة في النفس. جلست فيما يشبه المسرح المحاط بحلقات دائرية للحاضرين، الأنوار خافتة، بدا المشهد رؤيوياً يفوح بالمعنى، يتداخل فيه الجمال بالجلال. حينما اصطف الدراويش على شكل هلال، أدُّوا حركات تجسد صورة مدهشة لمسرح الجسد الروحي، حركات تحاكي الركوع والسجود والصلوات. تحدثت فتاة مسؤولة عن تنظيم وإدارة المكان، قبل العرض، باللغة الإنجليزية، فقالت: ينبغي أن يلتزم الحاضرون الصمت، ويكفُّوا عن أية محاولة للتصوير، أو التصفيق، أو الضوضاء. وكأنها تنبهنا الى أننا في مجلس للذكر، وأن هذه الجماعة تمارس طقساً صوفياً مشبعاً بالمعنى، وتدعونا لفهم لغتهم وتعبيراتهم، والتأمل في وسائلهم للتواصل مع عوالم الغيب، وتساميهم وتجردهم من دنيا المحسوس الى الشهود والكشف الملكوتي، وارتواء ظمئهم الأنطولوجي للمعنى، في عالم تفتقر فيه حياتنا لما يخلع عليها معنى!

بعد سلسلة من الإيماءات والحركات الموحية استغرقت خمس عشرة دقيقة تقريباً، عادت المجموعة من حيث أتت، وخرجوا علينا مرتدين ثياباً بيضاء، واسعة فضفاضة من أسفلها، أطلوا علينا وكأنهم ملائكة الرحمة، تعالت أنغام فرقة العزف وابتهالاتها، بألحان تتناغم مع المشهد المضيء للدراويش، الذين انخرطوا واحداً تلو الآخر في حركات دائرية تتسارع بالتدريج، تشرع فيها الأيدي نحو السماء، في ضراعات مستسلمة للحق، وطامحة للاغتراف من معينه الذي لا ينضب. إنهم بمثابة ما رسمه مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي ورفائيلو، من صور للملائكة وهي تطير نحو الملكوت الأعلى. تتابعت الرقصات في أربع جولات، كل واحدة منها ترمز لسلام. الرقصة الأولى ترمز الى السلام الأول، وهو يعبّر عن إدراك الإنسان لعبوديته لله تعالى، فيما تعني التي تليها السلام الثاني، أي الشعور العميق بعظمة الحق وجلاله. أما الثالثة فتدل على السلام الثالث، وهو شهود جمال الحق ومن ثم عشقه، إنها سياحة من نوع الهيام والوجد في جماله، والجولة الرابعة من الرقص تعني السلام الرابع، وهي تفضي الى انقياد العاشق التام لمعشوقه، بمعنى عودة الإنسان الى وظيفته الكامنة في خلقه باستسلامه وعبوديته للحق. استمر المولوية لمدة ساعة بجولاتهم ورقصاتهم المدهشة، وسكراتهم الروحية.

ساد محل العرض الخشوع، حين تناغمت ألحان وأذكار وموشحات الفرقة الموسيقية، فاتصل إيقاعها مع السلامات الأربعة أو الرقصات الأربع للمولوية، وأكاد من فرط انفعالي وتأثري حتى هذه اللحظة، كلما تداعى إليّ المشهد ينتابني انشراح وابتهاج وتسامٍ.

تسمى الحركة الدائرية للمولوية بـ”رقصة السماح”، ولعلها تحريف للسماع الذي يقترن عادة بها، أي يستمع الأذكار والمواجيد، يستسلم فيها المولوية بضراعة وخشوع للحق، باسطين أيديهم، ترمز اليد الأولى في إشارتها للسماء الى الجنة، فيما ترمز الثانية في انخفاضها نسبياً عنها الى الدنيا. و”السماح” ارتياض خاص يهدف لاكتشاف خلود الروح، والسعي لتحويلها الى روح عاشقة للحق، عبر الاستغراق بالذكر والموسيقى والرقص، وخلق فضاء شفاف تهيمن عليه كيمياء معنوية، تعمل على تسامي وإشراق الروح، بنحو تصبح مرآة يتجلى فيها العالم بتمامه، فإن “العالم عندما خلقه الله كان شبحاً لا روح فيه، فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة”، حسب الشيخ محيي الدين ابن عربي.

جوهر العرفان والتصوف واحد، وإن تغايرت لغاته، وتعددت رموزه، واختلفت رسومه، فما شاهدته في السلامات الأربعة يتماهى مع رؤية الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي للأسفار الأربعة، عندما يرحل السالك فيها من العالم السفلي الى العالم العلوي، فيسافر في قوس الصعود من عالم المادة، لتنتهي رحلته الى الحق تعالى، وهي رحلة روحية إرتقائية تكاملية، يطوي فيها السالك الى الحق أربعة أسفار في مدارج تكامله المعنوي، يمر عبرها بعدة منازل، ويرتقي من مرحلة الى مرحلة أخرى، يتصاعد من الدنيا الى ما هو أسمى وأكمل من السابقة، وهكذا حتى يصل الى غايته التي هي منتهى كل غاية، وهو الحق سبحانه. وهي الأسفار التي نسج في إطارها الفيلسوف صدر المتألهين الشيرازي المعروف بملا صدرا ترتيب كتابه (الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة) طبقاً لمراحل السير السلوكي والآثار العملية للعرفاء، مما يعني تقسيم الكتاب الى أربعة أقسام، كل قسم يمثل سيراً علمياً نظرياً يوازي السير العملي للعارف. السفر الأول (من الخلق الى الحق)، أما السفر الثاني فهو (من الحق الى الحق بالحق)، فيما يكون السفر الثالث (من الحق الى الخلق بالحق)، وتختتم الأسفار بالسفر الرابع (من الخلق الى الخلق بالحق).

يخيل لي بعد أن رأيت الطقوس الروحية للمتصوفة المولوية، أنهم يجسدون في طقسهم الصياغة النظرية للأسفار الأربعة حركياً وشعائرياً، من خلال السلامات الأربعة، حين تتوهج أرواحهم وتشتعل أحاسيسهم حتى تصل حالة السكر. فالسلامات الأربعة للمولوية، وهكذا الأسفار الأربعة لملا صدرا، كلها تصدر عن مرجعية واحدة، تحيل الى محيي الدين بن عربي، وميراثه العرفاني الرؤيوي الشاسع.

الحركات الدائرية في السلامات الأربعة تحاكي الحركات الدائرية الفلكية، المولوية فيها يحاكون إيقاع تسبيح كائنات الطبيعة، ويتناغمون مع وجهتها، بغية التواصل الحي والالتحام العضوي بما حولهم، وبالتالي الارتقاء في مدارج الصعود الى العالم الربوبي، وشهود الحق.

مولانا جلال الدين الرومي:

ذاكرة اسطنبول الإسلامية، وآثار التصوف ومناخاته الشائعة في تركيا، وحضوري مجلس المولوية، وموسيقاهم ورقصاتهم المضيئة، هذا الطقس الجميل البهيج، الغريب علي، فكثير من الطقوس التي شهدتها في حياتي اقترنت بالتراجيديا والحزن والدموع، وحظركافة التعبيرات الجمالية. كل ذلك أوقد أمنية قديمة طالما هاجت في نفسي كلما تذكرت “قونية”، وهي زيارة مرقد جلال الدين الرومي، الذي يسميه مريدوه الأتراك “مولانا”، ويسمى في بلاد فارس “مولوي”، ويعرف أيضا في أفغانستان “البلخي”، وفي أوروبا والغرب “الرومي”. والرومي نسبة الى بلاد الروم، حيث عاش معظم حياته في “قونية” عاصمة سلاجقة الروم.

ولد مولانا جلال الدين محمد بن بهاء الدين محمد بن حسين الحسيني الخطيبي البكري في بلخ، المقاطعة التابعة الآن لأفغانستان، يوم 6 ربيع الأول 604هـ الموافق 30 سبتمبر 1207م، وغادرها بمعية أبيه بعمر يقارب الثلاث سنوات، هرباً من الغزو المغولي، واستقرت عائلته في بداية الأمر في نيشابور، وفيها تعرف ـ كما يقال ـ مولانا على الشاعر الفارسي فريد الدين العطار، الذي أهداه ديوانه (أسرار نامه)، ولعله أثّر في تغذية نزعته الصوفية باكراً، وغوصه في التأمل الروحي، ودفعه للاستغراق في المتخيل الشعري الوجداني. غادر بمعية أبيه وعائلته نيشابور الى بغداد، ومكث أبوه في المدرسة المستنصرية، لكنه لم يستقر طويلا، فغادر الى مكة، وهناك لقب بـ(جلال الدين)، ومنها الى الشام، التي أمضى فيها سبع سنوات، وفيها توفيت والدته، وأخيراً وفد الى قونية، بمعية والده، حين دعا الحاكم السلجوقي للأناضول علاء الدين كيقباذ والده لإدارة مدرستها، سنة 1228م. مضافاً الى تعلّم مولانا على يد أبيه، درس التصوف والمعارف الإسلامية لمدة 9 سنوات عند سيد برهان الدين محقق. وبعد وفاة الأخير في عام 1240م، توجه الى دمشق ومكث فيها أربع سنوات؛ ينتهل من أعلامها، ويغذي تأملاته الوجدانية في حواضرها العلمية، ومجالاتها التأويلية الخصبة، المشبعة بما أفاضه الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في ذلك العصر، من رؤية لاهوتية، وآفاق فسيحة للمعنى. وبعد أن نضجت تجارب مولانا، وتراكمت خبراته، وغاص في عوالم المعنى، عاد ليمضي ما تبقى من حياته في قونية، ومكث فيها حتى وفاته في 5 جمادى الآخرة 672هـ الموافق 17 ديسمبر 1273م.

المنعطف الأهم في المسار الروحي لمولانا هو لحظة لقائه بالمتصوف المتدروش المتجول شمس الدين التبريزي، وارتباطهما بعلاقة حميمة، فأضحى بعد فترة وجيزة متيماً بشمس؛ فتسارع اشتعال فؤاده بالعشق، وسطع وجدانه بمشاعر رقيقة، تدفقت بها عواطفه، وأضاءت عالمه الجواني الباطني، دفن أشواقه بشعره، فصاغ أرق أناشيد وألحان العشق والوجد والهيام على مر العصور.
بعد أربع سنوات وقعت فتنة في “قونية”، راح ضحيتها علاء الدين ابن جلال الدين، كذلك قتل شمس الدين التبريزي في ظروف غامضة كما يقال، فاشتد حزن مولانا واحترق وجدانه. ووقع ما أفاضه من شعر بعد ذلك باسم “شمس تبريز”، وظل شمس ملهمه الأبدي حتى نهاية حياته. نظم تخليداً لذكراه 36023 بيتاً، و1760 رباعية، ضمها ديوانه الكبير، المعروف بـ(ديوان شمس تبريز).

كما نظم “المثنوي المعنوي” في 25649 بيتاً، ويعبّر عنه أحياناً “صيقل الروح”، وهو عمل مكثف لامع، من أغزر منابع إلهام إنتاج المعنى في الميراث البشري. يضم “المثنوي” ستة دفاتر، هي بمجموعها دائرة معارف غنية، تشتمل على رؤى عرفانية، مفاهيم أخلاقية، قيم جمالية، مقولات إنسانية، أناشيد للحب والوجد والهيام، سمفونيات عاشقين، مسالك وأساليب للارتياض الروحي، لوحات لابتسامة الله ورأفته ورحمته، تأويلات للقرآن والحديث،… وغيره. كل ذلك أفاضته المخيلة الشعرية لمولانا، بتعبير ميسر، لكنه رؤيوي، وأسلوب سهل ممتنع، يلامس وجدان وضمير كافة البشر، ولا يقتصر على النخب منهم. إنه مدونة متميّزة في تأويل النصوص المقدسة، عبر استلهامها وتمثلها روحياً، وسكبها في تجربة دينية ذات فرادة، والتحدث عن هذه التجربة، بكلمات وأمثال وحكايات، مستقاة من حياة الناس.

“المثنوي” كتاب في التفسير والتأويل على غير الأنساق المتداولة في ذلك، ذلك أنه يعيد صياغة استشراف آفاقٍ جديدة للدين ونصوصه، تنتج للحياة البشرية معنى، تفتقده المصنفات الأخرى في هذه المجالات، وتفيض على الإنسان وعياً إيجابياً وأحلاماً متفائلة، تنقذه من التشاؤم والنصوصية الضيقة.

من هنا ينشد الجامي، وهو من أبرز شعراء العرفان بالفارسية، في توصيف مولانا وكتابه “المثنوي، ما ترجمته:

هو ملك عالم المعنى برهان ذاته المثنوي

لا أستطيع وصف ذلك العظيم ليس نبياً، غير أنه صاحب كتاب

اخترق مولانا الزمان والمكان، وخلده عشاق الملكوت وعوالم ما وراء المادة، وارتبطت به أجيال من مختلف المذاهب والفرق والأديان والإثنيات، وذوي التجارب الدينية بكافة ألوانها وتعبيراتها، والمتصوفة خارج اطار الأديان، مما دعا منظمة اليونسكو لاعتبار 2007 عاماً دولياً للاحتفال بمناسبة مرور 800 سنة على ولادة مولانا. وورد في وصفها لجلال الدين، في بيانها بهذه المناسبة: “إنه كان ولا يزال أحد المفكرين والعلماء الكبار الذين أثروا الحضارة الإسلامية. هو شاعر عالمي، إذ تعتبره الشعوب في كل من أفغانستان وجمهورية إيران الإسلامية وتركيا شاعرها. كان في شعره يخاطب البشرية جمعاء”.

في حضرة مولانا:

في الثامنة صباح الأحد 5- 12- 2010 وصلتُ مطار “قونية” قادماً من اسطنبول، كانت صورة رقصة الدراويش المولوية هي رمز يرتسم حيثما ذهبت في هذه المدينة، إنها بصمة وشعار “قونيه”، رافقت على متن الطائرة زواراً من جنسيات وبلدان وأعراق متنوعة، ذهب أغلبنا الى ضريح مولانا، لافتات صور المتصوف المولوي الراقص تواكب مسارنا على طول الطريق الممتد من المطار الى ضريح مولانا، وجدت نفسي للمرة الأولى أمام نموذج مختلف للطقس، يتقاطع مع ما تعلمته في الدرس الفقهي، ومع تديّن تتصاعد فيه أشواق الروح، وتتناغم مع إيقاع تسبيح أوتار المخلوقات جميعاً. لمحت قبة خضراء تحاكي القبة الخضراء في المدينة المنورة على قبر رسول الله (ص) ، غير أن لهذه القبة طرازاً يجمع بين المنارة والقبة، لم أرَ مثلها من قبل. دخلت الصحن الذي يحيط بضريح مولانا، من باب خلفي، في المحل الذي توقفت فيه السيارة، كان الباب مغلقاً، فوقفت برهة متسائلاً عن بوابة الدخول، بادرت سيدة متوسطة العمر عليها سيماء الصالحين، وجهها متفائل منير، مبتسمة للحياة، لم يشغلها الذكر والتسبيح عن مساعدتي، فسارعت لفتح الباب، ولم تطلب مني الدخول من الباب الآخر الخاص بالزائرين لبُعده، ثم انصرفت، تدعو لي بعبارات دافئة رقيقة، تستلهم ضراعات ومواجيد وأذكار المرتاضين. دخلت الضريح مع جمهور غفير من النساء والرجال، شباباً وشيوخاً، خطت على بابه أبيات بالفارسية، تقول: “أنت هنا في كعبة العشاق، وما يهب الناقصين كمالهم”، كأني أقرأ مصطلح (كعبة العشاق) للمرة الأولى في حياتي، بالرغم من شغفي بالموروث العرفاني والصوفي وعودتي إليه باستمرار، إلا أنني أحسست بصوت يستفيق في داخلي، يحدثني عن أنني في هذه اللحظة اكتشف تلك القراءة للدين وتجسيده العملي الذي تفتقر إليه مجمعاتنا، فهم للدين يتسامى به الى تجربة فريدة للوصال والوجد. طالما شاهدت أمثلة لذلك في التاريخ، كلما قرأت الحلاج والبسطامي ومحيي الدين بن عربي وغيرهم، في هذه اللحظة أعثر على مواطن العاشقين، وأتلمس آثارهم، وأتحسس مواجيدهم، واستمع أنغامهم وألحانهم، وأشم عبيرهم، وأقترب من مائدتهم، وأنزل ديارهم.

كل شيء في داخل الضريح يحافظ على طابعه القديم، وبساطته وتجريده، قبر مولانا يكلله غطاء تتعانق فيه مجموعة ألوان، تُحيلنا الى الألوان المتداولة لدى المتصوفة، تعلوه قلنسوة، تماثل ما كان يرتديه في حياته، وتحيطه مجموعة قبور صغيرة، لأبنائه وبعض مريديه وتلامذته. كتب على ضريحه بيت من الشعر بالفارسية، يقول:

يا من تبحث عن مرقدنا بعد شدِّ الرحال قبرنا يا هذا في صدور العارفين من الرجال

كلما تقدمت خطوة نحو ضريحه خنقتني العبرة، وحين وقفت أقرأ له الفاتحة أجهشت بالبكاء، لا أعرف لماذا؟

ما علمت أنه ليس البكاء حزناً، لا سيما أن مولانا يوصينا بالابتعاد عن الحزن، فإن: “من يستبد به الحزن لا ينال مائدة الحق”.

فضاء المرقد فطري عفوي رؤيوي ملهم، نغم الناي المتواصل فيه يملأ محيطه بسحر تضيق العبارات عن توصيفه. استفاق الكائن الميتافيزيقي في أعماقي، أدركني خشوع أضاء روحي، كأني شربت كأساً أشبعت ظمأي الى عالم المعنى، لم ينتجها التديّن الشائع في المجتمع الذي انتسبت اليه، مع أنني طالما تعطشت الى أمثالها في بحر التديّن الذي يغرق بلدي، لكن من دون جدوى، حتى كدت أفتقد روحي، لارتيابي في أن صورة التديّن التي أفتش عنها حلم بعيد المنال.

ضريح “مولانا” وهبني أملاً وحلماً وثقة بأن ما كنت أفتش عنه هو حقيقة وليس وهماً، وجدت صورة الحق الجميل، المعشوق، الرحمن الرحيم، الذي أكرم خلقه بمائة رحمة، “واحدة منحها لنا في الدنيا، فيما ادخر ما تبقى للآخرة”، حسبما يروي لنا العرفاء عن النبي الأكرم(ص).

المتحف المجاور لضريح مولانا عرضت فيه نسخ مخطوطة عديدة من “المثنوي المعنوي”، والديوان الكبير “ديوان شمس تبريز” لمولانا، ومصاحف، وأدوات ووسائل زهيدة يستخدمها المولوية في حياتهم، تعود الى فترات مختلفة. قرأت بتأمل شيئاً من صفحات مخطوطة المثنوي المعروضة وراء الزجاج، وكأني أقرأها للمرة الأولى في حياتي، لاحظت تكرار كلمات: عشق، عاشق، معشوق، ومرادفاتها، وما يفضي اليها من مداليل، مثل: حب، حبيب، محبوب، وصال…الخ. ورحت بعد عودتي من “قونية” أتفحص “المثنوي” وديوان “شمس تبريز”، فبهرني حضور هذه المفردات بشكل ملفت، رأيت مثلاً كلمة عشق تتوارد في بعض الأبيات مرات عديدة، وربما في شطر أو عجز البيت تكررت أكثر من مرة. لاحظت ذكرها مرات ثلاث في شطر البيت 32210 من الديوان الكبير. حينئذ أدركت لماذا اعتبر سعدي الشيرازي “مولانا” أهم شاعر غزل بالفارسية، وصنفه النقاد الخبراء بالأدب بأنه “شاعر الشعراء” .

إن “مولانا” اشتق مذهباً جديداً في تأويل الدين ونصوصه، يمكن تسميته بـ(مذهب العشق). مذهب تتغلب فيه الروح على القانون، ماهيته التراحم والمحبة، تتسع مدياته الإنسانية، بنحو يحرر البشرية من العدوان والتعصب، ويفتح آفاق التواصل والتفاهم بين مختلف المجتمعات. إنه عابر للأديان والثقافات، ليس نفياً للأديان أو مناهضة لها، وإنما تعبير عن المضمون العميق للأديان، إنه مرتبة متعالية من المعنوية والروحانية، تستوعب جوهر الأديان، وكأنه يحاكي ما يذهب إليه الشيخ محيي الدين بن عربي، عندما يعبّر عن ذلك بصراحة:

أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه أرسلت ديني وإيماني

دين يتأسس على الحب والعشق، ينشد الجمال والفن، تبدو تمثلاته في الرقص والموسيقى والسماع، ويسكبها في قوالب الطقوس والعبادات، فتغدو سلماً للوصال مع الحق، والمعروف لديهم أن “مدارج السالكين اليه بعدد أنفاس الخلائق”. ينأى هذا التديّن عن كل ما من شأنه أن يقود الى القتل والموت، ويسمم الحياة بالحزن، ويلوّث عوالم المعنى بالدم المسفوح. لذلك لا نعثر على دعوات للكراهية هنا، قد نجد من يشير الى كراهية الخطيئة، بيد أنهم لا يكرهون الخاطئ، وإنما يشفقون عليه. ذلك أن معتقدهم ينبثق عن (لاهوت الشفقة). لم يتحدث “مولانا” عن القتل، لم يطلب منا إعلان الحرب على الخطاة، ومن يختلفون معنا في المعتقد.

تمحورت رؤية “مولانا” للدين بالحب والعشق، أصبح العشق لديه القوة المحركة للحياة الروحية، والكيمياء السحرية التي تتحول بواسطتها مادة العناصر الخسيسة الى مادة نفيسة ثمينة، ينشد “مولانا” في المثنوي:

بالمحبة تصير الأشياء المرة حلوة

بالمحبة تصير الأشياء النحاسية ذهبية الصفات

بالمحبة تصير الأشياء العكرة صافية

بالمحبة تصير الآلام شفاء

وبالمحبة يحيا الميت

ويستعيد “مولانا” الروح الإنسانية الرقيقة لبعض المتصوفة، مثل رابعة العدوية، ولكن بأحاسيس أبعد مدى، عندما ينظر الى الشيطان بمشاعر عاشق، ويصف الأثر السحري للعشق وكيميائه في تحويل عناصر الأشياء وتبديل مكوّناتها، قائلاً:

لو صار الشيطان عاشقاً لاختطف كُرة السبق،

ولصار مثل جبريل وماتت فيه تلك الصفات الشيطانية[1]

كل عام يحتفل مريدو “مولانا” بما اصطلحوا عليه (ليلة العرس) وهي ليلة وفاته، فقد اجترحوا تقاليد بديلة للعزاء للاحتفال بهذه الذكرى سنوياً، واعتبروها بمثابة ليلة العيد، تبعاً لما صرّح به “مولانا”، من “أن ليلة وفاته هي ليلة عرسه”. إنها ليلة الوصال، ولقاء الحبيب بحبيبه.

يتوافد عشرات الآلاف من أتباع “مولانا” الى “قونية” في مثل هذه الليلة من شتى البلدان، يستمر الاحتفال لمدة ثلاث ساعات في مسرح واسع، تحضره شخصيات مهمة. في 17-12-2010 من هذا العام حضر الحفل وتحدث فيه: رئيس الوزراء رجب طيب أوردغان ووزير ثقافته ورئيس الشؤون الدينية ورئيس حزب الشعب المعارض وغيرهم من الشخصيات التركية. بدأ الحفل بإلإنشاد الديني، تلاه العزف الصوفي على الناي، ثم النعت الشريف أي المديح المعروف في مجالس الصوفية للنبي الكريم(ص) بإنشادهم، وقدم عدد غفير من المولوية عرضاً للرقصات الأربع المعبرة عن السلامات الأربعة، وأخيراً تلاوة الكتاب والفاتحة والتكبير.

ما أدهشني وآلمني أثناء زيارتي لمولانا، وكذلك في رحلتي الى “قونية” ذهاباً وإياباً من اسطنبول، أنني لم ألتقِ بأحد من أهلي “أبناء يعرب”، مع أنني التقيت زواراً من جنوب شرق آسيا، إيران، أوروبا، تركيا، وسواها من البلاد غير العربية، وقلت لنفسي: لعلها “الفروسية والخيل والليل والبيداء والرمح والسيف”، ألهتهم عن أي فهم للدين يتجاوز ذلك، ولا أدري إن كان ذلك سبباً لانحدار أغلب أصحاب الاتجاهات الصوفية والعرفانية والإشراقية في الإسلام من مواطن بعيدة عن الصحراء والجزيرة العربية، مثل: “سهرورد” قرية شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي، “مرسية” في الأندلس مدينة محيي الدين، “بلخ” مسقط رأس “مولانا”، “شيراز” مدينة حافظ وسعدي، “نيشابور” مدينة العطار، و”قونية” موطن صدر الدين القونوي ومثوى “مولانا” وعدد من الأولياء الصالحين…الخ.

ترك لنا “مولانا” منظومة غنية، تنفتح على حقول متنوعة في المعارف الدينية، نحن بأمس الحاجة إليها في عصر يغلب فيه فهم حرفي قشري مغلق للنصوص، أفضى لصياغة لاهوت يضج بالكراهية ونفي الآخر والتعصب.

ميراث “مولانا” يلهمنا مفاهيم ومقولات ورؤى تنشد احترام كرامة الكائن البشري، ترسّخ النزعة الإنسانية في الدين، تشبع حياتنا بالمعنى، تخلع على دنيانا صورة أجمل، تهبنا أفقاً بديلاً للتواصل مع مختلف أتباع الأديان والفرق والمذاهب، فلا تضيق مجتمعاتنا وتنفجر بمكوّناتها التاريخية العقائدية والإثنية، ويتأسس ما يمكن تسميته بـ(لاهوت الشفقة، الرحمة، المحبة، العشق، الجمال، الفرح، الحياة، الابتسامة، الأمل، الاختلاف، التنوع، التعددية… اللاهوت الإنساني )، الذي يكمن فيه سبيلنا للخلاص من (لاهوت الكراهية، نفي الآخر، الموت، الحزن، البكاء، والتشاؤم).

“مولانا” قصيدة الله الغزلية، حيثما تتردد هذه القصيدة تنقدح ناراً، ملتهبة بالعشق، ومعانقة الجمال والحياة والإنسان. “مولانا” سمفونیة تعزف ألحان الكون وإيقاع العشاق، ونغمات التراحم.

كتابه “المثنوي” وأشعاره قيثارة العشق، تخاطب القلب وتأسره، تنفذ الى الوجدان، وتصطاد الروح، من دون المرور بالعقل، تصدح بأنغام الناي، وتعزف ألحاناً تتجاوب مع إيقاع ألحان الكون، تجعلك تتغير بسرعة، يشتعل فؤادك بمحبة الحق، فتتسع هذه المحبة لتشمل كافة مخلوقاته، يتبدل اغترابك عن محيطك الى ألفة وانسجام وتناغم، تصير مثل طفل لا يشبع من الدمى، ولا يكف عن المرح، يبتسم للحياة، فيبتسم له الله، يتعطش للمعرفة واكتشاف العالم، يبتهج لما يراه، ففي الارتواء بعد العطش ذروة النشوة.

[1]ــ انّى ماري شيمل. الشمس المنتصرة. ص 545ـــ 546.

د. عبدالجبار الرفاعي مفكر وأستاذ جامعي وباحث عراقي معروف له الكثير من المؤلفات والترجمات، وهو رئيس تحرير مجلة “قضايا إسلامية معاصرة”.

Optimized by Optimole