الاتحاد الأوروبي في عالم غير ليبرالي

Spread the love

بقلم: د. كارين أي سميث* – ترجمة : ابراهيم عبدالله العلو —

“قد تدفع الولايات المتحدة المتقلبة والأقل اتساقاً في دعم التكامل الأوروبي، الاتحاد الأوروبي للاعتماد على ذاته بشكل أكبر”.

في نطاق ردود الأفعال الدولية على انتصار دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر – تشرين الثاني من عام 2016 ، نهضت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل قائلة “ترتبط المانيا والولايات المتحدة بقيم الديموقراطية والحرية واحترام القانون وكرامة الإنسان بغض النظر عن أصله أو لون بشرته أو دينه أو جنسه أو توجهه الجنسي أو رؤاه السياسية. واعرض على الرئيس المقبل للولايات المتحدة التعاون على أساس هذه القيم”.
كانت ميركيل تشير حسب بعض المراقبين إلى أن الاتحاد الأوروبي بزعامة المانيا قد يقود احتواءً متسامحاً في عالم يزداد تعصباً.
وتقف مثل تلك التوقعات على أرضية صلبة. فالاتحاد الأوروبي هو حجر الزاوية في النظام العالمي الحر الذي يستند إلى نشر الديموقراطية الحرة وتنظمه المؤسسات الدولية بزعامة الولايات المتحدة. كما أن الاتحاد الأوروبي مؤيد وفي للتعددية وخاصة الأمم المتحدة ولحقوق الإنسان والديموقراطية الحرة والسلم والتجارة الحرة عبر التعاون المؤسساتي. وله رصيد كبير. فقد أبلت أوروبا بلاءً حسناً في النظام العالمي الحر واستفادت الدول الأوروبية من تمثيلها الطاغي في مؤسسات دولية مهمة مثل مؤسسة النقد الدولي والبنك الدولي ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
ظهر الاتحاد الأوروبي الى الوجود (بداية كثلاث تجمعات أوروبية في خمسينيات القرن الماضي) وتطور في ظل البيئة الحميدة نسبياً للتعاون العابر للأطلسي.
ورغم أن الولايات المتحدة كانت أحياناً مراقباً ناقداً لا يتورع عن وضع العقبات أمام التطورات التي اعتبرتها مخالفة لمصالحها ولكنها اعتبرت عملية التكامل الأوروبي حجراً أساسياً ضرورياً ومرغوباً في نظام عالمي حر أميركي القيادة.
وسواءً بإذعانٍ او دعمٍ أميركي عريض طور الاتحاد الأوروبي مع مرور الزمن مؤسسات وقدرات في حقل السياسة الخارجية والأمنية.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تصادما مراراً حول قضايا تتراوح من الحرب البوسنية في تسعينات القرن العشرين إلى المحكمة الجنائية الدولية في بداية عام 2000 ولكنهما عملا سوياً لحماية المصالح والقيم المشتركة.
ومع وصول ترامب إلى الرئاسة لم يعد دعم الولايات المتحدة لهذه المصالح والقيم أمراً مؤكداً بعد الآن وربما تقوم إدارته بتقويضها. إذ عبر ترامب عن معارضته للشراكة العابرة للمحيط الهادي واتفاقية التجارة الحرة في أميركا الشمالية وعن تشككه بالمؤسسات مثل الأمم المتحدة.
وسؤال المليون يورو هو هل يستطيع الاتحاد الأوروبي ويرغب بالعمل كقوة أم لا في البيئة السياسية العالمية المتبدلة اليوم؟
تتحدى الحكومات والحركات الشعبوية والاستبدادية الديموقراطية الحرة كما عزز تحول السلطة حول العالم إلى قوىً صاعدة مثل الصين من المعارضة لمؤسسات ونظم عالمية اساسية.
ولم يعد الاتحاد الأوروبي حصيناً في عالم تصاعد القومية وعالم ما بعد السيادة وما بعد القومية. وواجه الاتحاد في السنوات القليلة الماضية أزمات عديدة من الهيجان المالي في منطقة اليورو إلى التصادم مع روسيا بشأن أوكرانيا إلى تدفق اللاجئين نحو أوروبا.
وأصبح التكامل الأوروبي أشبه بركوب دراجة هوائية (تابع الدعس أو تصطدم) حيث أحدث الخروج البريطاني الوشيك الحدوث ثقباً في الدولاب الأمامي للدراجة.
كانت الولايات المتحدة في الماضي هناك تشجع الدراج على المضي قدماً وحتى تساعده في التصليحات ولكن رئاسة ترامب تنبئ بدور أميركي أقل دعماً له. فالنظام الأوروبي يتعرض للتحدي بشكل نشط من قبل روسيا التي تقوم ببناء روابط قوية بحلفاء ضمن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ولا يستبعد في ضوء هذه الظروف استقراء توقعات الزوال الوشيك للاتحاد الأوروبي.

فجوات المصداقية
يواجه الاتحاد الأوروبي معضلتي مصداقية اساسيتين قد تحول دون زعامته كعامل دولي قائد في عصر ترامب والبريكست والشعبوية وعودة الاستبدادية واضمحلال السيادة.
الأولى هي “فجوة التوقعات- المقدرات” المتنامية حسب تعبير أطلقه العالم البريطاني المختص بالعلاقات الدولية كريستوفر هيل قبل عقدين:
التوقعات بأن الاتحاد الأوروبي يستطيع الدفاع عن وإنقاذ النظام العالمي الحر يفوق مقدرته على فعل ذلك. والثانية هي فجوة الخطاب – التطبيق:
كافح الاتحاد الأوروبي ليرقى إلى خطابه المتسامح في الماضي ما يعرضه للاتهام بفقدان المصداقية لتولي الزعامة الآن. ولكن ريادة الاتحاد الأوروبي أو على الأقل العمل الجمعي الحاسم لا يزال ممكناً حيال بعض القضايا بالرغم من هذه الفجوات.
تعتمد ممارسة الاتحاد الأوروبي للقوة والنفوذ بشكل واضح على الوحدة بين الدول الأعضاء. ولن يكون الحفاظ على الوحدة سهلاً من دون المملكة المتحدة برغم كونها في الماضي عضو نادي صعب المراس. وقد تجعل الانتخابات الحاسمة هذا العام في الدول الأعضاء الرئيسة مثل فرنسا وهولندا وألمانيا العمل الجمعي أكثر صعوبة مع تحول تركيز الحكومات إلى القضايا المحلية. كما ان مفاوضات الخروج البريطاني (البريكست) سوف تستنفذ الاهتمام والموارد في المستقبل المنظور.
كافحت مؤسسات ودول الاتحاد الأوروبي على الدوام للاتفاق على أولويات واضحة للسياسات الخارجية رغم تعاظم الاستراتيجيات.
ولكل دولة عضو برنامجها الخاص بها ويتطلب الاتفاق على مجموعة أولويات تنازلات يصعب التفاوض بشأنها.
وما الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي عام 2016 سوى محاولة تستحق الثناء لتكون أشد دقة فيما يتعلق بأهداف ووسائل المجموعة ولكنها تحوي قائمة طويلة من “الأولويات” من دون تحديد أولوية أي منها أو التقييم الناقد لسبل الاتحاد لتحقيق تلك الأهداف الوفيرة في ظل الظروف الخارجية والداخلية غير المواتية.
وليست أولويات السياسة الخارجية تلك نتيجة تخطيط استراتيجي بقدر ما هي ردود أفعال على الأحداث.
خذ مثلاً السياسة الأوروبية حيال مقدرات ايران النووية التي طورت إبان غزو العراق عام 2003. فمن أجل تفادي حرب أخرى استخدم الاتحاد الأوروبي العقوبات – وحافز رفعها بعد ذلك — لمساندة الجهود الدبلوماسية الأولية التي قامت بها فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة لمنع تطوير الأسلحة النووية الإيرانية.
ولكن التوقعات بأن الاتحاد الأوروبي يستطيع التوحد للدفاع عن النظام الحر قد تنهار لعجز الدول الأعضاء على الاتفاق حيال استراتيجية فعل ذلك.
تستند قوة الاتحاد الأوروبي في العلاقات الدولية إلى حجم سوقه الأوحد. ويفوق مجموع الناتج المحلي الإجمالي للدول الـ28 الأعضاء ناتج الولايات المتحدة أو الصين ويمتلك هؤلاء اللاعبون الثلاثة الكبار حصصاً متماثلة في التجارة العالمية بالسلع. ونظراً لغنى وحجم الاتحاد الأوروبي، ترغب الدول بالتعامل معه مما يمنحه نفوذاً قوياً ولكن خروج بريطانيا سوف يقلل من ذلك النفوذ.
فإجمالي الناتج المحلي البريطاني يقارب 19% من إجمالي الناتج المحلي الأوروبي. ورغم ان الاتحاد الأوروبي من دون بريطانيا سيبقى واحداً من أكبر ثلاثة أسواق في العالم فإنه سيبقى أصغر بحوالي الخمس عما كان عليه قبل الخروج البريطاني.
أما النزعة الاكثر إزعاجاً فهي أن سياسة التجارة لن تحظى “بإجماع متسامح” داخل الاتحاد الأوروبي حيث سمح الأوروبيون العاديون للتكنوقراط في بروكسل بتشكيل السياسات من دون كثير تدخل عمومي منهم.
فالسياسة التجارية هي واحدة من المناطق التي يمتلك فيها الاتحاد الأوروبي قوة فوق قومية هامة، ولكنها أضحت أكثر صعوبة مع تحدي قوى المناهضة للعولمة للتجارة الحرة. وفي عام 2016 كانت اتفاقية التجارة والاقتصاد الكندية الأوروبية الشاملة تتعرض للحجب بسبب فيتو منطقة واحدة من بلجيكا ورفضت اتفاقية منظمة أوكرانيا – الاتحاد الأوروبي بسبب استفتاء هولندي.
أما شراكة التجارة والاستثمار العابرة للأطلسي فقد تعرضت بالمثل لانتقادات ضمن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فتوسيع وتعميق شبكة اتفاقيات الاتحاد الأوروبي سيصبح أكثر صعوبة واستهلاكاً للوقت في المستقبل المنظور مما يحد من نفوذه. (والدروس بالنسبة لبريطانيا التي تبحث عن اتفاقية جديدة مع الاتحاد الأوروبي يجب ان تكون أكثر تعقلاً).
فقوة السوق التي كانت أساس النفوذ العالمي للاتحاد الأوروبي قد تصبح غير مستخدمة بفعالية ونجاعة. ينبع تأثير الاتحاد الأوروبي الأكثر أهمية بعد التجارة في مقدرته على زيادة الأعضاء وعن طريق ربط العضوية بتلبية سلسلة من الإصلاحات في الدول الراغبة بالانضمام إليه.
ولكن سياسة التوسع هي بلا شك إحدى ضحايا الأزمات المتعددة التي تواجه الاتحاد الأوروبي. ولا يبدو هناك حماس كبير للتوسع أكثر لضم الدول التي لا تزال تتفاوض مع الاتحاد الأوروبي – الجبل الأسود وصربيا وتركيا – بالمقارنة مع الرغبة المتضائلة خاصة في تركيا للإذعان لشروط العضوية. كما اضمحلت احتمالات ضم بعض الطامحين الآخرين في جنوب شرق أوروبا – إلبانيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا وكوسوفو – إلى حد كبير.
وبعد أولئك المرشحين لن يكون هناك توسع في المدى المتوسط أو البعيد. وستمرر المصادقة الهولندية على حلف رابطة أوكرانيا – الاتحاد الأوروبي بعد موافقة المجلس الأوروبي في ديسمبر – كانون الأول 2016 على عدم منح أوكرانيا وضعية مرشح للعضوية.
وتكمن المفارقة بأن سياسة التوسع التي لا تحظى بشعبية كبيرة الآن كانت إحدى أدوات الاتحاد الأوروبي الأكثر فعالية لتدعيم نفوذه في أوروبا.
وفي لعبة الجمع الصفري التي تنتهجها روسيا اليوم في المنطقة يفاقم الفشل في التوسع الممكن للاتحاد من نفوذ روسيا ويترك الدول غير المنضوية للاتحاد في منطقة ضبابية غير آمنة.

تأثير البريكست
يؤثر البريكست بشكل سلبي على وسائل السياسة الخارجية الأخرى للاتحاد الأوروبي وسيقلص ميزانية المعونات فيه إلى حد كبير: تساهم بريطانيا حالياً بنحو 15% من كامل التمويل الذي يقدمه الاتحاد للدول النامية. وستفقد دائرة العمل الخارجي في الاتحاد الخبراء البريطانيين وبما أن دبلوماسية الاتحاد تعتمد على المقدرات الدبلوماسية لدوله الأعضاء، فإن فقدان المملكة المتحدة سيكون محسوساً في تلك المنطقة أيضاً. رغم أن بريطانيا لم تكن في طليعة الجهود السياسية المؤخرة للاتحاد الأوروبي للتوسط في النزاع الأوكراني – الروسي أو إدارة العلاقات مع تركيا فيما يتعلق بأزمة اللاجئين ولكنها لعبت دوراً محورياً في الماضي خلال المفاوضات مع إيران بشأن القضية النووية.
لم تساهم بريطانيا كثيراً بقوات مهام الاتحاد العسكرية وأصبحت الأكثر تردداً بين الدول الأعضاء عندما يتعلق الأمر بتضخيم التعاون الدفاعي في الاتحاد. ومع ذلك سيؤثر فقدان المقدرات البريطانية، ومع ذلك وفرت بعض الموارد الحرجة لبعض المهام مثل تقديم المراكز العملياتية لمهمة الاتحاد المناوئة للقرصنة قبالة شواطئ الصومال.
بالطبع يمكن تمكين بريطانيا بسهولة من المشاركة في مهام أوروبية مستقبلية في الخارج نظراً لوجود آليات تسمح “لدول ثالثة” بما في ذلك النروج والولايات المتحدة بالقيام بذلك.
أخيراً سوف يضعف البريكست من القوة الناعمة للاتحاد (قوة الجذب) التي تقوضت مسبقاً مع تعثر الاتحاد بأزمة تلو أخرى من دون أن يتمكن من حل أي منها بشكل ملائم. والآن ترغب إحدى دوله الرئيسة بالمغادرة.
لقد عانت الصورة العالمية للاتحاد بلا شك مما أضعف من مقدرته على إقناع الدول الأخرى بدعم أفضليته من دون الحاجة إلى اللجوء إلى وسائل أخرى للقوة.
ومع الجاذبية المتنامية لمعارضة الشعبوية في دول أخرى عديدة فإن البريكست سوف يقلل من مقدرات الاتحاد الأوروبي ويصعب تلبية التوقعات بأن أوروبا ستتخذ قراراً حاسماً للدفاع عن النظام العالمي الحر.
وهناك طرق لتخفيف تأثير البريكست مثل تركيز الموارد على مجموعة أهداف محددة والتنصل من أخرى.
مثلا يقوم الاتحاد عادة وعبر التمثيل الكبير في الشؤون الخارجية والسياسات الأمنية بإصدار عدد كبير من البيانات كل شهر دونما هدف واضح ولذا يمكن استثمار الموارد المخصصة لتحضيرها في مهام أخرى.
ولكن وبرغم تلك التعديلات ستبقى فجوة المقدرات – التوقعات مثيرة للقلق.
الخطاب الأجوف
ثمة تحدٍ آخر يكمن في فجوة الخطاب – التطبيق في السياسة الخارجية للاتحاد والتي تثير التساؤل حول مصداقية الاتحاد الأوروبي كحصن حصين للنظام العالمي الحر.
تتم الاشارة غالباً إلى قيم مثل احترام حقوق الإنسان والديموقراطية على أنها لب السياسة الخارجية للاتحاد. وغالباً ما قالت المفوضة السابقة كاثرين اشتون إن “حقوق الإنسان تجري كسلك فضي ناظم للسياسة الخارجية للاتحاد.”
ولكن ذلك السلك أصبح صعب التتبع في واقع الحال. ويرتكز عقد المشكلة على الاختلافات الكثيرة بين الدول الأعضاء في ما يتعلق بتعزيز القيم.
وهناك انقسامات أخرى حول الأهمية النسبية للقيم عندما تتنافس المصالح الاقتصادية والأمنية الجوهرية معها.
يعزى نقص الدعم الأوروبي للديموقراطية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط بحجة أن تحرير الأنظمة السياسية سيفتح الباب أمام حكومات إسلامية راديكالية.
هناك أيضاً انقسامات داخل الاتحاد حول أفضل الطرق لتعزيز القيم. فبعض الدول تحابي استراتيجية المشاركة بينما يفضل بعضها الآخر العقوبات.
أدت هذه الانقسامات إلى سياسات متباينة إن لم نقل غير متسقة وعرضت الاتحاد الأوروبي لتهمة استخدام معايير مزدوجة عكس ما يوحي به خطابه مما أضعف إمكانية الزعامة الأوروبية.
ونحت معظم الدول الاستبدادية لاستخدام النفاق الغربي لتبرير أفعالها.
كما تتسع فجوة الخطاب – التطبيق عندما يتعلق الأمر بادعاء الاتحاد الأوروبي “شراكاته” عبر العالم.
وحتى الدول التي يعتبرها الاتحاد “شركاء استراتيجيين” والتي تتعامل معها سعياً وراء أهداف محددة تعامل كتلامذة يملي عليهم ما يراه الاتحاد ملائماً.
تشمل الاستراتيجيات الهائلة وخطط العمل التي يفترض بها قيادة سياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية قائمة طويلة من الأمور التي يتحتم على الدول الأخرى القيام بها لتلبية توقعات الاتحاد الأوروبي في الإصلاح أو التحول.
وربما يبدو ذلك منطقياً وقد تحتاج بعض الدول فعلياً لمساعدة الاتحاد الأوروبي لتفعيل الإصلاح. ولكن مع صعود القوى البديلة يتعرض نموذج التفاعل ذلك لخطر فقدان الفعالية فلماذا يتوجب عليك تحمل غطرسة الاتحاد الأوروبي إذا كان باستطاعتك اختيار أصدقاء أو حلفاء جدد؟
تشير فجوة المقدرات – التوقعات إلى التحدي الذي سيواجه الاتحاد الأوروبي في استخدام موارده من أجل بلوغ أهدافه – هذا إن استطاع…
وتوضح فجوة الخطاب – التطبيق أن العمل الجمعي الأوروبي قد ينتج نتائج عكسية. ومع ذلك لا تبدو الصورة التي قد تنبثق خلال العامين المقبلين قاتمة كما تقترح هذه الدراسة.

الدفاع عن المصالح
كما توضح الفجوة بين الخطاب والتطبيق لم يرقَ الاتحاد الأوروبي إلى صورة قوة طبيعية يتمسك بها بعض المعلقين ودواخل الاتحاد بكل اعتزاز وتاريخه مزيج من سياسات المصلحة الذاتية والتعددية الحرة.
لا يزال الاتحاد الأوروبي أكثر الداعمين التزاماً بالأمم المتحدة وبالدفاع عن حقوق الإنسان والديموقراطية والداعين لحكم القانون. ولكنه يعمل باستماتة للدفاع عن المصالح الاقتصادية والأمنية لدوله الأعضاء. وحتى في عالم يسوده خصام بين الأنماط الحرة والمؤسسات يستطيع التشبث بأرضه لأن سياساته تسعى لحماية المصالح الأوروبية وليس النظام العالمي الحر بالمطلق رغم التداخل الحادث بينهما في بعض الأحيان.
دافع الاتحاد الأوروبي في الماضي عن مصالحه بقوة واتحدت الدول الأعضاء لمواجهة العقوبات الخارجية التي فرضتها إدارة الرئيس ريغان على الشركات الأوروبية العاملة في مشروع سوفيتي لمد خط أنابيب الغاز في بداية الثمانينات من القرن الماضي. واستطاع الاتحاد مؤخراً الحفاظ على الوحدة في تنفيذ عقوبات على روسيا لتدخلها في أوكرانيا مع أن التوجه نحو روسيا يتباين بشدة بين دول الاتحاد.
إن خرق روسيا للمعايير الجوهرية للسيادة والاستخدام المقبول للقوة كان كافياً حتى الآن للحفاظ على الوحدة. وعلى الأغلب سيبقى الاتحاد ملتزماً بالاتفاق النووي الإيراني حتى إذا نقضته إدارة الرئيس ترامب، ليس بسبب بذل الاتحاد الوقت والجهد لإنجازه ولكن لاصطفاف المصالح التجارية والأمنية بصف دعم الاتفاق.
ولسنوات خلت ضغط الاتحاد الأوروبي بقوة لصالح سياسات التغير المناخي على ذاته أولاً ولا يعتقد أنه سيوقف دعمه للجهود الدولية للحد من الإحترار العالمي.
ومع سحب ترامب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ قد يظهر إلى الوجود شراكة أوروبية – صينية حول التغير المناخي.
كما لا يستبعد ممارسة الاتحاد الأوروبي للقليل من السياسة الخارجية المعاملاتية المتعلقة به. وقد يكون مفاوضاً صعب المراس خاصة في قضايا التجارة ومدافعاً عنيداً عن المصالح الأوروبية الاقتصادية كما اكتشفت دول عديدة (مثل جنوب أفريقيا في التسعينات عندما كانت في خضم التحول إلى دولة متعددة الأعراق).
وقد لا يبدو ذلك الأمر جذاباً بالنسبة للعديد من الأطراف على الجانب المتلقي من “النظام العالمي الحر”. فالتجارة العالمية الحرة تخلق رابحين وخاسرين وسعت سياسة التجارة الأوروبية إلى معاظمة المكاسب للاتحاد الأوروبي وليس بالضرورة تقليل الخسائر للشركاء التجاريين بما فيهم الدول النامية.
تتركز المعارضة لاتفاقات الشراكة الاقتصادية الأوروبية مع الدول الأفريقية حول الخطر التي قد تفرضه شروطه على التنمية بينما يصارع المنتجون المحليون للمنافسة ضد المستويات الأعلى من الواردات القادمة من الاتحاد الأوروبي.
يحمل الاتحاد الأوروبي بطاقات لعب قوية ويتهيأ للعبها، كلما كان ذلك ملائماً لمصالحه. فالدفاع عن المشروع الأوروبي لمواجهة البريكست هو إحدى تلك الحالات وكل الدلائل تشير إلى أن الاتحاد سينجز صفقة رابحة وقاسية مع بريطانيا.

بطائن فضية
ثمة سبب آخر لبعض التفاؤل حول الدور الذي قد يلعبه الاتحاد الأوروبي في عالم غير ليبرالي (متعصب). فالتحديات الخارجية قد تشجع الدول الأعضاء على التكاتف سوياً. كما أن الولايات المتحدة المتقلبة والأقل اتساقاً في دعمها للتكامل الأوروبي قد تدفع الاتحاد للاعتماد على ذاته.
ففي الماضي شرحت معارضة الولايات المتحدة لتعاون أوروبي أوثق في حقل الدفاع سبب التدرج الأوروبي المترنح لإنجاز سياسة مشتركة للدفاع والأمن. ومع أن موقف الولايات المتحدة تبدل لاحقاً إلى دعم مشروط، فإن المطلب الأميركي بأن أوروبا يجب أن تدافع عن ذاتها قد يدفع الدول الأعضاء للاقتراب من بعضها البعض بشكل أكبر. فتقوية سياسة الدفاع المشترك هي أمر مفصلي كما أشارت فيديريكا موغيريني، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي عام 2016.
وأنجز الكثير على هذه الجبهة خلال الأشهر الأخيرة بما في ذلك معايير لتعزيز تعاون الاتحاد الأوروبي مع حلف الناتو.
بالطبع فإن مدى الحاجة لاستخدام ومشاركة المقدرات الأوروبية من أجل الوصول للحد الأدنى من سياسة دفاعية فعالة ومشتركة هي بلا شك شاقة ومرعبة ولا تزال الدول الأعضاء في الاتحاد منقسمة حيال قضايا عديدة ولكن الولايات المتحدة الأقل اعتمادية قد تعمل “كموحد خارجي”.
وللتأكد، فإن اسباب التفاؤل تشير غالباً إلى احتمالية أن الولايات المتحدة ستتمكن من الدفاع عن مصالحها الذاتية في بيئة تزداد عدوانية سواء كانت تلك المصالح تتفق مع معتقدات أساسية لنظام عالمي متعدد الأطراف.
ولكن البيئة الخارجية الأكثر تعصباً قد تذكر الاتحاد بأن العديد من الاختلافات بين الدول الاعضاء حول القيم قد تكون ثانوية عندما تقارن بالفروقات التي تمتلكها مع قوى دولية أخرى. وقد يدفعها ذلك إلى التركيز على الأسس – مجموعة من حقوق الإنسان والنظم وغيرها – والدفاع عنها إزاء الخصام التعصبي.
وعبر ذلك يتمكن الاتحاد من الوصول إلى معتدلين في مناطق عديدة أخرى – من أجل تأسيس تحالف يؤيد محكمة الجنايات الدولية ويناهض التعذيب.
كما أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تنخرط بنشاط في الدبلوماسية ضمن الجماعات عبر منتديات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وهذا أساس يمكن البناء عليه من أجل بناء تحالف عريض يؤيد المعايير الأساسية. وإذا حدث ذلك – وهنا إذا كبيرة – قد يتزعم الاتحاد الأوروبي الاحتواء الحر ما لم تتفاقم التصادمات الداخلية حول القيم رغم اتجاه بولندا وبلغاريا لسلوك مسار أشد تعصباً.
هناك أرضية للاعتقاد بأن الذئاب المحيطة بالاتحاد لن تمزقه إرباً. ولكن التحديات جبارة وفجوات المقدرات—التوقعات والخطاب – التطبيق كبيرة وأسباب التفاؤل منوطة بالدول الأعضاء الساعية للوحدة بنشاط رغم الماضي المعاكس لذلك. أما الدولة التي تتجهز لمغادرة الاتحاد فلديها خيارات صعبة خاصة بها.
هل ستقوم المملكة المتحدة بوضع عقبة أمام تعاون أوروبي أوثق في حقل الدفاع والسياسة الخارجية؟
هل ستدير ظهرها للاتحاد الأوروبي وتبحث بدلاً منه عن تحالفات مع إدارة ترامب والتي ستكون بلا ريب علاقة معاملات أو مع قوى أخرى.
أم سينتهي بها المطاف كمساعد قريب للاتحاد الأوروبي مع توازي المصالح والقيم والسياسات؟
إن اتجاه السياسة الخارجية البريطانية ليس واضحاً بعد ولكن هذه الأسئلة يجب أن تطرح للنقاش في لندن وعن قريب. فبريطانيا العاملة بجانب أوروبا هي في صلب مصلحة الاتحاد الأوروبي. أما بريطانيا غير المتعاونة فستكون عقبة كأداء أخرى أمام زعامة الاتحاد الأوروبي.

*د. كارين سميث أستاذة العلاقات الدولية ومديرة وحدة السياسة الخارجية الأوروبية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.

المصدر:
The European Union in an Illiberal World
By: KAREN E SMITH
CURRENT HISTORY
MARCH 2017

Optimized by Optimole