حلب “صندوق العافية” السوري… كانت وما زالت

حلب “صندوق العافية” السوري… كانت وما زالت
Spread the love

شجون عربية /بقلم: زياد غصن

حلب “صندوق العافية” السوري.. قبل الحرب وبعدها

تقترب حلب كثيراً من العاصمة دمشق في أهميتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وتكاد توازيها أحياناً في نقاط قوتها أو حتى تتفوق عليها، كما هي الحال مثلاً في الصناعة أو في الزراعة.

لذلك، لم يكن غربياً أو مفاجئاً أن تشكل حلب “بيضة القبان” في مسيرة الحرب السورية، سواء منذ الأيام الأولى، حين كان التعويل الإقليمي والغربي يرتكز على أولوية إسقاط العاصمة الاقتصادية للبلاد، وما يمكن أن يشكله ذلك من حسم مبكر للمعركة في الشمال، أو عند استعادة الحكومة السورية زمام المبادرة، والبدء بعملية تحرير واسعة للمناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة، إذ تحولت معركة تحرير حلب إلى تاريخ فاصل في مجريات الحرب، وهذا ما جسدته عبارة الرئيس السوري بشار الأسد عندما قال إن “مرحلة ما بعد تحرير حلب ليست كما قبلها”.

ما الذي يجعل حلب بهذه الأهمية الاستراتيجية؟ وما هي نقاط الضعف التي عانتها المحافظة سابقاً، والتي كانت بمنزلة جذور اقتصادية واجتماعية لدخول المحافظة على خط الأزمة؟ وماذا حل بها بفعل سنوات الحرب الطويلة؟

فترة الازدهار

بخلاف ما هو شائع، فإنَّ محافظة حلب كانت فعلياً أكبر المحافظات السورية من حيث عدد السكان، وذلك وفقاً للبيانات الإحصائية الرسمية الصادرة عام 2010، والتي قدرت آنذاك عدد سكان المحافظة بأكثر من 4.6 ملايين نسمة.

وإذا قاربنا هذا الرقم مع إجمالي عدد سكان البلاد المقدر في حينه بنحو 20.6 مليون نسمة، سنجد أن المحافظة المذكورة كان يتمركز فيها نحو 22.7% من إجمالي عدد سكان البلاد، أي ربع السكان تقريباً، وهي إشارة ذات دلالة كبيرة على الأهمية الديموغرافية للمحافظة التي حافظت خلال سنوات الحرب على هذه الميزة.

وبحسب البيانات الأخيرة الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء، فإن المحافظة تصدَّرت المحافظات في عدد السكان الموجودين فيها منذ منتصف العام 2021، والذي قدر بنحو 4.117 ملايين نسمة، بنسبة تصل إلى 17.9% من إجمالي عدد سكان البلاد.

عززت المحافظة على مدار سنوات ما قبل الحرب مكانتها الاقتصادية، ووصلت إلى مرحلة باتت فيها بالفعل عاصمة البلاد الاقتصادية. وبحسب المؤشرات الإحصائية الرسمية لعام 2010، فإنّ حوالى 30% من عدد المنشآت الصناعية المرخصة في سوريا كانت موجودة في حلب، وجلها، والبالغ عددها نحو 29.9 ألف منشأة صناعية، تعود ملكيتها إلى القطاع الخاص، وأكثر من 292 منشأة يعود إلى القطاع العام.

ولم يكن القطاع الزراعي في المحافظة الشمالية الأولى أقل أهمية، فإنتاجها من المحاصيل الزراعية الرئيسية كان يشكل دائماً نسباً كبيرة. مثلاً، بلغت نسبة إنتاج المحافظة من القمح إلى إجمالي إنتاج البلاد عام 2010 أكثر من 20%، ومن الشعير نحو 48%، والشمندر السكري 24.3%، والزيتون 22%، والبطاطا 25%، والفستق الحلبي 36.8%.

هذه النسب المرتفعة تنطبق أيضاً على واقع الثروة الحيوانية، إذ زادت نسبة قطيع الأغنام في المحافظة إلى إجمالي القطيع السوري على 16.8%، ومن الماعز 15.1%، ومن الأبقار 10.4%، ومن الدواجن 11.2%.

ومع حساسية موقعها الجغرافي، تعاظمت أهمية المحافظة خلال سنوات الحرب، فهي ترتبط بحدود طويلة مع تركيا الطامعة منذ بداية الأزمة في رسم واقع جغرافي وديموغرافي جديد على حدودها مع سوريا.

داخلياً، ترتبط حلب بحدود إدارية مع محافظتي الرقة الخاضعة حالياً في أجزاء منها لسيطرة ما يسمى “الإدارة الذاتية” الكردية، وإدلب الخاضعة في أجزاء منها أيضاً لسيطرة مجموعات جهادية ومسلحة مدعومة وممولة من تركيا.

لهذا، إن الفصائل الكردية والقوات التركية وفصائلها المسلحة تحاول جميعها المحافظة على موطئ قدم لها في أرياف المحافظة تحقيقاً لهدفين: الأول عدم تمكين الحكومة السورية من بسط سيطرتها على كامل أراضي المحافظة وتوظيف قدراتها الإنتاجية لدعم اقتصادها، والآخر تحيّن الفرصة الإقليمية والدولية لقضم المزيد من مساحات المحافظة.

عانت المحافظة قبل فترة الحرب تفاوتاً تنموياً كبيراً بين المدينة والريف، ظهرت مؤشراته في نسبة الأمية المرتفعة في الريف، وانتشار الفقر بمعدلات مقلقة، وارتفاع معدل البطالة، وغيرها من المؤشرات الاقتصادية الرئيسية. ويعتبر كثيرون أن هذا التفاوت أسهم في دخول مناطق الريف باكراً في أتون الأزمة، وفي الهجوم على أحياء المدينة.

مدينة منكوبة

تعرّضت المحافظة، كما باقي المحافظات السورية، ريفاً ومدينة، لدمار هائل في بنيتها التحتية ومرافقها الخدمية بفعل الحرب، ما أدى إلى نزوح آلاف الأسر من منازلها داخل المحافظة أو خارجها، وتوقف آلاف المعامل والمنشآت الصناعية عن العمل والإنتاج، وسرقة ونهب الكثير من خطوط إنتاجها وتهريبها إلى الداخل التركي، كما أنَّ مساحات زراعية واسعة خرجت من دائرة الاستثمار الزراعي.

وبحسب بيانات أمميّة، فإن أكبر نسبة دمار بين الأبنية في البلاد كانت في محافظة حلب، بإجمالي وصل إلى 35722 مبنى، كان من بينها 4473 مبنى دُمر بشكل كامل، و14680 مبنى دُمر بشكل بالغ، و16269 مبنى دمر بشكل جزئي، ما جعل حلب تتصدّر باكراً المحافظات السورية في عدد النازحين منها، تبعاً لنتائج مسح السكان الذي أجراه المكتب المركزي للإحصاء بالتعاون مع الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان عام 2014، وهي نتائج أكدت أن 30% من إجمالي النازحين آنذاك كانوا من حلب، لكنَّ اللافت أنَّ المحافظة نفسها جاءت في المرتبة الثانية باستقبالها 20% من النازحين على مستوى البلاد بعد محافظة ريف دمشق.

أما على مستوى الضرر الذي لحق بالنشاط الاقتصادي، فإنَّ مسح السكان أظهر أن تقييم النشاط الاقتصادي في المحافظة كان ضعيفاً بنسبة 51.5%، ووسطاً بنسبة 41.2%، وجيداً 7.4%.

النتائج كانت كذلك كارثية على صعيد الخدمات العامة مقارنة بما كانت عليه قبل عام 2011. مثلاً، تشير بيانات المسح المذكور إلى أنَّ توفر الدواء المناسب كان سيئاً بنسبة تصل إلى نحو 49.3%، ولم تتعدَّ نسبة توفره بشكل جيد أكثر من 11.8%.

هذه هي الحال كذلك بالنسبة إلى توفر الكادر الطبي، الذي كان سيئاً بنسبة تصل إلى نحو 52.9%، ووسطاً بنسبة 29.4%، وجيداً بنسبة 17.6%. ولم يكن حال التعليم أفضل، إذ إن الحرب قلبت المؤشرات رأساً على عقب، فالتعليم لم يعد متوفراً للجميع، كما كان سائداً قبل الحرب. وتبعاً لبيانات المسح، فإنَّ تقييم مؤشر توفر المدارس للجميع كان سيئاً بنسبة 53.7%، فيما كان تقييم سوء مؤشر توفر الكادر التعليمي يصل إلى ما نسبته 59.6%.

هذه المؤشرات التي غطت السنوات الأربع الأولى من عمر الحرب، سرعان ما توسعت وتعمّقت آثارها أكثر مع استمرار معاناة المحافظة كساحة معارك طاحنة، وإن تراجعت حدتها مع إعلان تحرير المدينة بشكل كامل من المجموعات المسلحة مع نهاية عام 2016، إلا أن بقاء مناطق ريفية محتلة من قوات الاحتلال التركي أو خاضعة لسيطرة مجموعات وميليشيات مسلحة يبقي المحافظة عاجزة عن استعادة عافيتها الاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما مع تصاعد الضغوط الاقتصادية على البلاد بدءاً من منتصف العام 2019، وهو واقع أفضى إلى نتائج خطرة على حياة المحافظة، أهمها:

– تراجع الوضع المعيشي للأسر المقيمة في محافظة حلب بشكل كبير جداً، فبحسب البيانات الرسمية لمسح الأمن الغذائي الذي جرى في نهاية عام 2020، فإنّ نسبة الأسر الحلبية التي تعاني انعداماً شديداً في أمنها الغذائي بلغت نحو 9%، وتلك التي تعاني انعدام متوسط في أمنها الغذائي بلغت نحو 53.2%، وهناك أيضاً نحو 32.9% من الأسر معرضة بشكل أو بآخر لانعدام أمنها الغذائي، و4.9% من أسر المحافظة فقط كانت تنعم بحال من الأمن الغذائي.

أما التقديرات غير الرسمية، فتذهب إلى القول إنَّ معدل الفقر الشديد في المحافظة اقترب في نهاية عام 2019 من 77% في مقابل نحو 5% عام 2010، ومعدل الفقر الإجمالي وصل إلى 88% في مقابل 16% عام 2010. وبذلك، تكون حلب المحافظة الثالثة في انتشار الفقر الشديد في نهاية عام 2019، والرابعة في انتشار الفقر العام.

– ارتفاع معدل التسرب من المدارس نتيجة فترات الانقطاع الكبيرة، وخروج عدد كبير من المدارس من الخدمة، رغم الجهود الحكومية الكبيرة التي بذلت لإصلاح المدارس المدمرة وترميمها، والأخطر عدم توفر بيئة داعمة للتعليم في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، فضلاً عن تعدد المناهج التي تدرَّس للتلاميذ والطلاب في المحافظة تبعاً للقوى المسيطرة فيها.

– ارتفاع هجرة الشباب وأصحاب رؤوس الأموال إلى الخارج بحثاً عن فرصة عمل أفضل، كما هي الحال في جميع المحافظات والمناطق السورية، إلا أنَّ ذلك يبقى في حلب واضحاً أكثر جراء طول معاناة سكان المحافظة والصعوبات والعوائق المختلفة التي تحول دون تمكّن الصناعيين والحرفيين من إعادة تشغيل منشآتهم، وهذا يعني محدودية فرص العمل المتاحة، وتأثر معظم المهن نتيجة قلة الطلب على خدماتها ومنتجاتها، وتراجع مصادر دخل المواطن الحلبي.

– تراجع مستوى الخدمات العامة في المحافظة جراء حجم الدمار الكبير الذي لحق بمعظم البنى التحتية والمرافق الخدمية، كالمستشفيات ومحطات مضخات المياه وتوليد الكهرباء وغيرها.

ورغم الجهود الحكومية التي بذلت على مدار السنوات الأربع الماضية، فإنَّ مستويات الخدمة لا تزال ضعيفة مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب من جهة، وحجم الاحتياجات المحلية من جهة ثانية.

الرسائل السورية

على مدار السنوات الممتدة منذ عام 2011، لم تهدأ المواجهة المتبادلة بين دمشق المتيقّنة من بسط سيطرتها الكاملة على جميع مناطق المحافظة، وبعض العواصم الإقليمية والغربية الساعية إلى إبقاء حلب ساحة للنزاع وعدم الاستقرار.

ومنذ تحرير أحياء المدينة وجزء كبير من ريفها، وجّهت دمشق رسالتين واضحتين عن أهمية المحافظة على أجندة السياسة السورية؛ الأولى عندما عقدت الحكومة، في سابقة تاريخية، اجتماعها الأسبوعي المعتاد في مبنى المحافظة عام 2018، ثم مرة أخرى عام 2020، لمتابعة مشروعات إعمار المحافظة، والرسالة الأخرى عندما زارها الرئيس الأسد في الآونة الأخيرة، وقضى فيها يومين متجولاً في أسواقها ومعالمها الأثرية والتاريخية، فهل تكون الرسالة السورية الثالثة من طبيعة أخرى؟

Optimized by Optimole