المرأة والجهاد في فقه الإسلامويين من الإخوان المسلمين إلى داعش (ج 1)

Spread the love

عبدالغني عماد/

 لا بد في البداية من التمييز بين خطاب “النسوية الإسلامية” من جهة، والخطابات الإسلامية الحركية والجهادية من جهة أخرى، ذلك أنّ مصطلح “النّسويّة” (Feminism ) وليد القرن العشرين، ونشأ للتّعبير عن النساء اللّاتي يدافعن عن المساواة بين المرأة والرّجل وإلغاء الفوارق بينهما في كلّ المجالات، في هذا الإطار لم تجد النّسويّات الإسلاميّات حرجاً في إرساء “فكر نسويّ يطمح إلى أن يكون “إسلاميّاً” ويتّخذ من الإسلام إطاراً مرجعيّاً له. الحركات النسوية هي حركات فكريّة معولمة، نشأت دفاعاً عن حقوق النّساء بالعموم، ومرجعياتها الغربية واضحة في تبنيها لجملة من المفاهيم والأهداف الليبرالية والعلمانية التي تشكل خطابها، في حين أن النسويات الإسلاميات يجعلن من القرآن والسّنّة المرجع الأساسي لفكرهنّ، وهن لا يرين في الإسلام ما يهدّد حريّتهنّ الشّخصيّة، بل يجمعن على أنّ الإسلام لا يشكّل مشكلة للنّساء، بل يمنحهنّ الحقوق والامتيازات الكافية، وبالتالي فإن هدفهنّ يتمثّل في نشر التّعريف بتلك الحقوق والعمل على احترامها وتطبيقها من قبل الجميع، ومواجهة التّفسيرات الخاطئة لها. أي إنّ هؤلاء النّسويّات يرين أنّ الدّفاع عن حقوقهنّ يتجسّد أساساً في استرجاع ما منحهنّ الإسلام، لا في البحث عن حقوق أخرى قد لا تنطبق على خصائص مجتمعاتهنّ، خصوصاً أنّهنّ يعتبرن أنفسهنّ “مفكّرات يجمعن بين الوعي النّسوي والمنظور الإسلامي.

ومن هذا المنطلق ميّز خطاب النّسويّة الإسلامية نفسه عن خطاب الإسلاميّات الحركيات المنتميات إلى حركات إسلامية سياسيّة معيّنة تسعى إلى أسلمة الدّولة من جهة، وعن العلمانيّات اللّواتي يؤمنّ بخطاب حقوق الإنسان ويتجنّبن الخطاب الدّيني، إسلاميّاً كان أم مسيحيّاً، من جهة أخرى. وما يهمنا في هذه الدراسة هو البحث في فقه المرأة والجهاد في الخطاب الحركي والخطاب الجهادي من الإخوان المسلمين إلى تنظيم الدولة الإسلامية.

المرأة والجهاد في الفقه الحركي الإسلامي

 قضية المرأة لطالما أثارت الجدل خصوصاً في ما يتعلق بدورها السياسي والاجتماعي ومشاركتها في الوظائف العامة. فحينما كتب «محمد رشيد رضا» مؤلفًا حول «حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام»، واعتبر أن الإسلام قال بمشاركة النساء للرجال في الشعائر الدينية والأعمال الاجتماعية والسياسية، اعترض عليه «محمد ناصر الدين الألباني» في أثناء تحقيقه لهذا الكتاب، وتعليقه عليه، قائلاً: إن هذا الإطلاق باطل لمنافاته لعموم آية ﴿… قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ (الأحزاب: آية 33) وما كان عليه نساء السلف من عدم التدخل في السياسة. أما «رشيد رضا» فيرى في آية ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ (التوبة: آية 9) أن الله قد أثبت للمؤمنات الولاية المطلقة مع المؤمنين فيدخل فيها ولاية الأخوة والمودة والتعاون المالي والاجتماعي، وولاية النصرة الحربية والسياسية، إلا أن الشريعة أسقطت عن النساء وجوب القتال.

 كتب حسن البنا مقالاً في مجلة المنار، ويعد ذلك المقال أول رسالة وجهها البنا للمرأة في قسم الأخوات في الإخوان المسلمين، وجاء في كلام البنا ما نصه: “… ليست المرأة في حاجة إلى التبحر في اللغات المختلفة، وليست في حاجة إلى الدراسات الفنية الخاصة، فستعلم عن قريب أن المرأة للمنزل أولاً وأخيراً.. وليست المرأة في حاجة إلى التبحر في دراسة الحقوق والقوانين، وحسبها أن تعلم من ذلك ما يحتاج إليه عامة الناس»، ثم يقول البنا في الوثيقة نفسها: «ونحن لا نريد أن نقف عند هذا الحد، ولا نريد ما يريد أولئك المغالون المفرطون في تحميل المرأة ما لا حاجة لها به من أنواع الدراسات، ولكننا نقول: علموا المرأة ما هي في حاجة إليه بحكم مهمتها ووظيفتها التي خلقها الله لها.. تدبير المنزل ورعاية الطفل”

 وفي رسالته هذه يقوم البنا بتأكيد المنظور التقليدي الذكوري الموروث بحصر مهمة المرأة في المنزل ورعاية الأطفال، ويتابع في رسالته المعنونة «نحو النور» والموجهة إلى من يلقبه بصاحب المقام الرفيع، ويقصد به رؤساء الوزارات في العصر الملكي، نتبين بعض الملامح الأخرى في موقفه من دور المرأة. فقد طالب حسن البنا في هذه الرسالة بما يعتبره مطالب إصلاحية تتعلق بالمجال السياسي والاجتماعي، جاء منها خمسة تتعلق بالمرأة والعائلة منها المطلب الأول: “مقاومة التبرج والخلاعة وإرشاد السيدات إلى ما يجب أن يكون، والتشديد في ذلك خصوصاًعلى المدرسات والتلميذات والطبيبات والطالبات ومن في حكمهن”، والثاني: “إعادة النظر في مناهج تعليم البنات ووجوب التفريق بينها وبين مناهج تعليم الصبيان في كثير من مراحل التعليم”، والثالث: “منع الاختلاط بين الطلبة والطالبات واعتبار خلوة أي رجل بامرأة لا تحل له جريمة يؤاخذان بها”، ثم أخيراً مراقبة دور التمثيل وأفلام السينما والتشديد في اختيار الروايات والأشرطة وتهذيب الأغاني واختيارها ومراقبتها والتشديد في ذلك.

 كان للبنا تحفظ معلن حين عُرض موضوع اشتغال المرأة بالمحاماة على مجلس النواب المصري، وإباحة حق الانتخاب للمرأة عام 1944، وقد تمَّت موافقة المجلس على إباحة اشتغال المرأة بالمحاماة، ورفض حقها في الانتخاب في مجتمعٍ أغلبه يُعاني الأمية الثقافية والفكرية والدينية الصحيحة، وفي سياقٍ زمني مختلف. يأتي هذا الموقف في مناخ كانت تتصاعد فيه مطالب الحركات النسوية في العدالة والمساواة ويتزايد تأثيرها في المجال العام.

 في مناقشته لهذه المسألة يذهب البنا إلى اعتبار مثل هذه المطالب دعاوى زائفة وصدى لدعاوى التغريب، والدليل على ذلك عنده أنهم أرادوا للمرأة أن تشتغل بالمحاماة، وهم بالأمس القريب فكروا في التشدد في شروط قبول الشباب في جدول المحامين، وصار كثير منهم لا يجد عملاً حتى زاحموا الكتبة العموميين على أبواب المحاكم، ونراه يقدم حلاً طريفًا لمشكلة المحامين والمحاميات فيقول: “أفما كان الأولى والأجدر أن يقرر مجلس النواب المصري إلزام المحاميات بأن يتزوجن محامين، فيضرب العصفورين بحجر واحد، ويفرج أزمتين، أزمة المحاماة وأزمة الزواج معًا بقرار واحد، ويضع بذلك أساسًا قوي الدعائم للتعاون لا للتزاحم”. وحول حقها بالانتخاب يرى أن كثيراً من الرجال ممن منحوا هذا الحق لا يحسنون استخدامه، فالأجدر بنا أن نهتم أولاً بتربية هؤلاء الرجال.

 وضع البنا أول لائحة لما أسماه (فرقة الأخوات المسلمات) عام 1933 بعد خمس سنوات من تأسيس جماعته في مدينة الإسماعيلية عام 1928، ومن إنشاء أول مدرسة لتعليم الفتيات (مدرسة أمهات المؤمنين). كانت لائحة البنا للنساء تعبيراً حقيقياً وكاشفاً -إلى حد كبير- عن موقف الجماعة التنظيمي من النساء، وإدراكه لأهمية انخراط النساء في أفكار الجماعة وتنظيماتها، حتى لو تناقض هذا مع أفكاره الفقهية المعلنة في أدبيات الجماعة، والتي ترفض إعطاء النساء أبسط حقوقهن وهو حق التعليم، أو حتى حق الخروج من البيوت أو المشاركة السياسية أو التعيين في الوظائف الحكومية. كان يدعو النساء علناً للمكوث في بيوتهن وألا يختلطن بالرجال وألا تسافر إحداهن ولو مسافة قصيرة إلا بمحرم، لكنه بالنسبة لنساء الجماعة، وإدراكاً منه لأهمية دورهن، يغضُ البصر عن ذلك وفي براغماتية لافتة لا يمانع من قيامها بأنشطة حركية ورحلات تجنيد واستقطاب وتوعية، ومع ذلك وفي مفارقة لافتة أجلس زوجته في بيتها ولم يجعلها تنخرط في أي من أنشطة الجماعة، كما تفعل نساء الجماعة الأخريات.

 لائحة الأخوات كانت هي التي تنظّم عمل قسم النساء، وتحدّد كيفية إدماجهن في التنظيم، وواجبات المنتميات له وأدوارهن في خدمة الجماعة. وعلى الرغم من أن القسم هو قسم نسائي، فإن رئاسته -وحسب اللائحة التي وضعها البنا- يتولاها هو شخصياً، بينما كان سكرتير عام القسم رجلاً آخر وهو محمود الجوهري (أحد المقربين له) والذي استمر في مهمته هذه ما يزيد عن خمسين عاماً، ثم تتولى إدارة القسم داخلياً سيدة. وبقراءة لمهام الفرقة يتضح أن دورها الأساسي هو جذب النساء للانتماء للتنظيم والذي حددته اللائحة عن طريق (الدروس والمحاضرات في المجتمعات الخاصة بالنساء، والنصح الشخصي والكتابة والنشر). ولم تغفل اللائحة بند تمويل الأنشطة والجماعة فقد جاء فيها (وتقدر اشتراكات مالية على العضوات -كل حسب المقدرة- وتحفظ في عهدة إحدى الأخوات للإنفاق منها على مشاريع الفرقة).

 نجح هذا القسم في استقطاب قيادات نسائية بارزة منها لبيبة أحمد وهي أهم من شارك في صنع تلك المصداقية، فقد كانت زوجة عثمان مرتضى باشا أحد القضاة المشهورين، وسليلة عائلة كريمة وفرت لها تعليماً متميزاً، وكان لديها جمعيتها الخاصة وهي (نهضة السيدات المصريات) التي أسستها عام 1921، وكانت لها مجلة تَنطق باسمها وهي مجلة (النهضة النسائية) والتي ظلت تصدر لمدة عشرين عاماً، كان هذا عامل جذب حقيقياً بالإضافة إلى ما قدمته من دعم للمشاريع والخدمات الاجتماعية التي كانت إحدى أهم وسائل الجماعة لجذب الأعضاء، عبر عدد من المشاريع الخدمية مثل المستوصفات ودور الطفولة ورعاية الأيتام ومساعدة الأسر الفقيرة. وهذا الأمر ساعد تماماً في نمو أنشطة فرقة الأخوات المسلمات، وبعدها تعاقب على إدارة قسم الأخوات فاطمة عبدالهادي إحدى أهم الوجوه النسائية وأكثرهن فاعلية في الجماعة حتى لقبت بـ”بطلة التجنيد” وهي تحكي في مذكراتهاعن حكايات السفر لكل المحافظات من أجل الدعوة للجماعة، حتى وصل عدد شعب الأخوات المسلمات عام 1951 إلى (150) شعبة موزعة على محافظات مصر كافة كما يذكر الجوهري في مذكراته. ومما تذكره فاطمة وتفتخر به، أنها كانت السبب في انتماء ثاني مرشد للجماعة وهو حسن الهضيبي، بعد أن نجحت في استقطاب ابنتيه سعاد وخالدة الهضيبي، عبر قسم الأخوات الذي كانت مسؤولة عنه. تزوجت فاطمة من شخصية بالغة الأهمية (محمد يوسف هواش) وكان من أهم شخصيات تنظيم 1965 الشهير الذي يُنسب لسيد قطب، كما تفاخر بالنجاحات التي تحققت بملف التزويج الذي تولته ونجحت فيه بتزويج عديد من أعضاء الإخوان من الأخوات، أو ممن يعتبرن مناسبات وقريبات للفكر إذا لم تتوافر الأخت المناسبة.

 وبينما كان البنا يهاجم نساء الطبقة العليا ممن شاركن في مؤتمر إسطنبول، كان يسعى لهن عبر تجنيد واحدة من أبناء أغنى الوزراء وأكثرهن أرستقراطية، وهي أمال محمد العشماوي، ابنة العشماوي باشا وزير المعارف العمومية في وزارة إسماعيل صدقي الثالثة عام 1946، والذي عرف بميله للتديّن وثرائه الكبير. أمال هي الوجه النسائي الثالث من نساء البنا اللاتي اعتمد عليهن واعتُبرن من أعمدة التنظيم النسائي، يمكن القول: إنها كانت المنقذ والممول الحقيقي للتنظيم في سنوات الأزمات السياسية الطاحنة. أخوها حسن العشماوي كان قد سبقها للتنظيم ولحقت به هي وزوجها منير الدلّة القيادي الإخواني المعروف في ما بعد، وعضو مكتب الإرشاد وأحد أبناء الطبقة الثرية. وحكت فاطمة عبدالهادي في مذكراتها أنه عندما انضمت أمال العشماوي للجماعة، احتفى بها البنا احتفاءً خاصاً حيث عقد اجتماعاً للمجموعة التي كانت تدير قسم الأخوات وقتها، وأخبرهن بأن عضوة جديدة ستنضم إليهن، وهي أمال العشماوي ابنة العشماوي باشا وزير المعارف وأوصاهن بها خيراً، حسب شهادة فاطمة عبدالهادي. وكانت أمال هي أول من جعل وزارة المعارف تعترف بمدارس الإخوان وتعطيها الصيغة القانونية، بل وتخصها بدعم مالي مباشر من الوزارة، مما شجع مئات الأسر على إلحاق أبنائهن وبناتهن بتلك المدارس. وكما يقول ريتشارد ميتشل، فقد كان تولي محمد حسن العشماوي المعروف بتبنيه منذ وقت فكرة إقرار التعليم الديني، وبحكم انتماء ابنته وزوجها وابنه حسن العشماوي للجماعة، عاملاً مساعداً في إقرار تقديم الإعانة الخيرية التي كانت تقدمها الوزارة للجمعيات الأهلية، وتقديم دعم مالي مباشر للطلبة الذين يلتحقون بمدارس الجماعة، بخلاف التسهيلات الأخرى من تقديم أراض بأسعار مخفضة وزي مخفض للطلبة وغيرها. وقد تعاقب على إدارة فرقة الأخوات بعد لبيبة أحمد وفاطمة عبدالهادي أمال العشماوي ونعيمة الهضيبي وزينب الغزالي.

بذور الخطاب الجهادي وحضور المرأة

كانت مسألة الجهاد حاضرة في معظم رسائل حسن البنا، إلا أنها كانت تركز في تلك الحقبة على التربية الروحية والتضامن وإرسال التبرعات إلى فلسطين وتهريب السلاح إليها، وقد شاركت لاحقاً مجموعات إخوانية في القتال إلى جانب مجموعات جهادية فلسطينية، وبدأت تتكون لديهم خبرات عسكرية حيث اشتهر الجهاز السري للإخوان والمعروف باسم “النظام الخاص”، وعلى الرغم من ذلك بقيت المرأة -بحسب رؤية البنا- بعيدة عن هذا المجال، وهو ما تؤكده فاطمة عبدالهادي في مذكراتها، حيث لم يتخط دورها الرعاية الاجتماعية والعائلية لأفراد التنظيم ممن هم في السجون أو المعتقلات وجمع التبرعات لهم. وبعد ثورة 1952 تعرض الإخوان لملاحقات قوية إثر قيامهم بمحاولة اغتيال جمال عبدالناصر عام 1954 في الإسكندرية ومن ثم تدبير محاولة انقلاب في ما بعد عام 1965، وفي سياق تأزم العلاقة مع النظام الناصري بدأت تتشكل رؤية إخوانية جديدة تولى التنظير لها مجموعة من مفكري الإخوان أمثال عبدالقادر عودة، إلا أن التأثير الأبرز كان على يد سيد قطب الذي دشن مرحلة أيديولوجية جهادية راديكالية في مواجهة ما اعتبره أنظمة الجاهلية المعاصرة.

 تأثر سيد قطب بكتابات أبي الأعلى المودودي الذي كان يربط بين “الجاهلية المعاصرة” كواقع تعيشه الأمة اليوم، وبين “حاكمية الله” كمنهج يجب أن تستعيده الأمة مستقبلاً. إلا أنه يشحن مفهوم حاكمية الله بمحتوى نظري سيترك أثره على كل الحركات الإسلامية مستقبلاً. فهو يعتبر أن الدولة الإسلامية يجب أن تقوم على أساس واحد وهو: “حاكمية الله الواحد الأحد، وإن نظريتها الأساسية هي أن الأرض كلها لله وهو ربها والمتصرف في شؤونها. فالأمر والحكم والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب، بل ولا للنوع البشري كافة شيء من سلطة الأمر والتشريع. فلا مجال في حظيرة الإسلام ودائرة نفوذه إلا لدولة يقوم فيها المرء بوظيفة خليفة الله”[9].

 وفي تحليل فكر سيد قطب نجده في كتابه الذي خطه في السجن “معالم في الطريق” ينطلق من حيث انتهى المودودي، فيعتبر العالم اليوم -بما فيه العالم الإسلامي- يعيش جاهلية مدمرة شبيهة بتلك التي كانت قبل الإسلام، إلا أن قطباً أعطى لطروحات المودودي بعداً  حركياً  وذهب بها إلى المدى الأقصى، فحكم بكفر الأمة وليس المجتمع وحده أو الدولة فقط، شاملاً الحاضر وأربعة عشر قرناً من الماضي، ولم يستثن إلا الخلافة الراشدة في عهديها الأولين، إذ قال: “ليس على وجه الأرض مجتمع قرر فعلاً تمكين شريعة الله وحدها ورفض كل شريعة سواها” فالأمة الإسلامية بنظره “انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق الأرض جميعاً”. ويضيف في مكان آخر: “إن الناس ليسوا مسلمين كما يدعون. وهم يحيون الحياة الجاهلية.. هذا ليس إسلاماً وليس هؤلاء مسلمين. والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام ولتجعل منهم مسلمين من جديد”. وهو يعتبر أن “إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها… إن الحكم الذي مرد الأمر فيه للبشر يجعل بعضهم أرباباً من دون الله”. ويخلص إلى أنه لا بد من تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض… ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم… ولكنها تقوم بانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد، ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وإلغاء القوانين البشرية.

 سوف تجد أطروحة سيد قطب تجاوباً من طرف الأخوات المسلمات، فضلاً عن تحولها إلى ما يشبه “المانيفستو الجهادي” المعاصر بالنسبة لكثير من الإسلاميين، وتعتبر زينب الغزالي من أشهر هؤلاء اللواتي تأثرن بنهجه، وهي التي تعتبر من الشخصيات النسائية البارزة في الإخوان المسلمين وسجنت عام 1965 ضمن ملف الأحكام المتعلقة بمحاولة قلب نظام الحكم حينها، وسجلت تجربتها في السجن في كتاب بعد خروجها منه بعفو أصدره الرئيس أنور السادات. في كتابها تقدم الغزالي سيرة جهادية طافحة بالمفاهيم القطبية، حيث احتفى بصدوره الإخوان المسلمون الذين حولوا كاتبته إلى “أيقونة” ورمز نسائي جهادي. زارت الجبهة الأفغانية أثناء الجهاد ضد الاحتلال السوفيتي في الثمانينيات أكثر من مرة، وتتناول الغزالي مفهوم الجهاد ومركزيته لإقامة الدولة الإسلامية وتحدد الأدوار الجهادية للمرأة في مقالة مكثفة جاءت بعنوان “إلى ابنتي.. حب الجهاد”تدعو فيها الأمة، أفراداً وجماعات إلى مراجعة نفسها، لتضع الجهاد وفقه الاستشهاد على رأس اهتماماتها، وتختمها بضرورة أن يتربى أبناؤنا على حب الجهاد والبذل والعطاء والتضحية من أجل رفع لواء الإسلام من جديد مخاطبة ابنتها: “دورك يا ابنتي يكون في إيقاظ روح الجهاد وحب الشهادة في زوجك وأبنائك”.

 أينعت البذور القطبية في إطلاق تيار إسلامي يتبنى العنف منهجاً للتغيير، بدءاً بـ”جماعة التكفير والهجرة” التي قادها شكري أحمد مصطفى إلى تنظيم “شباب محمد” الذي قاده صالح سريةومروراً بالجماعة السلفية الجهادية التي تكاثرت في أكثر من مكان من العالم العربي، والتي كان أبرزها جماعة الجهاد التي قدم أميرها محمد عبدالسلام فرج أفكاره في وثيقة “الجهاد: الفريضة الغائبة” بداية عام 1980، والتي تعتبر الأساس النظري الذي مهد لاغتيال السادات، هذا فضلاً عن “الجماعة الإسلامية” التي بدأت كحركة إحيائية ثم تحولت إلى جماعة جهادية. كل هذه الجماعات وغيرها حافظت على الطابع الذكوري، وبقيت فيها أدوار النساء مقتصرة على الدعم والإسناد بحكم صلات النسب والقرابة، فهي لم تتعد بعض الأدوار اللوجستية والخدماتية.

 وفي حقبة الجهاد الأفغاني التي بدأت عام 1979 ازدهر ما يعرف بالجهاد العالمي للدفاع عن البلدان الإسلامية التي تتعرض لعدوان خارجي باعتباره “فريضة شرعية” واجبة. وقد استقطب هذا الجهاد رموز السلفية الجهادية ومنظريها، وفي مقدمتهم عبدالله عزام وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وبرز فيه جيل جديد من المنظرين والقيادات أمثال: أبي محمد المقدسي، وأبي مصعب السوري، وعبدالقادر عبدالعزيز، وأبي قتادة الفلسطيني، الذين عملوا على تطوير خطاب جهادي يستند إلى تراث الوهابية والقطبية وإحيائه لمفاهيم ومصطلحات تؤسس لأيديولوجيا جديدة، كالحاكمية والولاء والبراء والطاغوت، والعدو البعيد والعدو القريب، والنكاية والتمكين، إلا أن الخطاب المتعلق بالمرأة ومشاركتها بقي ضمن المفاهيم التقليدية المتعلقة بدور المساندة ويمكن القول في المحصلة بأن دور المرأة في الجماعات الجهادية قبل بروز تنظيم القاعدة وأحداث “سبتمبر (أيلول) 2001” كان مرتكزاً بشكل أساسي على دور لوجستي هامشي، فضلاً عن دورها الدعوي والدعائي والرعائي والأخلاقي كمربية لجيل من الجهاديين ورفض مشاركتها في الأعمال القتالية.


[1]*  أستاذ جامعي وباحث أكاديمي لبناني متخصص في الحركات الإسلامية.

[2]– أميمة أبو بكر (تحرير)، “النّسويّة والمنظور الإسلاميّ”، القاهرة، دار الكتب المصرية، 2013.

[3]– صدر الكتاب في بيروت عن المكتب الإسلامي، تعليق: الشيخ ناصر الدين الألباني، بلا تاريخ.

[4]– حسن البنا: مجلة المنار، الجزء الثامن والعاشر، عام 1359 هجرية وقد كتبها في فترة رئاسته لتحرير المجلة بعد وفاة رشيد رضا وأعاد نشرها محمود الجوهري ومحمد عبدالحكيم خيال في كتاب: الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية، دار الدعوة للطباعة والنشر، الإسكندرية، ط2، 1993، ص37-45.

[5]– محمود، الجوهري ومحمد، عبدالحكيم خيال، مرجع سابق، ص232.

[6]– فاطمة، عبدالهادي، رحلتي مع الأخوات المسلمات، من الإمام الشهيد حسن البنا إلى سجون عبدالناصر، دار الشروق، القاهرة، 2011، ص6-7.

[7]– محمود الجوهري، مرجع سابق، ص235.

[8]– فاطمة عبدالهادي، المرجع السابق، ص5.

[9]4– أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهدية السياسة والقانون والدستور. دمشق، دار الفكر، 1969، ص77-78.

[10]– سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشرق، 1983، ص39.

[11]– المرجع السابق، ص8.

[12]3– نفسه، ص173.

[13]4– نفسه، ص67.

[14]5– نفسه، ص68.

[15]– زينب، الغزالي، أيام من حياتي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1999.

[16]– زينب، الغزالي، إلى ابنتي.. حب الجهاد. نشرت على موقع مركز الشرق العربي (07/06/2012) على الرابط التالي:

[17]– شكري مصطفى (1942-1978) من مواليد أسيوط، وقد كان من جملة العناصر الإخوانية التي قبض عليها في الستينيات وأفرج عنه عام 1971 بعفو من الرئيس السادات، إلى أن أعدم (عام 1978) بعد أن قامت جماعته باختطاف الشيخ الذهبي وزير الأوقاف المصري وقتله.

[18]– صالح سرية (1937-1976)، انتمى في بداياته إلى الإخوان المسلمين إلى أن أسس منظمة بداية السبعينيات عرفت باسم تنظيم الفنية العسكرية التي حاول الاستيلاء عليها، حيث صدر بعدها حكم بإعدامه عام 1976.

[19]– محمد عبدالسلام فرج (1942-1982): تخرج في كلية الهندسة وتولى منصب أمير تنظيم الجهاد، ونجح باستقطاب خالد الإسلامبولي والتخطيط معه لاغتيال الرئيس السادات عام 1981 ثم أعدم عام 1982.

[20]– راجع تفصيلاً لهذا في: محمد، أبو رمان، وحسن، أبو هنية، عاشقات الشهادة، تشكلات الجهادية النسوية من القاعدة إلى الدولة الإسلامية، الأردن، مؤسسة فريدريش إيبرت، مك

Optimized by Optimole