الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الهوية

الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الهوية
Spread the love

شجون عربية – إعداد: علا مرشود8 –

مقدمة
إن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الممتد منذ ما قبل سنة 1948، أي منذ بدء المشروع الصهيوني في فلسطين قام على عدة ركائز أساسية تتمثل في مقولة أرض إسرائيل كمرجعية دينية لاهوتية بموجبها جعلت فلسطين أرضًا لليهود، واستراتيجية بوتقة الصهر التي تحاول من خلالها خلق هوية جامعة لكافة الأعراق والقوميات المختلفة التي هاجرت إلى إسرائيل، والدعم الدولي المتمثل بوعد بلفور بداية وليس انتهاء بصفقة القرن كركيزة ثالثة، وأخيرًا استحضار الخطر الخارجي المتمثل بالمقاومة الفلسطينية واللبنانية وإيران.
وتنبثق عن هذه الركائز قضية أساسية تعتبر امتدادًا لهذه الركائز وعلى صلة مباشرة بها، هي قضية الهوية، ونقصد بها الهوية الوطنية المستمدة من الأرض أولًا ثم من المجتمع والدين والعادات والتقاليد والجغرافيا والتاريخ وغيرها من العوامل، وفي هذا السياق تسعى إسرائيل منذ يومها الأول إلى خلق هوية غير موجودة من الأساس لشعبها المزعوم من خلال نظريات وتوجهات فكرية على المستوى الأول وممارسات متواصلة على أرض الواقع على المستوى الثاني، ولم يدخر الاحتلال جهدًا في محاولاته لخلق هوية إسرائيلية مزعومة مستخدمًا في سبيل ذلك كافة الوسائل من سرقة واضطهاد، وكذب وافتراء، وحتى القتل والتدمير والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين ومحو كل ما له علاقة بشعب فلسطين وإحلال اليهود محله.
في المقابل تقف إسرائيل عاجزة عن تحقيق مخططاتها ضد الهوية الوطينة الفلسطينية رغم كل محاولات الاجتثاث التي تمارسها، ذلك لأن الهوية الفلسطينية وعلى الرغم من المحطات الصعبة التي مرت بها منذ بدء تشكلها والتي ساهمت في إضعافها في مراحل معينة إلا أنها تبقى هوية أصيلة، ممتدة من أساس تاريخي وجغرافي وثقافي واجتماعي حقيقي غير مُدّعى أو مكذوب كما هو الحال مع الهوية الإسرائيلية المزعومة، بل وعزز الهوية الفلسطينية الصراع الذي نشأ مع المشروع الصهيوني منذ يومه الأول. ومن هنا تنطلق الإشكالية التي تنطوي عليها هذه الدراسة المتمثلة في السؤال المحوري: ما هي أبرز ملامح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الهوية؟
وبحثا عن الإجابة لهذا التساؤل ومعرفة الملامح التي انطوى عليها هذا الصراع وتحديد الممارسات والسياسات التي قام بها الاحتلال لتحقيق أهدافه فإن الدراسة تقوم على المنهج الوصفي التحليلي الذي من خلاله سيتم تحليل العديد من المعطيات لمحاولة إلقاء الضوء على ما يحيط بهذا الصراع من عوامل ومؤثرات.
وتتمثل أهمية هذه الدراسة في محاولتها إبراز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الهوية من نواحي تختلف عن ما تناولته مقالات سابقة متمثلة في الانعكاس الاجتماعي والتراثي على الهوية ومنطلقة أساسًا من هوية الأرض.
وتنقسم الدراسة، إلى أربعة محاور، يتناول المحور الأول مدخل وتعريف مفاهيمي موجز حول الهوية، فيما يعالج المحور الثاني الهوية الفلسطينية وملامحها ومنابعها ومراحل تشكلها، ثم المحور الثالث الذي يلقي الضوء على الهوية الإسرائيلية ومنبعها وأزمتها، وفي المحور الأخير جوهر مقالتنا البحثية تحليل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الهوية.
أولًا: الإطار المفاهيمي للهوية
للهوية تعريفات متعددة، حيث اجتهد العديد من الباحثين من والمفكرين والمنظرين في إيجاد تعريفات للهوية بناء على عوامل مختلفة استند عليها كل منهم، ففي المعجم الوسيط ورد تعريف الهوية على أنها حقيقةُ الشيءِ أَو الشخص التي تميزه عن غيره. أما الفارابي فعرفها بهوية الشيء: عينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المتفـرد لـه الذي لا يقع فيه اشراك، وعند ابن رشد تقال بالترادف على المعنى الـذي يطلـق عليـه اسـم الموجود .
وعند تحليل موضوع الهوية يجدر بنا التمييز بين 3 مستويات حددها علي الدين هلال على النحو التالي :
1. الهوية على المستوى الفردي، أي شعور الشخص بالانتماء الى جماعة أو إطـار إنسـاني أكبر يشاركه في منظومة من القيم والمشاعر والاتجاهات، والهوية بهذا المعنى هي حقيقـة فردية نفسية ترتبط بالثقافة السائدة وبعملية التنشئة الاجتماعية.
2. التعبير السياسي الجمعي عن هذه الهوية في شكل تنظيمات وأحزاب وهيئـات شـعبية ذات طابع تطوعي واختياري.
3. حال تبلور وتجسد هذه الهوية في مؤسسات وأبنية وإشكالية قانونيـة علـى يـد الحكومـة والأنظمة.
وفيما يتعلق بكيفية تشكيل الهوية، فعدا عن الهوية الشخصية التي تعتبر بمثابة “بطاقة تعريف” فردية، هناك هوية جمعية بخصائص مشتركة بين كل أفراد هذه الجماعة تساهم فيها عدة عوامل متعلقة في الدين ومكان السكن والعائلة والبيئة والانتماء السياسي والقومية، وقد ينتمي الفرد إلى أكثر من جماعة في آن واحد فتصبح الهوية مكونة من عدة مركبات، كأن يكون فلسطيني مسيحي شيوعي مثلًا، إضافة إلى عوامل موضوعية أخرى كالأرض واللغة والتاريخ والثقافة، فهي حصيلة صيرورة بنائية باحثة عن التجانس والاندماج في إطار الجماعة. ويمكن تقسيم العوامل التي تشكل الهوية إلى قسمين، عوامل طويلة المدى مثل الأعراق والعادات والتقاليد والدين والتربية والزمن، وعوامل أخرى قصيرة المدى مثل قوة بعض العبارات أو الجمل أو الصور والاستعارات.
أما الهوية النابعة من التاريخ والجغرافيا، فإن الانتماء عادة ما يكون مبني على أصول تاريخية، وإذا ما أراد الفرد التعريف عن نفسه أو إثبات هوية معينة له فإنه لا بد له من أن يعود إلى التاريخ وجذوره الأصلية وامتداد عائلته أو جماعته التي ينتمي لها تاريخًا، بالتالي فإن هوية الأمة هوية تاريخية والتاريخ مشكلًا لها، كما تعرف الهويات أحيانًا بانتسابها الجغرافي أي بقدر ما تكون الجغرافيا مشكلة للهوية فإنها في كثير من الأحيان متشكلة بها، وعليه تدل الخصائص الثقافية المشتركة بين أفراد مجموعة معينة على هويتها التي تعـرف بها والتي تظهر من خلال تفاعلات الحياة اليومية بين هؤلاء الأفراد على أرض أو مكان معين. اذا هذه الخصائص تنتظم في إطارين عامين كلاهما جغرافي: إطار الدولة التي يتطلـب بناؤها وجود شعب أو مجموعة كبيرة من الأفراد، وإطار الأمة التي تحتاج في بنائها إلى سـلطة سياسية توحد بين عناصرها وتضع الحدود التي تعرف بها .
ثانيًا: الهوية الفلسطينية
إذا ما أردنا تتبع تشكل الهوية الفلسطينية منذ بدايتها فلن نحصل على بداية محددة دقيقة، ذلك استنادًا على ما ذكر في المحور السابق من عدة مركبات وأبعاد تؤثر في تشكيل الهويات وعوامل طويلة المدى، بالتالي فيما يخص تشكل الهوية الفلسطينية فإن تاريخ المنطقة منذ آلاف السنين لا بد أن يكون جزءًا من هذه العوامل، ولكن ما يمكننا تحليله ودراسة ملامحه من خلال هذه الورقة هو الهوية الفلسطينية منذ أن بدء يهددها خطر المشروع الصهيوني، أي منذ انتهاء الخلافة العثمانية وبدء الانتداب البريطاني على فلسطين.
وخاصة وأن الهوية الجمعية التي كانت سائدة ما قبل الانتداب البريطاني أرجح بأنها كانت ذات ملامح دينية أوقومية عربية أو مناطقية كريف أو مدينة، وأيضًا نابعة من عادات وتقاليد اجتماعية إضافة إلى محور هام جدًا وهو التراث الثقافي وما يتضمنه من المأكل والملبس والعادات اليومية والحياتية والفنون التي تشكل محورًا أساسيًا من الهوية، ويعود ذلك إلى تأخر ظهور ملامح المشروع الوطني الفلسطيني نتيجة لكون فلسطين جزءًا من بلاد الشام بشكل عام وفي تلك الفترة تقع تحت مظلة الخلافة العثمانية والتي اعتبرت فلسطين كجزء من جنوب سوريا العربية، وهذا ما عملت بناء عليه القيادة الوطنية عند أعلنت سورية العربية استقلالها عام 1920 بقيادة الملك فيصل بن الحسين، ثم في بداية عهد الانتداب البريطاني حيث طالبت باستقلال فلسطين في إطار وحدة سوريا الطبيعية.
ومع بدء الانتداب وظهور المشروع الصهيوني في فلسطين بشكل أوضح بدأ الفلسطينيون يشعرون بالخطر الذي يهدد وجودهم، وبدأ هنا تشكل الهوية الوطنية الفلسطينية كرد فعل على الخطر الصهيوني ثم ساهمت النكبة سنة 1948 في تعزيز الهوية الفلسطينية أكثر فأكثر حيث شكل ظهور المقاومة بأشكالها المختلفة ورفض الاحتلال والإصرار على إثبات الوجود الفلسطيني والوقوف بوجه كافة محاولات الاجتثاث والتغييب بداية لمرحلة جديدة من تطور الهوية الوطنية الفلسطينية وعزز ذلك المواجهة المستمرة مع الاحتلال والثورات التي قام بها الشعب الفلسطيني مثل ثورة 36 والنكبة سنة 1948 والنكسة سنة 1967 ثم تشكيل منظمة التحرير والانتفاضتين الأولى والثانية حيث أثبتت أن العمل المقاوم يشكل عامل من عوامل تغذية الهوية الوطنية الفلسطينية.
ويمكن تقسم مراحل تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية إلى ثلاثة مراحل وهي :
المرحلة الأول، مرحلة ما بعد الانتداب البريطاني والنكبة سنة 1948
إن ما حدث في النكبة تحديدًا مهد لولادة هوية مختلفة ووضع الشعب الفلسطيني على خطوط النار، فبدلًا من أن يسعى للاستقلال كبقية الشعوب العربية الخاضعة تحت الاستعمار جاء الاحتلال الصهيوني سنة 1948 ليشرد الآلاف ويدمر ويسحق الوجود الفلسطيني ويخلق هوية جديدة تسمى “هوية اللاجئ”، التي حملت معها جذور تشكلها في فلسطين على مدار سنوات خلت قبل النكبة وإرثها التاريخي والجغرافي والتراثي وكذلك المعاناة التي ظلت سمة بارزة في هوية اللاجئ خاصة في المخيمات على اختلاف توزعها في الداخل الفلسطيني والخارج أي “الشتات”.
أما المرحلة الثانية، مرحلة ما بعد النكسة سنة 1967 وحتى اتفاق أوسلو سنة 1993
شكل ظهور منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست عام 1964 وانطلاقة حركة فتح في الأول من كانون الثاني/يناير ١٩٦٥ بوصفها ذروة الوعي الجمعـي الفلسـطيني بهويته التحريرية الكفاحية في مواجهة “نكبته” التي تسبب بها المشروع الاستعماري الصـهيوني ثم سيطرة حركة فتح على قيادتها، لحظة تحول مفصلية في منحى صعود الهوية الوطنية الفلسطينية، وأخفت المنظمة بامتداداتها في الشتات بعدًا مؤسساتيًا للهوية الفلسطينية يعبر عنها ويتحدث باسمها وينظم الحالة الثورية، ويوحد صفوفها بتبني الكفـاح المسلح منهجًا وسلوكًا كخيار وحيد لإنجاح مشروع التحرير، تلى هذه المرحلة مرحلة ركود إلى أن جاءت الانتفاضة الشعبية الأولى عام ١٩٨٧ والتي ساهمت من جديد في تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية.
وتتمثل المرحلة الثالثة، في ما بعد اتفاق أوسلو سنة 1993 وحتى سنة2022، مرورًا بالانقسام الفلسطيني الفلسطيني سنة 2006
إن اتفاق أوسلو الذي استمد اسمه من المدينة النرويجية التي عقد فيها والذي وقعه الشهيد ياسر عرفات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين سنة 1993 كأول اتفاقية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بعد مفاوضات سرية استمرت لمدة سنتين والتي تم الاعتراف بموجبها بإسرائيل من قبل منظمة التحرير، واعتراف إسرائيل بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، كما سبب هذا الاتفاق شرخًا كبيرًا في المجتمع الفلسطيني وأدى إلى تراجع أهمية القضية الفلسطينية عربيًا وعالميًا، فقد أضر أيضًا بمقومات الهوية الوطنية الفلسطينية، فأحدث شـرخًا فـي وحـدة الشعب الفلسطيني وضرب بالتالي هويته الوطنية وكان مقدمة للمرحلة التي تلتها من انقسام أسود في أواخر سنة 2006 والذي بدأت ملامحه في التشكل منذ الانتفاضة الأولى مع ظهور حركة حماس وظهور الهوية الثنائية في المجتمع الفلسطيني المتمثلة في القوى الوطنية والقوى الإسلامية ما أدى إلى تشتيت وحالة من التوهان في الهوية الوطنية الفلسطينية.
وفي هذا السياق، فإن الشكل الحضاري المنبثقة ملامحه من الأرض التي يعيش فوقها الفلسطيني والموروث الثقافي الفلسطيني الممتد عبر كل هذه السنوات فاكتسب من طبيعة سهولها وجبالها ووديانها ومروجها عاداته في الحياة والعمل والمأكل والملبس وحتى الفن، تأثر بهذه المحطات بالضرورة ولكنه تأثُر يبني ويأصل ويعمق الهوية رغم ما مر ولا زال يمر به من محاولات سرقة واجتثاث وتهويد وتزوير في محاولة من الاحتلال لتطبيق مقولته التاريخية المزعومة “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”.

ثالثًا: الهوية الإسرائيلية
إن الهوية بمثابة الوعاء الثقافي لتاريخ أو ثقافة أو حضارة الإنسان، وإن لهذه الهوية ارتباطًا وثيقًا مع سلوك الشعوب صاحبة الهوية. حتى في نمط تعامل هذا الشعب مع الآخرين، وفي انطباعاته حول قضايا معينة؛ فالهوية بطبعها تصبغ المجتمع بأفراده وجميع مكوناته بصبغة خاصة تجعل من المجتمع أكثر ترابطًا وتناسقًا فيما بينه وأكثر ارتباطًا بطموحات هذا الشعب.
وقد وعى الآباء المؤسسون للدولة المزعومة هذه الصلة الوثيقة بين وجودهم وتمكنهم حقيقةً وبين قوة حضور هويتهم وتأصلها في نفوس الشعب اليهودي، المعول عليه بحمل الشمعدان السباعي واحتلال فلسطين، واستبدال هويته المتأصلة منذ دهور طويلة بهوية أخرى.
ولكن هل هناك حقًا هوية إسرائيلية؟ قبل أن نشرع في الإجابة عن هذا التساؤل علينا في البداية أن نحلل وندرس الشكل الذي كانت عليه “إسرائيل” قبل سنة 1948، فلا يخفى على أي باحث ومتتبع لتاريخ بدء هذه الدولة المزعومة أنه لم يكن لا في فلسطين ولا في أي مكان في العالم دولة أو حتى قرية صغيرة تدعي إسرائيل سوى في متون الكتب الدينية اليهودية وفي نظريات وأفكار بعض المنظرين للحركة والمشروع الصهيوني، حتى أن فلسطين لم تكن خيارهم الأول لقيام دولتهم فكانت الأرجنتين مرجحة أكثر لدى هرتزل وكذلك أوغندا لعدة أسباب أولها اختلاف المناخ والتضاريس الذي لم يعتد عليه اليهود في أوروبا مما سيضعف الهجرات اليهودية إلى فلسطين.
إن كان هناك هوية إسرائيلية، فإن منبعها الأساسي ديني بحت وقد يكون هو العامل الوحيد الذي يجمع اليهود، فالمجتمع الإسرائيلي الذي تكون بعد النكبة وقيام دولة إسرائيل سنة 1948 نشأ نتيجة للهجرات اليهودية من أصقاع العالم على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وبيئاتهم، فكل من يدين بالديانة اليهودية شرعت له أبواب الهجرة، فتعددت المشارب الفكرية والأيدلوجية والقوميات مما خلق أزمة واضحة في الهوية الجمعية الإسرائيلية فحاولت إسرائيل من خلال سياسة بوتقة الصهر خلق تجانس في المجتمع إلا أن سياستها هذه فشلت.
وبرز التنافر في المجتمع الإسرائيلي على أكثر من بُعد لكل من هذه الأبعاد منطلقاته التي تشكل هوية منفصلة فمن جهة انقسم المجتمع الإسرائيلي إلى علمانيين ومتدينين ومن جانب آخر انقسم المجتمع الإسرائيلي إلى أربع هويات وقوميات طائفية إضافة إلى أبعاد قومية وأبعاد إسرائيلية وصهيونية أخرى، وللتأكيد على المنبع الديني للهوية الإسرائيلية نعرج سريعًا على المضامين الفكرية حول الهوية التي تؤثر في صناعة القرار الإسرائيلي تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي :
1. الهوية اليهودية الدينية “الاستعلائية” فحواها أن لليهود هوية خاصة قوامها التفوق والاستعلاء على الآخرين
2. الهوية اليهودية الدينية “القومية” هذه الهوية تقوم على اساس مفـاده أنهـا تعبر عن انعزالية عن العالم.
3. الهوية اليهودية “الإسرائيلية” و يدعو اصحاب هذه الهوية الحكومات الإسرائيلية إلى تحقيق عملية الترحيل الكامل للفلسطينيين “الترانسفير” ورفض مبدأ إعادة الأراضي للفلسطينيين والسوريين، واتخاذ إجراءات رادعة لمواجهة مشروع دولة فلسطين بين البحر والنهر.
4. الهوية اليهودية الدينية “الطائفية” ويجسد الدعوة إلى هذه الهوية اليهـود الغربيـون ويطلـق عليهم “الأشكناز” وهم الجماعة الأكثر تأثيرًا والأكبر عددًا، وشكلوا الغالبية الساحقة مـن صـناع القرار في إسرائيل واليهود الشرقيون ممن هاجروا من دول إفريقيا وآسـيا والشـرق الأوسـط، أطلق عليهم السفارد، ويهود الصابرا ذوي الأصول المختلطة ممن ولد في إسرائيل.
ونظرًا لأن المجتمع الإسرائيلي لم يمتلك يومًا مقومات الشعوب والتي وردت في تعريف مصطلح شعب في قاموس المعاني الجامع والذي تضمن أن الشَّعْبُ: جمهور، جماعة كبيرة من الناس تسكن أراضي محدّدة وتخضع لنظام اجتماعيّ واحد وتجمعها عادات وتقاليد وتتكلَّم لسانًا واحدًا، فاليهود لم تجمعهم أرض محددة ولم يحكمهم نظام سياسي أو اجتماعي واحد إلا بعد النكبة واحتلالهم لفلسطين فلم يحملوا معهم إرثًا حضاريًا وثقافيًا واحدًا يخلق نوع من التجانس بين أفراده بل تعددت البيئات والطوائف وحملت كل منها ثقافة بيئتها الأصلية فاختلفت العادات واللغات وحتى طبيعة المأكل والملبس وصار على إسرائيل أن تصنع موروثًا ثقافيًا مكذوب وتصيغ شكلًا حضاريًا مُختلق ومستل من الأرض التي سرقتها أولًا والشعب الذي طردته وطهرته عرقيًا وأحلت شعبها المستحدث بدلًا عنه، ولم يكن لهم إرثًا جغرافيًا يساهم في تشكيل هوية جامعة لهم.
إذًا فالهوية الإسرائيلية تكاد تكون غير موجودة من الأساس، وإن وجدت فإنها تعيش أزمة ممتدة منذ القرن الثامن عشر لم تفلح كافة سياسات الدولة في حلها، وواجهت إسرائيل حقيقة أن اليهودية وحدها كديانة لا تكفي لتعزيز الهوية كما فشلت اللغة العبرية التي حاولت من خلالها توحيد هذه الفئات المتنافرة وبعد مرور أكثر من سبعة عقود على تأسيس دولة إسرائيل، مازلت تواجه أزمة حقيقية في الهوية، والتي تعتبر أهم ركائز بناء وبقاء هذه الدولة، حيث يواجه غالبية المجتمع الإسرائيلي اليهودي أزمة في تحديد هويتهم، كما يواجه الإسرائيليين بشكل عام مشكلة في تحديد الرابط الذي يجمعهم.
وأخيرًا، فإن للهوية ثلاثة سمات أساسية، وهي: الإنسانية، الأولية، التاريخية، ويقصد بالأولى: اختصاص هذه الهوية بالإنسان. ويقصد بالثانية: دوران علة وجود أولية الهوية مع وجود الإنسان أولًا، فأينما وجد الإنسان وجدت الهوية، وأحد أخص وأبرز مكونات هذه الهوية اللغة، وأول ما علم الله للإنسان (آدم) كان اللغة. ويقصد بالثالثة: امتداد الهوية عبر تاريخ الشعب أو الأمة وتأثرها الوثيق به، وتأثيرها به. فالهوية تتأثر بطول تجربة الشعب وقد تتقدم وقد تتأخر معه، وهذا في حد ذاته ليس امتيازًا أو عيبًا أصلًا، بل هو سمة أساسية من سمات الهوية.
وهذه الأخيرة هي أبرز ما فقدته دولة الكيان الصهيوني في إطار تشكيل هويتها القومية. وفي ضوء هذا الشتات التاريخي والانقطاع الطويل بين ما هو مؤرخ حقيقة ومثبت، وبين ما لم يثبت، كان التحدي حقيقيًا للمؤسسين في سد هذا الفتق الكبير في مشوار تكوين الهوية والتراث للكيان المزعوم.
وفي هذا السياق سلك المؤسسون مناحي كثيرة لتعويض هذا النقص، فبداية حرصوا على مكون من أهم مكونات الهوية، ألا وهو اللغة. فبذلوا الجهد الجهيد في إحياء اللغة العبرية وإخراجها من حيز الكنيس إلى عامة اليهود حتى أن بعض الحاخامات قد حرموا على أنفسهم الحديث بغيرها، ومن المناحي الأخرى التي سلكوها في إطار خلق الهوية وإيجادها: إيجاد حلم الأرض الواحدة التي تجمع امة اليهود، فكما أن الهوية تجمع وتربط، فالاتفاق في الحلم والغاية يخلق ويكون الهوية، ووجود الأرض المشتركة لهذه الأمة (حلما، أو شبه حقيقة فيما بعد) من أبرز ما يساعد على نشوء الهوية، عدا عن إحياء المعتقدات الصهيونية في نفوس هذه الأمة، وإعادة تمسكها بعقيدتها الأولى، فكل هذا اجتماعا وتكاملًا كان محاولًة في تنشئة الهوية للدولة المزعومة .
رابعاً: الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الهوية
إن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي شمل كافة الميادين بدءًا من الصراع على الأرض والحدود وليس انتهاءًا بالصراع على الهوية التي اجتهدنا في المحاور السابقة في محاولة توضيح معنى الهوية وتحليل ملامح الهوية الفلسطينية وإلقاء الضوء على أزمة الهوية الإسرائيلية من خلالها.
وفي ضوء ما سبق يسعنا الآن استطلاع ملامح “الصراع الاجتماعي” الذي ينطوي على المفهوم الوجودي الإحلالي الذي تمارسه إسرائيل من خلال سياسة التطهير العرقي فتمحو إسرائيل وتزيل كل ما يثبت الوجود الجسدي والتاريخي والثقافي للشعب الفلسطيني المهجر من المنطقة وتحل محله مسميات خاصة بها على أنقاض الوجود الفلسطيني، ففي القرى والمدن المهجرة سنة 1948 بعد أن قام الاحتلال بتدمير 394 قرية فلسطينية وطمس معالمها، واقامة المستوطنات الإسرائيلية عليها سرقت إسرائيل المنازل الفلسطينية التي بنيت بأيدي وملامح فلسطينية وشيدت بزيت الزيتون ورفعت عليها أعلام دولة إسرائيل وأسكنت فيها مستوطنيها القادمين من شتى أصقاع العالم، وضمن محاولاتها المتواصلة لخلق هوية إسرائيلية أطلقت على القرى والمدن أسماء عبرية مستمدة من التوراة لتعطيها بعدًا دينيًا يوحي للسامع بأصالتها زورًا.
إن قادة إسرائيل حاولوا أن يصنعوا ماضيًا ليصبح لهم مستقبل وسرقوا التراث من عدة حضارات مختلفة إضافة إلى محاولات سرقة التراث الفلسطيني، فحتى عملة الشيقل التي تعتمدها إسرائيل كعملة رسمية هي في الأساس عملة بابلية عراقية يقصد بها وحدة الوزن الفضية، ثم تعامل الإحتلال أكاديميًا مع التراث الشعبي الفلسطيني من حيث جمع المواد التراثية وأرشفتها، والإدعاء بملكية هذا التراث.
تاريخيًا تحتضن فلسطين موروثًا تراثيًا طويلًا تعود جذوره لآلاف السنين، لكن هذا الموروث يتعرض لسرقة متواصلة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، الذي ينسب تاريخه لليهود أو يذهب به دوليًّا لعرضه وتقديمه على أساس أنه تراث إسرائيلي، ويبذل صُناع القرار في دولة الاحتلال كل جهودهم لدعم سرقة التراث الفلسطيني ومحو هويته الأصلية باحثين عن هوية يهودية على حساب الهوية الفلسطينية في محاولة منهم لتثبيت روايتهم المزعومة مقابل الرواية الأصلية لأصحاب البلاد، وتحاول بعض المؤسسات الفلسطينية حماية هذا الإرث، إلا أنها تواجه اعتداءات متواصلة من قبل الاحتلال في محاولة لاعاقة عمل المؤسسات الراعية للتراث، بتهديدات الأفراد القائمين عليها، واعتقالهم ووضعهم تحت الاقامة الجبرية.
وفي هذا السياق تشير بعض الدراسات إلى وجود أكثر من 3300 من المواقع الأثرية في الضفة الغربية لوحدها ويؤكد مجموعة من الباحثين أنه في كل نصف كيلو متر من مساحة فلسطين التاريخية يتربع موقع أثري ذو قيمة ودلالة على الهوية الحقيقية لفلسطين.
ومن هنا تجدر الإشارة إلى أن دولة الاحتلال خلال الأعوام الأخيرة أعلنت مشاركتها في العديد من المعارض في أنحاء مختلفة من العالم، وتخلل مشاركتها عرض أزياء ومأكولات فلسطينية باعتبارها إسرائيلية، ولم تتوقف دولة الاحتلال بعد إحكامها السيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة في الخامس من حزيران / يونيو 1967، عن ممارساتها الهادفة إلى سرقة كل ما هو فلسطيني وتهويد الآثار والتراث من خلال التهويد الزماني والمكاني التام في نهاية المطاف.
كما أن الاحتلال كان قد سرق الأحجار القديمة المرتبطة بالتاريخ الكنعاني “وصنع منها أسوار الجامعة العبرية ومستشفى هداسا”. ولا يخفى أيضًا على أحد سرقة الاحتلال للمأكولات الفلسطينية الشعبية كالفلافل والحمص وتقديمها دوليًا على أنها تراث إسرائيلي. ومن ذلك أيضًا تقديم الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من 5000 قصة تراثية شعبية فلسطينية لمنظمة “يونسكو” باعتبارها قصص إسرائيلية، كما ترتدي مضيفات شركة “العال” الإسرائيلية الثوب الفلسطيني المطرز، بل إن الاحتلال أنتج كوفية جديدة سرق ملامحها من الكوفية الفلسطينية مع تغيير الألوان، وتأتي هذه المحاولات لتشريع وجود اليهود في فلسطين.
ولا يمكننا الإنكار بأن الدولة الصهيونية نجحت جزئيًا في خلق هوية خاصة بها سواء من خلال المناحي السابقة التي ذكرناها أو من خلال مكونات أخرى عمد اليهود إلى إحياءها، ولكن الحقيقة أن كل هذا العمل والجهيد الجهيد في خلق الهوية، لم يكن كافيًا لتحقيق هوية حقيقية يرضى عنها اليهود، أو أن يستغني بها عن غيرها من الهويات، ففقدان إحدى السمات الأساسية لهذه الهوية، أبقى من هذا الجهد ناقصًا، نقصًا لا يعوضه المزيد من الجهد، ولا يعوض، وفي سبيل تعويض هذه العقدة (عقدة النقص)، دأب اليهود على السرقة من التراث الفلسطيني ونسبه لهم، أملًا في إيجاد رواية تاريخية خاصة بهم لم توجد أصلًا، وهذا مما هو مشتهر وذائع، ويضيق المقام عن ذكره، وليس هذا مقصود المقالة.
وفي خطوة أخرى لتعويض هذا النقص، عمدت دولة الكيان لتدمير حضارة الآخر وهويته الفلسطينيون ومسحها من الوجود، فعمدت إلى مسح القرى الفلسطينية من الوجود، وتدميرها تدميرًا لا يبقى معه أثر، ظنًا منهم أن اختفاء الآخر قد يكون أملًا في وجودهم.
وعلى نحو مكمل أكد مؤرخون ناقدون للحركة الصهيونية، مثل الدكتور إيلان بيبيه، بدورهم على “أن اختفاء القرى الفلسطينية من مواقعها هو جزء من سياسة منهجية مبرمجة لطمس وجودها من أجل بلورة تاريخ جديد يتلاءم مع الرواية الصهيونية التي تدعي أن البلاد كانت فارغة وأنها تحولت إلى أرض خضراء مزدهرة بسبب نشاطات الكيرن كييمت وأمثالها”.
الخاتمة:
شكلت الهوية محورًا هامًا في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ذلك لأن فكرة الاحتلال الإحلالي قامت أساسًا على نفي وجود الشعب الفلسطيني هو أساس الفكرة الصهيونية وبدون هذا الزعم تفقد الصهيونية أهميتها ومبرر وجودها- فمن أجل اختراع شعب كالشعب اليهودي، كان لا بد من طمس وجود شعب آخر، وطمس الوجود يعني طمس الهوية، ولما كانت الدولة المستحدثة فاقدة لأهم عنصر من عناصر استمراها وهو الهوية القومية والجمعية كان من الأسهل عليها سرقة الهوية الفلسطينية الممتدة من الأرض التي سرقتها ونسبها لها ومحاولة إضفاء طابع يهودي تاريخي عليها وخاصة بعد فشلها في تحقيق أهدافها في دمج القوميات والأقليات الإثنية والعرقية المختلفة المكونة للمجتمع الإسرائيلي.
ويتضح من المحاور التي ناقشها المقالة، أنه على الرغم من المحطات المفصلية التي مرت بها الهوية الوطنية الفلسطينية خلال تشكلها والصراع المحتدم مع إسرائيل ضدها إلا أنها استطاعت الصمود أمام كل محاولات الاجتثاث والتزوير والطمس ويعود ذلك لكونها أصيلة ومتعددة الأبعاد مثل البعد التاريخي والجغرافي والاجتماعي والديني بعكس الهوية الإسرائيلية التي تواجه أزمة منذ بدء تشكلها نتيجة افتقارها للأبعاد آنفة الذكر واقتصارها على البعد الديني كركيزة أساسية ووحيدة لم تكن كافية لتشكيل هوية قومية جمعية.

*باحثة في دراسات الشرق الأوسط – الجامعة العربية الأميركية، فلسطين.

Optimized by Optimole