الرسام الهولندي “رامبرانت”

الرسام الهولندي “رامبرانت”
Spread the love

بقلم:بشار خليف – دمشق |
المقدمة:
نحن إزاء نمط فني تشكيلي مألوف – أقصد فن التشكيل عند رامبرانت – فالواقعية أنداك / في القرن 17 / كانت قد أرست مداميكها بقوة وكان رامبرانت أحد أساساتها مع منعطف جديد في مساره قد نطلق عليه – لعبة لونية – أو اختراق حاجز الصحيح والبهي دائماً إلى خلق مجموعة متناقضات يقوم الإنسان والكون عليهما.
ولا يمكن دراسة فن رامبرانت ما لم نلم ولو بإيجاز بتطور الفن وتطور النقد الجمالي لأننا إن لم نفعل ذلك فلربما أصبحنا بعيدين عن المحور فيما يمثله فن رامبرانت واشتغاله.
فكما أن الحضارات الانسانية هي نتاج تراكم للمعرفة الإنسانية كذلك فإن ما آل إليه الفن المعاصر لهو حصيلة تراكم فني بدأ منذ رسومات إنسان الكهوف منذ حوالي 30000 سنة ويزيد / مروراً بفنون التاريخ وحتى تدخل الحالة العقلانية عبر الحضارة اليونانية تم عصر النهضة إلى فننا المعاصر في العالم.
عبر هذه اللمحة البانورامية يمكننا أن نشير إلى موضع رامبرانت وفنه، ماذا أخذ عن الدفق الفني في عصره، وماذا أزاد، وهذه الريادة ولنقل المنعطف – ماذا قدمت لحركة التشكيل عبر مسارها التاريخي.
ولا بد أن نشير في ختام هذه المقدمة إلى حقيقة مؤداها: أن الفن وإن كان هو أرقى وأسمى أساليب التعبير الفردي عن العواطف والانفعالات / وربما الفكر / فإنه يظهر دائماً في وسط اجتماعي وثقافي معين ويبقى حاملاً مضامينه الاجتماعية والثقافية.
وربما لم يشر رامبرانت عن هذا، لكنه أضفى على فنه حالة – الاستبطان – وعلى الأقل أدخلَ آلية الصراع التي حكمت وجود الانسان وخلق الكون. وتجلى هذا باستخدامه للتعاكس اللوني والاضاءة على لوحاته مما شكل حالة مميزة، عن فن الواقع كما يجب إلى فن الواقع الذي تكتشفه المتناقضات / كما هو /.

عصر رامبرانت وحياته:
لعل استقرار الحياة السياسية ومن ثم الاقتصادية – الاجتماعية في هولندا خلال القرن السابع عشر كان له دوراً أساسيا في تطور الفن وحركته في هولندا.
مما يميز هولندا في ذلك الحين هو استقرارها بعد حروب شديدة مع بريطانيا وفرنسا واسبانيا أساسها العامل الاقتصادي والمصلحي.
فبعد انتهاء تلك الحروب اتجهت هولندا نحو تأسيس حياة اقتصادية كان أساسها النشاط التجاري في الشرق وفي افريقيا، هذا الأمر جعل ميناء أمستردام من أضخم وأكبر موانئ العالم آنذاك، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان لتأسيس شركات تجارية وزيادة المستعمرات الهولندية دوراً قوياً في إرساء حياة اقتصادية – اجتماعية – انعكست على أوجه الحياة الهولندية فنياً ومعيشياً.
هذا الأمر انعكس بدوره على الفنانين، حيث تبين أنه في عام 1650 كان هناك حوالي 300 رساماً في أمستردام وحدها وهؤلاء كانوا يستهوون مهن الرسم والفن بمعنى أنها كانت مصدر رزقهم.
كما أن ارتفاع أحوال المعيشة ونموها جعل تقريباً كل بيت يقتني لوحة لرسامي هولندا.
فمن هذا الإطار يمكننا أن نحدد موقع رامبرانت الاقتصادي – الاجتماعي لتكشف عن عالمه الفني سواء في الرسم أو الحفر على المعدن.
فمن نشوء طبقة غنية في المجتمع إلى نشوء فن لهذه الطبقة عن طريق رسم وجوه شخوصها كل هذا انعكس في لوحات رامبرانت، كل هذا أسس لنشوء ربما نظرة جديدة في غاية الفن عند رامبرانت.
ولعلنا سنتوسع في هذا الموضوع حين الوصول إليه.

حياته:
ولد رامبرانت عام 1606 في ليدن بهولندا، ابن طحان، وفي المدرسة اللاتينية في مدينته أمضى سبع سنوات ليلتحق وهو في 15 من العمر بجامعة المدينة التي لا يلبث أن يتركها متعرفاً على مصور يرسم المناظر الهندسية المعمارية ورسوم للبيع .
ويمضي بعد ذلك ستة أشهر في محترف الفنان بيتر لاستمان حيث تأثر رامبرانت بفنه بشكل عميق، كان لاستمان يعد من أهم مصوري المواضيع التاريخية والاسطورية في أمستردام.
بعد ذلك يعود رامبرانت إلى ليدن مدينته وينشئ محترفه الخاص وينضم إليه فنان اسمه جان لينفير.
عام 1634 يتزوج من ساكيافان أولينيرس ابنة عمدة أمستردام وكان ثرياً وقد أثر عليه الزواج بشكل إيجابي في البداية من ناحية الشهرة ومن ناحية الفن حيث رسم زوجته في عدة لوحات كما رسم ابنه الأول زامبارتوس الذي توفي بعد شهرين من ولادته، ثم رسم ابنه الصغير تيتوس.
عام 1639 يشتري منزلاً ويقسط دفع ثمنه على خمس سنوات لكن ظروفاً تؤثر عليه أهمها وفاة زوجته في الخمسينيات من القرن وكتابة وصيتها وثروتها إلى ابنها تيتوس جعله يدخل في طور الفقر والافلاس حيث يباع منزله وحاجياته بالمزاد العلني، ومع بداية الستينات ينتقل إلى منزل جديد ويمضي في عالم الفقر.
وكان عام 1945 قد التقى هندريكة ستونيل التي أحبها حباً عميقاً والتي دعمته ووقفت إلى جانبه وما لبثت أن توفيت عام 1563 ثم مات ابنه في عام 1668 ثم بدأ ارتكاسه نحو الداخل = الذات وهذا ما سينعكس على فنه في الستينيات.
ستون عاماً قضاها بين تحقيق نفسه والتعبير عن نبوغه أو جنونه ولربما إذا درسناه في عصره لقلنا أنه الفنان الأكثر هرطقة في فنه.
المدارس الفنية قبل رامبرانت وفي عصره:
ولا بد لنا في البدء أن نوضح أن مصطلح المدارس الفنية هو مصطلح نقدي ربما كان بعيد قليلاً عن الدقة العلمية.
سبب هذا هو أنه ضمن المدرسة الواحدة ذات الظروف والأهداف الواحدة ربما وجدنا لكل فنان شخصية ونمطاً خاصة.
فاصطلاح المدرسة الفنية ربما وضع ليعبر عن ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وموضوعية جعلت هنالك عوامل لنشوء مدرسة ذات أسس واضحة ونتاج متقارب مع اختلاف في شخصيات منتسبيها.
فمصطلح المدرسة يعني وجود مجموعة متقاربة من الفنانين – كما لاحظ النقاد – اتفقوا على بعض القضايا الجوهرية وعبروا عنها واختلفوا مع غيرهم نتيجة لهذا، غير أنهم لا يمثلون شكلاً فنياً واضحاً متماثلاً، فهم يحملون الاختلاف في بعض نظرهم إلى الحياة والكون وربما الفن.
1. المدرسة الكلاسيكية:
وهي أول ظاهرة فنية في عصر النهضة الأوروبية.
اعتمدت هذه المدرسة على صياغة فنية للوحة وعلى قوى التعبير بالنمط بشكل رئيسي، وتهتم بالنسب المثالية والتناسق المثالي، وجل مواضيعها كانت في الأسطورة والدين.
كانت هذه المدرسة فكرياً تطرح نمطاً حيادياً في التعبير يجعل اللوحة عملاً موضوعياً.
فالكلاسيكية انبثقت يونانياً وانتقلت إلى الرومان ثم أحياها عصر النهضة الأوروبية التي كانت بحاجة عمق معنوي تجلى في الأساطير وميثولوجيا وليثورجيات الانجيل والتوراة.
2. فن الباروك:
هذا الفن تميزعن الكلاسيكية في رفضه للنسب المثالية والتناسق المثالي واعتمد فنانوه على الخيال كما أنهم ضخموا الحالة النفسية والحجوم واعتمدوا على الحركة، رغم أنهم أيضاً نهلوا من الأسطورة والدين.
3. المدرسة الواقعية:
بدأت تأخذ أهميتها في أوروبا منذ عام 1420 وهي تمرد على الكلاسيكية من حيث الشخوص ونحت منها أقرب إلى الواقع وابتعدت عن الميزات المثالية تدريجياً، يعتبر انتشار الفن الواقعي متزامناً مع صعود البورجوازية في أوروبا وبدء ارتباط الفن بالحياة ونقدها.
وهذا لم يكن متزامناً في بلدان اوروبا.
فنجد في الشمال الأوروبي صعود نجم الواقعية منذ القرن الخامس عشر وفي هولندا منذ القرن السابع عشر وفي فرنسا منذ القرن التاسع عشر.
فمثلاً: بروغل رسم العذراء كامرأة قروية وليست مثالية/
فاين آيك رسم العذراء كعاملة بشعة والطفل الذي بين يديها سيء التغذية /
كارافاجيو رسم المجدلية كامرأة فقيرة في غرفة خاوية.
بناء على هذا يمكننا التوجه نحو عالم رامبرانت الفني فهو وجد في فترة صعود نجم الواقعية في هولندا – في أوج النهضة فيها – كما بينا في اللمحة التاريخية عن عصر رامبرانت.

في منابع الفن عند رامبرانت:
يعتقد أنه درس عن الفن في عصر النهضة والمصادر الرئيسية للتكوينات الفنية الإيطالية ويعتقد النقاد أنه تعثر برافائيل وتيسيان ومدرسة البندقية.
تشير الدراسات الحديثة لتأثره في لوحاته الدينية التي رسمها بين 1630-1650- بالرسوم والمنمنمات العائدة للقرن السادس عشر في هولندا.
في بدايته الفنية نشأ رامبرانت معتمداً على بعض المدارس ولا سيما الواقعية الهولندية والإيطالية والألمانية.
كما أنه قضى في محترف الفنان بيتر لاستمان عام 1924 ستة أشهر كانت كفيلة باستلهامه لنمط الفن الواقعي والكلاسيكي في الموضوعات الأسطورية والتاريخية والدينية.
ونتيجة لتتلمذه على يد جاكوب بنياس فقد استلهم فن الوجوه منه.
ولعلنا إذا أردنا تسليط الضوء على فن رامبرانت لأمكننا أن نحدده وفق المراحل التالية ورغم تداخل موضوعاته فيما بينها.
المرحلة الأولى: الرسوم لشخصية والوجوه:
رسم الوجوه والشخصيات في الثلاثينات من القرن السابع عشر.
هذه المرحلة التي ارتبطت بالمتغيرات الاجتماعية – الاقتصادية في هولندا مما جعله يرسم أشخاص الطبقة الجديدة المؤثرة.
ولا سيما لوحات لفيريدريكه هنري ولوحات شخصية له ولصديقه هويكان ولشقيقه وزوجة شقيقه ولتاجر يدعى أولينبوش مقابل 1000 غيلدر، كان الاعتقاد في هذه الفترة مرتبط بأن هدف الفنان من الحياة هي الشهرة والمال وأن قدس أقداس الفن هو العواطف ولعل رامبرانت قد أفلح بشكل جيد في هذا.
وإن بداية ظهور العلاقة البدلية اللونية / أبيض – أسود / ظلمة – نور / كانت في هذه المرحلة.
علم 1632 يرسم لوحته الشهيرة درس التشريح للدكتور تولب وتولب هذا كان جراحاً كبيراً في أمستردام ونتيجة لنجاح هذه اللوحة فقد بدأ رامبرانت يتلقى عروضاً لرسم لوحات، مما يؤكد فكرة أن الشهرة والمال كانت هدف الفنان في بداية عصر النهضة.
ونتيجة لذيوع الشهرة رامبرانت في تلك الرسوم تلك الرسوم فقد ذكر هوبراكن أن أهالي أمستردام كانوا يلحون عليه كثيراً في الطلب ليرسمهم.
ويقال بأن اللوحات التي رسمها في تلك الفترة ولا سيما بين 1632 و1636 كان كبيراً جداً.

المرحلة الثانية: مرحلة الرسوم التاريخية والأسطورية 1635:
تنازع الفنان رامبرانت شعوران، شعور مادي في كسبه لمال من خلال الرسوم الشخصية لقاء ما يتقاضى من أصحاب الشخصيات، وشعور فني – معنوي تجلى في اتجاهه نحو رسم الموضوعات التاريخية التي كانت تتمتع أيضاً بخطوة خاصة في مجتمع أمستردام.
استلهم رامبرانت في هذه الفترة موضوعاته من الميثولوجيا في التوراة والانجيل …
فقد استلهم من التوراة موضوعة إبراهيم وهو يوشك على قتل ابنه إسحاق ووثقها فنياً في لوحة له بعنوان ” الملاك يوقف إبراهيم عن قتل ابنه إسحاق ”
عام 1635 وفي نفس الحلم رسم لوحة شمشون يهدد شقيق زوجته.
وقد حققت هاتان اللوحتان شهرة واسعة بسبب وجود أعداد كبيرة اليهود آنذاك في أمستردام، حيث اتهم رامبرانت اثناءها بالوقوع في أحضان اليهود.
يتجلى في اللوحتين المذكورتين حالة الواقعية الثورية التي تميز بها فنانو المدرسة الواقعية (كارافاجيلو مثلاً)

المرحلة الثالثة: مع بداية الأربعينات من القرن السابع عشر:
حيث استمر اهتمامه بالمواضيع التاريخية ولكنه صار يقدمها عبر نمط شخصي خفت منه حدة البطولة الخارقة واعتمد على الادراك البصري في التصوير أكثر مما اعتمد على إظهار النمط القصصي.
ولعل لوحة المسيح يظهر لماري المجدلية 1638 تؤكد على هذا التحول.
ولعل النضج الفني لدى رامبرانت في هذه المرحلة 1642 يتجلى في لوحة حراس الليل التي رسمها بطلب من الكابتن كوك.
ولعل ما يميز اللوحة هذه هو إظهار شخوصه في حالة الحركة لا السكون ويعتبر هذا الأمر جرأة في ذلك الحين.
كما أن حصول حركة لونية بين السواد والبياض – العتمة والنور – يتداخل حيناً وبانفصال حيناً آخر يجعل المشاهد يؤخذ بهذه الحركة ويهذا الجدل اللوني.
الذي أسس له رامبرانت.
يلاحظ في هذه الفترة عودته إلى نمطيات الفن الإيطالي الكلاسيكي كما في لوحة منظر في الشتاء 1646 حيث اعتمد على لون واحد هو مزيج من الألوان الخضراء والبني.
في مطلع الخمسينات من القرن السابع عشر تموت زوجته تاركة ثروتها لابنه تيتوس وتموت صديقته هندريكه عام 1663 ويموت ولده 1668 ونتيجة لفترة معاناته النفسية والذاتية يلاحظ ارتكاسه نحو داخله بقوة وهنا وصل إلى مرحلته الأخيرة.

المرحلة الرابعة والأخيرة: الخمسينات من القرن 17 حتى مماته:
ينحو في فنه مع معاناته وآلامه منحاً ذاتياً في التعبير، ولعل هذه المرحلة تمثل قمة ابداع رامبرانت وفلسفته في الحياة عن طريق إظهار التناقض الذي يحكم الكون والحياة والوجود الإنساني.
فن الحفر عند رامبرانت:
كما أسس للجدل اللوني في الرسم فقد أسس في فن الحفر على المعدن كذلك هذا النمط الجدلي اللوني.
وقد اختلف عن معاصريه في الحفر باستخدامه لرأس حادة بدل المنقاش الذي كان شائع الاستعمال.
كانت التداخلات اللونية – انعكاساتها تشكل نمطه النفسي في استقبال صراع الأضداد في داخله والتعبير عن موقفه وفلسفته من الحياة بشكل عام.
من أعماله في الحفر وجه أمه ووجه أبيه حيث استطاع إعطاء تفاصيل تكشف عن فنان يستطيع السيطرة على شخوصه وإبراز عوالمها الداخلية مع الاخذ بعين الاعتبار هذا الاتقان المنطبع في التشكيل الخارجي للشخوص.
وكما في الرسم كذلك في الحفر … كان يعتمد رامبرانت على الواقع وكان يتدخل في انطباعات شخوصه وتفاصيلها ولم يكن محايداً أو مجرداً فيما يرسم.
وكان رامبرانت يقول ” حين أجد نفسي قريباً من الجفاف، أعود لأرسم عامة الناس … إلى هذه العامة أذهب لأنني أريد أن أجدد نفسي ”
الرأي في فن رامبرانت:
وخاتمة يمكننا القول:
1- إن رامبرانت استطاع تجاوز نمط الواقعية الهولندية حين عبرت عن الوجوه الصاعدة للبرجوازية إلى منحى الاستلهام الميثولوجي والتاريخي ثم التدخل للتعبير عن حالات شخوصه ومواقفهم من الحياة والواقع.
2- استطاع رامبرانت تحميل اللوحة معاني فكرية – شعورية – اجتماعية – وبشكل غير محايد بل تدخل فيها وعبر عما يريد أن يقوله عبر شخوصه.
3- في التشكيل اللوني استطاع أن يؤسس نمطاً تقنياً جديداً يعتبر ثورة حقيقية في مضمار اللون في ذلك العصر.
4- فضّل رامبرانت جمال الحقيقة على جمال المثل الأعلى المجرد.
5- عبر عن الحركة في الحياة بكافة متناقضاتها.
6- فنه عبرَ عدة حالات من حالات تصوير الشخوص إلى حالات تاريخية إلى حالات ذاتية ذات مضامين إنسانية.
7- وما يميز فلسفة رامبرانت الفنية عبر لوحاته هو عدم اعتماده على النور واخفاء الظلمة وهذا ما يجعله يظهر البشاعة / ومشاعر القرف أحياناُ / فالجمال وحده لا يعبر عن الحقيقة بل بنقيضه أيضاً.
وكذلك ليس بالطمأنينة والوداعة نعبر عن جمال الحياة بل بالألم والمعاناة أيضاً.

دراسة إحدى لوحاته: فيلسوف متأمل

وفق المعايير التي توصلنا إليها في فن التشكيل عند رامبرانت، يمكننا الوقوف الآن أمام لوحته (فيلسوف في حالة تأمل):
التي رسمها عام 1628 وهي موجودة الآن في متحف اللوفر في باريس.
بادئ ذي بدء تستوقفنا حالة الصدمة ولتكن الدهشة حين أكون مشاهداً في القرن السابع عشر ويكون إدراكي البصري للوحة قد لقن التشكيل الواقعي.
الدهشة هنا هي فيما يميز تكوين اللوحة من حركات / ربما صدامية / تعكس هذا التعاكس بين أريحية الفيلسوف المتأمل وصخب الحركات المترافقة / الحياة / في التكوين.
هذا الأمر يتجلى في حركة درج الغرفة ذي الأبعاد المتعاكسة أو الاتجاهات المتضادة والتي تعكس إلى حد ما صخب التأمل الذي يقضي فيه ذلك الفيلسوف.
فالحركة في اللوحة في تضاد مع مركز اللوحة المضيء والذي يشغله الفيلسوف المتشابك اليدين علامة الدعة والحكمة.
وبالإضافة إلى حركة رتيبة لسيدة تهبط من على الدرج أخفتها العتمة قليلاً.
لعله زائر أو موت أو …؟!

التفاصيل في اللوحة شغلت مركزاً مهماً بدءاً من أرضية الغرفة الأدنى للناظر والتي تبدو بشكل أحجار رصفت بحسب ما جادت الطبيعة به ولكن في التكوين العام كان الرصف رتيباً ويتناغم مع أرضية مكان الفيلسوف رمز الهدوء والحكمة.
أيضاً التفصيل يأتي من مجموعة الحطب المعدة للاشتعال والتي انعكس على أطرافها حرفة النار أو تباشير الأفول في اللون.
استطاع رامبرانت أن يوظف هذا التدرج اللوني من الأصفر الشمسي إلى الوردي ثم تدرجات اللون الأحمر فاللون الداكن.
استطاع توظيف هذه التدرجات من أجل حالة استيطان ظهرت في النور الذي يوشح المتأمل وفي العتم الذي يوشح السيدة أو الرائدة الغامضة.
ربما أراد رامبرانت أن يدخلنا في عالم من التناقض مستخدماً صخب اللون، دهشة الظلمة وغموضها ؟؟ وتدرج الإنسان بين حالات شعورية ولا شعورية جعلتنا نشده أو نقف جزعين من هذا البهام الحركي أو هذا الغوص في دوامة الدهشة، هذا في القرن العشرين، فما بالنا في زمنها – أقصد في القرن السابع عشر؟ يوم قيل عن فنه أنه هرطقة فنية.
ربما عرفنا الآن سر هذه الهرطقة … العقلانية النفسية المتعلقة عن محر الواقع كما يجب، إلى الواقع كما هو.
ولنستمع إلى الشاعر مانويل ماتشادو (1864 – 1947) حين رأى لوحة لرامبرانت فاستوقفته وجعلت ربة الشعر تخترق عالمه فيقول:
هكذا كان رامبرانت، الذي بلغت شهرته العالم
ريشة وحشية ترتجف من شدة التوتر
فنان جن كثيراً، لكن جبار.
الألم تلقى أول صورة.
والبؤس تلقى رسامه في روعة وكبرياء.

Optimized by Optimole