تعليم أطفال اللاجئين السوريين إلى أين؟

Spread the love
أطفال لاجئون سوريون في أحد المخيمات

إعداد: د. كريم أبو حلاوة – د. إنصاف حمد —

مقدمة

يتناول التقرير الذي أصدرته مؤسسة راند “RAND” واحداً من أكثر الموضوعات أهمية وحساسية وهو موضوع “تعليم أطفال اللاجئين السوريين-إدارة الأزمة في تركيا ولبنان والأردن” والصادر عام 2015.

ويتضمن التقرير أربعة أقسام أساسية:

– يتعلق القسم الأول بإمكانية الوصول إلى التعليم ويحاول الإجابة على السؤال التالي: كيف يمكن لأطفال اللاجئين السوريين الوصول إلى التعليم، ويتصل القسم الثاني بإدارة التعليم، أي هل سيتم التخطيط للتعليم المتوافر وإدارته ودعمه؟

– أما القسم الثالث فيتصل بالمجتمع، بمعنى: كيف يمكن للتعليم المقدم للأطفال اللاجئين السوريين التأسيس لمجتمع ينعم بالاستقرار؟

– ويتصل القسم الرابع والأخير بموضوع جودة التعليم، ويحاول الإجابة عن السؤال المتصل بكيف يمكن تعزيز جودة التعليم المقدم للتلاميذ السوريين ولمواطني البلدان المستضيفة في ظل هذه الظروف الصعبة؟

ثم يشير التقرير إلى ضرورة القيام بالمزيد من الدراسات والأبحاث، لتقييم الجدوى والخيارات الأمثل وكيفية تطبيقها؛ ذلك من أجل التوصل إلى مجموعة من الأهداف التي تشمل الفاعلية من حيث: التكلفة، وإدارة السيناريوهات المستقبلية، وتَشَارُك المسؤوليات، وتماسك الهوية الوطنية، وتعلم اللغة الأم، وصولاً إلى خلق نظام تعليمي موازٍ طويل الأجل، كل ذلك من أجل امتلاك خطة عمل مرتكزة على الأبحاث لدعم تعليم أطفال اللاجئين السوريين في البلدان المذكورة.

فما هي المخاطر والتحديات التي تواجه مسألة تعليم هؤلاء الأطفال، بالنظر إلى اتساع حجم المشكلة وامتدادها زمانياً ومكانياً وخطورة النتائج المترتبة على الخيارات المتاحة؟؟

حجم المشكلة وأبعادها

يتعلق الأمر بواقع ومستقبل أعداد كبيرة من أطفال اللاجئين السوريين، فمن بين 1.2 مليون طفل مسجل في البلدان الثلاثة (تركيا-لبنان-الأردن) هناك حوالي 542 ألف طفل غير ملتحق بأي نوع من التعليم، هذا فضلاً عن أعداد أخرى من الأطفال غير المسجلين أساساً.

على صعيد آخر، ثمة صعوبات تواجه تعليم هؤلاء، سواء على مستوى الوصول إلى التعليم، أم على مستوى الحاجات والاستجابات المتوافرة، وأثر ذلك في المجتمع المستضيف. فالتحديات التي تواجه هؤلاء متعددة، وتتصل باختلاف أنماط التعليم تبعاً للبلدان التي يوجدون فيها، إلى جانب صعوبات لغوية (حالة تركيا) واختلاف في توجهات وأهداف العملية التعليمية، الأمر الذي يتطلب تنسيقاً وتعاوناً على المستوى الإقليمي مع الحكومة السورية، من أجل توحيد المعايير والأهداف، عدا عن مخاوف جدّية من محاولات خلق ميول واتجاهات وهُويّات جديدة عند هؤلاء الأطفال، تقوم على أسس أثنية أو دينية وسواها.

أما المخاطر التي تواجه الأطفال الذين لا يحظون بأية فرصة تعليمية، فهي أكبر على الأطفال أنفسهم وعلى حقوقهم، فأثر غياب التعليم في وعيهم وسلوكهم، وما ستتركه الأمية من واقع متردٍ، على الفرص المتاحة لهم مستقبلاً على صعيد العيش والعمل تبعث على القلق، ولا يقل عن ذلك خطورة احتمالية أن يقع هؤلاء مستقبلاً ضحية الفكر الإرهابي المتطرف؛ بسبب حرمانهم من التعليم والفرص القليلة التي ستتاح لهم بالقياس إلى أقرانهم المتعلمين.

المسكوت عنه في التقرير

أولاً: إن أكثر من نصف أطفال اللاجئين السوريين في لبنان والأردن وتركيا لا يتلقون أي تعليم، ما يعني أن جيلاً بكامله معرّض للضياع والحرمان، فضلاً عن فقدان حقه في التعليم. وهذه الظروف الاستثنائية، ستجعل من هؤلاء وقوداً للتطرف وخزاناً بشرياً للإرهاب والبطالة والفقر وانتشار الجريمة؛

ثانياً: تتطلب عملية تذليل الصعوبات التي تواجه تعليم الأطفال في البلدان المذكورة تعاوناً واسعاً وحقيقياً بين الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بتقديم الخدمات التعليمية للأطفال اللاجئين. الأمر الذي ينطبق على البلدان والمنظمات الإنسانية ذات الصلة؛

ثالثاً: ضرورة التمييز بين تقديم الخدمات التعليمية والتوظيف السياسي الذي يخدم أجندات وتوجهات أيديولوجية تغذي الانقسامات ونزعة العنف والتطرف. أي عدم السماح باستخدام العملية التعليمية لغايات وتوجهات متحيزة؛

رابعاً: ضرورة التفكير في استراتيجية متكاملة لحل مشكلة اللاجئين، ويمكن أن تتضمن العمل على سيناريوهين في آنٍ معاً:

السيناريو الأول: العمل على إعادة اللاجئين السوريين في الدول المذكورة إلى ديارهم، الأمر الذي يتطلب الوصول إلى اتفاق سياسي شامل لحل الأزمة والحرب على سورية، ولهذا السيناريو أولوية، نظراً لقابليته للعيش والاستمرار بعد توافر متطلبات نجاحه.

السيناريو الثاني: التعاون الإقليمي والدولي في إدماج من لا يرغب في العودة في المجتمعات المضيفة، بما في ذلك تقديم فرص عمل وتعليم مستلزمات البقاء، وهو أمر يعود بصورة أساسية إلى سياسات هذه البلدان ومواقفها إزاء الهجرة واللجوء.

أخيراً: وبصرف النظر عن تقاسم المسؤوليات ومدى التزام الأطراف المعنية بهذه المسألة، ماذا عن أكثر من نصف الأطفال السوريين اللاجئين الذين لا يتلقون أي تعليم؟؟ وإلى أن يتم إيجاد حل للاجئين، سواء على المدى القصير والتوسط، أم على المدى الطويل، هل نترك هؤلاء للجهل والأمية والعوز والتطرف؟؟ أي مستقبل ينتظر هؤلاء، وهم لا يملكون قدرات ولا مؤهلات ولا معارف لمواجهة تعقيدات وظروف حياتهم؟؟ هذه الأسئلة برسم الجميع دولاً ومنظمات دولية، وكل المعنيين بالقضايا الإنسانية ومستقبل الطفولة.

إذا ما انتقلنا من المنظور الكلّي في التعامل مع المشكلة التي تصدى لها التقرير إلى مستوى أكثر تفصيلاً، يمكن أن نتوقف عند مجموعة من الأسئلة والملاحظات النقدية السياسية والمنهجية.

– يطلق التقرير مصطلح “الحرب الأهلية” على الحدث السوري، وهو استخدام خاطئ علمياً لتوصيف واقع الحال، فما يجري في سورية هو “حرب بالوكالة” تشنها مجموعة دول على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية وقطر وتركيا، كما أنه استخدام غير بريء يتقصد بعضُ المؤسسات والجهات اعتماده للتعمية عن حقيقة ما يجري، وللتغطية على فواعل الحرب الدوليين والإقليميين، وأيضاً لغرسه في مدارك المتلقين، توخياً للتبعات القانونية المترتبة عليه، والناجمة عن التعامل مع الدول التي تجري فيها حروب أهلية مزعومة بوصفها “دولاً فاشلة”!

إقرأ أيضاً : التعليم الإلكتروني: من طور التلقين إلى طور الإبداع

– يعتمد عبارات ملتبسة في سياق تحليله لخطر تعرض الأطفال السوريين اللاجئين إلى خطر الحرمان من التعليم عازياً ذلك -وفي أكثر من موضع-إلى “انقطاع التعليم في سورية”، وهي عبارة غير دقيقة، فالتعليم مستمر في سورية وبشكل طبيعي إلى حد كبير في المناطق التي تخضع لسلطة الدولة والتي تضم أكثر من ثلثي السوريين، العبارة الأدق التي كان من الواجب استخدامها هي “انقطاع الأطفال اللاجئين عن التعليم في سورية”.

– غالباً ما يتم اللجوء إلى المبالغات غير المرتكزة إلى معلومات دقيقة باعتراف معدّي التقرير أنفسهم، وهي مبالغات تعمد إلى التهويل من حجم المشكلة وتضخيم مخاطرها، وهي استراتيجية يتبعها معظمُ التقارير التي تصدر عن مؤسسات مشابهة، إما لهدف سياسي، أو لاستجلاب التمويل، وربما الاثنين معاً، وهذا بالتأكيد لا يعني أننا نقع في الخطأ المقابل بتهوين المشكلة أو التقليل من شأنها أو من تبعاتها.

– يركز معدّو التقرير في أكثر من موضع، وبشكل منهجي على خطورة اللاجئين السوريين على التركيبة الديمغرافية والدينية للبلدان المضيفة، ويعظّم من شأن المخاوف المثارة حولها وحول ما أسماه باللاجئين “المجندين سياسياً”، فإذا ما صح ذلك نسبياً على لبنان، ويرغب به أصلاً بعضُ القوى السياسية فيه، فإنه لا ينطبق تماماً على تركيا، حيث إنَّ أجندة هؤلاء المجندين سياسياً متطابقة مع التوجهات السياسية فيها، إن وضعية اللاجئين في لبنان والأردن يمكن أن تعد خطراً فيما لو كانت مسألة عودة اللاجئين إلى وطنهم، أمراً بعيد المنال كما في حالة اللاجئين الفلسطينيين مثلاً، والمماثلة غير واردة بين الحالتين، ولا سيما وأن جميع الدول موضوع التقرير فرضت قيوداً على دخول السوريين بعد أن تحولوا من عامل للضغط على الحكومة السورية إلى عامل ضغط على تلك الدول.

– يتجاهل التقرير أمراً أساسياً لطالما أسهم في مفاقمة مشكلة تعليم أطفال اللاجئين السوريين، فدول اللجوء نفسها أحد أسباب هذه المشكلة؛ بسبب أجندتها السياسية وضلوعها، بأشكال مختلفة، في الحرب على سورية، إنَّ الإصّرارَ على نبذ التعامل مع الحكومة السورية والتنسيق معها، في هذا الموضوع حصراً حالَ دونَ تذليل عقبات كثيرة، كاعتماد المناهج وإصدار الشهادات، وأحدثَ قطيعةً أفضت إلى تفاقمِ المشكلة، وأوضحت حقيقة لا تقبل الشك مُفادها أن الحسابات السياسية لهذه الدول تعلو على المعايير الأخلاقية والإنسانية المتصلة بتعليم الأطفال، خاصة وأن هذا المسار يعد مقاربة ممهدة لتشجيع السوريين على العودة إلى بلدهم، من خلال توفير إمكانية متابعة أطفالهم لتعليمهم، (يعترف التقرير أنَّ بعض السوريين يحجمون عن إرسال أولادهم لتعلم المنهاج السوري المعدل الذي اعتمدته المعارضة؛ لأنه إما مشحون سياسيّاً أو غير معترف به أو الإثنين معاً)، ولعله كان من المفيد اقتراح ربط جزء من المساعدات المقدمة لهذه الحكومات بإنجاز اتفاق مع الحكومة السورية يسهل إصدار الشهادات واعتماد المناهج.

– لا يتوقف التقرير -وربما لا يستطيع أو ليس من مهامه- عند دلالات ما ذكره عن رفض بعض الدول كتركيا مشاركة المعلومات عن اللاجئين، إذ أصدرت هذه الأخيرة قراراً بمنع إجراء الأبحاث وجمع البيانات عن اللاجئين، عازياً ذلك إلى التوازنات الديمغرافية، وهو تفسير ضعيف الأساس منطقياً بالنسبة لحالة تركيا، والأرجح أن هذا الإجراء مرتبط بأجندة تركيا السياسية لتستطيع بوساطته إخفاء المعلومات وحصرها بها، ومن ثم تطويعها كما تريد، والاستمرار في استخدام ورقة اللاجئين للضغط على المجتمع الدولي عامةً، والاتحاد الأوروبي خاصةً لتحصيل مكاسب مالية وسياسية، وربما يتوجب هنا استحضار ما صرح به معارض سوري معروف(نواف البشير) عن بيع فرنسا لأحد المعارضين طابعة جوازات مماثلة لتلك التي باعتها للحكومة السورية، وأن مئات الآلاف من الجوازات “السورية” المزورة تم اصدارها مذ ذلك.

– يمكن استجلاء المضمر في الأجندة السياسية للجهة معدّة التقرير في تبنيها لخيار دمج تعليم أطفال اللاجئين في المجتمعات المضيفة، في مفارقة واضحة مع التحليل الذي يقدمه عن وجود (9) إيجابيات للتعليم المنفصل، مقابل (5) مخاطر، و (7) إيجابيات للدمج مقابل (10) مخاطر، طبعاً التحليل يتجاهل الفوارق بين حالتي لبنان والأردن وحالة تركية، ما يدلل على أن خيار التعليم المنفصل أفضل للحفاظ على الهوية السورية، ومن هنا نعتقد أن المضمر في تبني خيار الدمج والدعوة إليه هو تذويب السوريين في المجتمعات المضيفة لغايات سياسية معينة.

– جرى التنويه في أكثر من موضع باستقبال الدول الثلاث (لبنان، الأردن، تركيا) للاجئين السوريين “بكل رحابة صدر”، وأنها قدمت لهم الخدمات “متكبدة نفقات عالية” ومتحملة العبء الأكبر في ذلك، وهي إشارة أريد لها إعطاء صك براءة لبعض هذه الدول (تركيا، الأردن) ولبعض القوى السياسية في لبنان والتي كانت لها يد طولى في الحرب على سورية، وتسببت بموجات اللجوء الكبيرة، فقد شجعت هذه الأطراف السوريين على اللجوء منذ البداية، وأقامت لهم المخيمات حتى قبل بدء الأحداث (تركيا)، بغرض استخدام اللاجئين كورقة ضغط سياسية على الحكومة السورية، إلا أن الأمر تحول مع طول سنوات الحرب إلى عبء باتت تنوء به الدول المذكورة!

– يركز معدو التقرير على احتمال بقاء اللاجئين لمدة طويلة في بلدان اللجوء؛ لأن “الأزمة ليست وشيكة النهاية” بنظرهم وهي أزمة “فريدة من نوعها” دون توضيح وجه الفرادة (رغم أن تحديات التعليم فيها مشابهة للتحديات في أزمات أخرى باعتراف المعّدين أنفسهم)، مستندين إلى هذا السيناريو للمطالبة بوضع خطط طويلة الأجل لتلبية الاحتياجات، ما يعني الحاجة إلى تمويل أكبر يغطي المدد المتوقعة واحتياجاتها، وقد يكون مبنياً على “معرفةٍ ما” بالسيناريوهات الموضوعة للحرب على سورية، خاصةً إذا ما ربطنا ذلك بالصلة الوثيقة بين المؤسسة المصدرة للتقرير ومؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية.

– يعتور التقرير خلل منهجي متصل بالأرقام التي يوردها وقراءة دلالاتها، فمن جهة يقر بنقص المعلومات وعدم توافر البيانات وتبعثرها واصفاً إياها بأنها “غير موثوقة” و”غير متسقة”، وأنه لا توجد “مؤشرات موحدة للقياس”، ولا “مقاربات معيارية للتعريفات” (مثلاً تعريف الطفل والتعليم غير النظامي وغيرها)، و مع ذلك يورد أرقامه دون أدنى حذر أو نقد أو تدقيق أو مقاربة، حيث يشير مثلاً إلى أن تركيا أنفقت (4.5) مليار دولار على اللاجئين السوريين في عامين، معتمداً الرقم دون أي تفاصيل تتعلق بالبنود التي صرفت بموجبها، كذلك الأمر فيما يتعلق بحديث الأردن عن تحملها أكثر من 80% من تكلفة اللاجئين، وأنها طلبت (150) مليون دولار من البنك الدولي لتغطية العجز في موازنتها، من المعروف أن الدول تلجأ عادةً في مثل الحالات إلى المبالغة في الأعباء التي تتكبدها لاستجلاب المزيد من الأموال والمساعدات، حيث تفصح أرقام طلباتها المتفاوتة والمتباينة إلى حد كبير عن عشوائية التقدير، وربما لذلك تتردد الجهات المانحة (كما يذكر التقرير) في تأمين موارد ثنائية مباشرة للحكومات، مربوطاً ذلك بقلقها من ضعف آليات المحاسبة والمراقبة، (تركيا طلبت موازنة (62) مليون دولار لتعليم (345) ألف طفل منهم (200) ألف قيد التعليم حالياً، بينما طلب لبنان (206) مليون لتعليم (402) ألف طفل منهم (102) ملتحقون، أما الأردن فقد طلب (86) مليوناً لـ (220) ألفاً منهم (128) يتلقون التعليم حالياً، كما طلب (3) مليار دولار لخطة الاستجابة في مقابل ذلك).

-لا يذكر التقرير أرقاماً إجمالية للمساعدات التي قدمتها وتقدمها المنظمات الأممية والدولية ومنظمات المجتمع المدني الغربية، إذ يكتنف غموض مريب حجم تلك المساعدات وأرقامها والجهات المقدمة لها، ما يجعل تقديرها بدقة أمراً بالغ العسرة، خاصة ما يتعلق منها بما يقدمه المجتمع المدني الأوروبي إلى مثيله “السوري” الذي شهد تكاثراً فطرياً منذ بدء الحدث السوري في دول اللجوء على الأخص في جنوب تركيا، جزء لابأس به منها يعمل في مجال التعليم، هذه الوفرة أتت لاستيعاب الأموال المتدفقة من الغرب ومن الخليج، مكرسةً نموذجاً مشوهاً لمنظمات “مدنية” هي بالأساس ذات توجه سياسي محدد ينفي عنها صفة المدنية، دراسات عديدة تحدثت عن حجم الفساد الهائل الملازم لهذه الكيانات التي تتألف بغالبيتها العظمى من شبكة متكاملة من الفاسدين والمنتفعين / أو المنفذين لأجندة سياسية للدول المستضيفة أو الداعمة للحرب، حتى التقرير نفسه اضطر للاعتراف بالنقص الكبير في آليات المراقبة والمحاسبة لعمل هذه المنظمات، وبوجود مشاكل على مستوى شفافية التمويل (مصدره والجهات التي يؤول إليها وحجمه) فضلاً عن التداخل والازدواجية بين عمل المنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية.

– احتوى التقرير إشارات متناقضة، ففي حين يشير إلى الضغوط الاقتصادية التي سببتها مشكلة اللجوء، عازياً إليها التراجع في الأداء الاقتصادي لتلك البلدان، متجاهلاً استفادة اقتصاديات دول اللجوء من الحرب على سورية، إذ أدت العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية مثلاً، إلى زيادة حجم التعاملات المالية والمصرفية في لبنان عبر السوريين، وإلى تضاعف عمل مطار بيروت عدة مرات، وإلى زيادة في الاستثمارات عبر المشاريع التي أقامها رجال الأعمال السوريون، ليس فقط في لبنان بل في الأردن وتركيا، وهو في الوقت نفسه يقر بأن السوريين “يبدون مسارات وقدرات وإسهامات في اقتصاديات البلدان التي يعتمدون فيها، وأنهم أسسوا أعمالاً ووفروا يداً عاملة”، صحيح أن وجود اللاجئين يشكل ضغطاً على الخدمات (وهي مأجورة في تلك الدول)، لكنه أيضاً يزيد من الطلب على السلع، بما يزيد الانتاج والانفاق.

– في سياق مرتبط لم يسأل معدو التقرير عن سبب الفارق بين الرقم المعلن رسمياً عن عدد اللاجئين في الأردن (1.4) مليون سوري، بينما لا يتجاوز عدد المسجلين كلاجئين (6.70) ألفاً، أليس مرد ذلك أنَّ الـ (700) ألف الباقين هم ” مهاجرون” وليسوا لاجئين بالمعنى القانوني للكلمة، وهم ليسوا عبئاً بالمعنى الاقتصادي، بل على العكس، ثم أَليس عدّ كل سوري مقيم في الأردن “لاجئاً” يضمر غايات سياسية و”مالية” في آن معاً.

– من المبالغات الرقمية التي يعتمدها التقرير حديثه عن أن نصف اللاجئين في تركيا (أي حوالي المليون، دمرت منازلهم أو تضررت بشكل كبير؛ ذلك بناءً على شهادات لأشخاص، كيف يمكن الركون إلى هذا الرقم بهذه المنهجية؟ يجب أن نستحضر هنا اعتبارات قبول اللجوء التي تقوم على جانب سياسي بالدرجة الأولى، ما يتطلب مثل هذه المبالغات والإفادات المفتقرة إلى أي وثائق).

-نعتقد أن خللاً يكمن في منهجية التقرير المرتكزة إلى مراجعات أدبيات اللجوء ودراسات سابقة عن اللاجئين السوريين، ولم يقم معدو التقرير بأي دراسة ميدانية أو استيضاحية أو تحليل معمق، بل اعتمدوا على مقابلات (35) شخصاً في جهات حكومية ودولية وجهات مانحة ومنظمات غير حكومية ومدراء مدارس في شهري العطلة الصيفية (تموز- آب2014)، أي (10- 12) شخصاً من كل دولة بمعدل (2- 3) أشخاص عن كل جهة، وفي مفارقة ذات دلالة، ورغم اعتراف التقرير بالافتقار إلى البيانات ونقص المعلومات فيما يتعلّق باللاجئين، يعلن بكل ثقة أن هؤلاء الأشخاص وفروا له المعلومات الضرورية المطلوبة لإنجاز التقرير (بما في ذلك عدد الطلاب، وأماكن وجودهم والمقاعد الشاغرة ونسب ارتياد المدارس، ومدة الانقطاع ومؤشرات الجودة، ومعلومات عن مدارس المخيمات، وأوضاع الصفوف وحاجات البنية التحتية للمدارس وحاجات المعلمين).

– في معرض حديث التقرير عن الحاجة إلى الحماية والدعم النفسي والاجتماعي، يورد التقرير أرقاماً صادمة، ولا نعتقد أنها دقيقة عن الحالة النفسية للأطفال اللاجئين (نقلاً عن دراسة سابقة)، إذ يقول: إنَّ 50% من الأطفال تعرضوا لـ (6) حوادث صادمة أو أكثر، وأن 47% منهم خسروا أشخاص أعزاء، وعانى60% من عوارض جسدية ونفسية، هكذا أرقام تثير الرعب والخوف لدى المجتمع المضيف، يمكن أن نفهم أن مثل هذه المقاربة لإبراز الحاجة إلى تمويل إضافي لبرنامج الدعم النفسي والاجتماعي، لكن لا يمكن قبولها بهذه الطريقة، لأنها تعطي انطباعاً أن مجتمع اللاجئين السوريين مجتمع مريض نفسياً، وهو يشكل بالتالي مصدرَ خطرٍ كبيرٍ على المجتمع المضيف، ما يزيد من حدة التجاذبات والتعامل العنصري إزاء هؤلاء اللاجئين.

ختاماً: لا بدّ من التنويه بالجهود النبيلة التي يبذلها عدد من الأفراد والجهات مدفوعين بغايات إنسانية وأخلاقية، إداركاً منهم لحجم المشكلة وضرورة بذل كل الجهود اللازمة لحلها.

المصدر: مركز دمشق للأبحاث والدراسات

Optimized by Optimole