نحو أطروحة للتعددية الدينية: قراءة في نظرية عبد الكريم سروش

Spread the love

د. هيثم مزاحم – مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط –

لعلّ من بين أهم أسباب الصراعات الطائفية والمذهبية في العالم العربي والإسلامي اليوم هو الإيمان بحصرية الحق والحقيقة المطلقة وعدم قبول الاختلاف وعدم احترام التعددية الدينية، وذلك انطلاقاً من تفسير للنصوص الدينية يعزز هذه الحصرية وينفي وجود إمكانية لوجود الإيمان والحقيقة لدى الأديان والمذاهب الأخرى.

إدعاء حصرية الحق وتكفير وشيطنة الآخرين دعوة يقول بها معظم رجال الدين وأتباع الديانات السماوية والمذاهب الإسلامية. يستند بعض المسلمين إلى تفسير آية (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(سورة آل عمران، الآية 85)، ليؤكدوا هذه الحصرية وينفوا إمكان وجود الحق والهداية عند الديانات السماوية الأخرى، وذلك في ما يبدو تعارضاً أو نسخاً لآيات تقول بالتعددية الإيمانية ومنها الآيات التالية: (إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون) (سورة البقرة، الآية 62)، و(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)(سورة المائدة، الأية 5)، و(إِنَّ الذِينَ آمَنُوا والذِينَ هَادُوا والصَّابِئِينَ والنَّصَارَى والمَجُوسَ والذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ إنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيد) (سورة الحج، الآية 17).

فظاهر آية (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا) القول بحصرية الإسلام كدين وصراط للنجاة في الآخرة والوصول إلى الله، لكن تفسير الآية بحسب سبب نزولها لا يفيد معناها الظاهري. فقد ذكر بعض المفسّرين أن هذه الآية نزلت في اثني عشر من المنافقين الذين أظهروا الإيمان، ثمّ ارتدوا وخرجوا من المدينة إلى مكّة، فنزلت الآية وأنذرتهم بأنه من اعتنق غير الإسلام فهو من الخاسرين.

أما الآيات الأخرى التي تصف المؤمنين بالله واليوم الآخر من الديانات الأخرى بأن لهم أجراً إذا عملوا صالحاً ولا خوف عليهم في الآخرة، فظاهرها يفيد قبول القرآن بالتعددية الدينية. ولكن بعض المفسرين يرون أن المقصود بالمؤمنين السابقين على دعوة النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وليس الذين عاشوا زمن نبوته أو بعدها، في تأكيد على حصرية الإسلام كدين الله الأوحد والصراط المستقيم للنجاة يوم القيامة.

أما داخل الإسلام، فتقوم حصرية الهداية والنجاة باتباع مذهب واحد أو فرقة ناجية واحدة، كل مذهب وكل فرقة تدعي أنها المختارة استناداً إلى الحديث المشهور المنسوب إلى النبي: “لتفترقنّ أمتي على ثلاث وسبعين، فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار”، والذي تلقاه بعض المسلمين بالقبول‏ بغض النظر عن سنده ومضمونه. والحديث ورد بصيغ مختلفة لا تخلو من تضارب. وقد ذهب الإمام محمد بن علي الشوكاني (ت 1250هـ) إلى عدم صحة الحديث سنداً ومتناً. كما كتب الباحث عبدالله السريحي دراسة بعنوان “حديث افتراق الأمة” أوضح فيها أن هذا الحديث موضوع لعدم صحة إسناده، وعدم صحة متنه لمعارضته لكثير من قواعد الإسلام، ومع النصوص القطعية المعارضة له.

ما قصدت قوله إننا كمسلمين وعرب نحتاج إلى نظرية دينية تعددية تقبل الاختلاف والتعدد الإيماني ولا تكفّر المختلف في الدين والمذهب، وذلك انطلاقاً من إعادة قراءة للنصوص(القرآن والسنّة) وخصوصاً الآيات القائلة بالتعدد والتسامح الديني من جهة، وتوافق المسلمين على مختلف مذاهبهم بإسلام من شهد الشهادتين ولو لفظاً وحرمة دمه وماله وعرضه من دون الحاجة إلى شق قلبه واختبار إيمانه وبحث تفاصيل عقائده وفقهه لتكفيره، من جهة أخرى، انطلاقاً من عقيدة إرجاء الأمر إلى الله تعالى ليفصل في ذلك يوم القيامة.

وكان المفكر الإيراني المعروف عبدالكريم سروش قد كتب عام 1998 مقالة نشرت مع حوارات له في كتاب “الصراطات المستقيمة: قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية”، نقله إلى العربية أحمد القبانجي (منشورات الجمل)، دعا فيه إلى التعددية الدينية. يقول سروش إن أطروحة التعددية (البلورالية) Pluralismالاعتراف برسمية التعدد والتنوع في الثقافات والأديان واللغات والتجارب البشرية. فالتعددية بالشكل الموجود حالياً تعد من نتاجات الحضارة الجديدة. فهناك تعددية في المعرفة الدينية وتعددية في المجتمع، ويوجد هناك ارتباط وثيق بينهما، بمعنى أنّ الأشخاص الذين يذهبون إلى القول بالتعددية على المستوى الثقافي والديني، لا يمكنهم التنكّر لمقولة المجتمع التعددي.

وتعتمد أطروحة “التعددية الدينية” في نظره على أساسين: الأول هو التنوّع في الأفهام بالنسبة للمتون الدينية، والثاني هو التنوّع في تفسيرنا للتجارب الدينية. فالناس يحتاجون في مواجهتهم للكتب المقدسة وللأمر المتعالي والذات المقدسة إلى تفسير وبيان، وإزالة ستار الابهام عن المتن الصامت أو التجربة الدينية الخام واستنطاقها. هذا الاكتشاف والاستنطاق لا يكون على شكل واحد بل يتميّز بالتنوع والتعدد، وهذا هو السبب في ولادة التعددية في داخل الدين وخارجه.

لقد حاول سروش في كتابه الشهير “نظرية القبض والبسط” توضيح السرّ في كثرة الفهم الديني وتنوّعه ومرد ذلك أنّ فهمنا للمتون والنصوص الدينية متنوع ومتعدد بالضرورة، وهذا التنوع والتعدد لا يقبل الاختزال إلى فهم واحد، وليس هذا الفهم متنوعاً ومتعدداً فحسب بل سيالاً أيضاً، والسرّ في ذلك أنّ النصّ صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواءً من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية، وبما أنّ هذه الفروضات المسبقة مستوحاة من خارج الدين، وبما أنّ الفضاء المعرفي خارج الدين متغير وسيّال، كما أنّ العلوم البشرية والفلسفة ومعطيات الحضارة الإنسانية تزداد وتتراكم وتتغير باستمرار، فلهذا كله كانت التفاسير المترتبة على هذه التوقعات والفروضات المسبقة متنوعة ومتغيرة.

ويستدل سروش بأن القرآن الكريم وأحاديث النبي تحتمل تفاسير متعددة، وهناك روايات عدة تشير إلى أنّ للقرآن سبعاً أو سبعين بطناً، بحيث إننا إذا كشفنا الطبقة أو القشرة الاُولى في معنى النص لظهرت لنا طبقة اُخرى من المعنى، وأحد الأسباب الكامنة في هذه الظاهرة هو أنّ الواقع يتضمن التعدد في باطنه. هذه الظاهرة هي التي تحفظ للنصّ طراوته وتضمن خلوده. ويذهب إلى أن رأسمال الأديان يتمثل في هذه العبارات النافذة إلى القلب والعميقة في المعنى والأبدية على مستوى الزمان بحيث إنها تمنح كلّ شخص يقرأها مضموناً جديداً، ولولا ذلك لفرغت من محتواها وتلاشت.

وهناك روايات تشير إلى أن بعض آيات القرآن نزلت لأقوام متعمقين سيأتون في آخر الزمان، وقد ورد في الروايات أن “ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه”. هذا كلّه يعني إمكانية وجود مراتب مختلفة للكلام الواحد، وبالتالي وجود بطون كثيرة لا بدّ من الكشف عنها والتحقيق فيها. يقول سروش: نحن قبلنا بالتعددية في عالم التفسير، ولم نعترف لأيّ مفسّر بأنه خاتم المفسرين.

واستناداً إلى نظريته في القبض والبسط وخلاصتها فإنه لا يوجد دين بدون تفسير وأن الإسلام هو تاريخ التفاسير التي صدرت عن المسلمين وهكذا الأديان الأخرى، وحيث أن التفاسير متنوعة ومتعددة دائماً، فلا أحد يقبض على التفسير الصحيح والوحيد للدين، فالمعرفة الدينية هي مجموع هذه التفاسير والأفهام للنصوص الدينية. وإذا كان الدين مقدساً فإن المعرفة الدينية أو التفسير البشري للدين ليس مقدساً، ولا يمكن تجنّب تعدد الفهم البشري لهذه النصوص الدينية في كل زمان ومكان، وبالتالي حصر الدين في تفسير واحد وتكفير من يؤمن بتفسيرات أخرى.

ويرى سروش أن لعل نفس هذه الكثرة في القراءات والتفاسير مطلوبة، ولعل معنى الهداية أوسع مما نتصوّر، ولعل النجاة والسعادة الأخروية تكمن في شيء آخر وراء هذه الأفهام والانطباعات الذهنية عن الدين والمذهب. وينطلق سروش في رؤيته هذه للتعددية الدينية من أساس صوفي عرفاني يعبّر عنه الشيخ محيي الدين إبن عربي في أبيات مشهورة:

لقد كنتُ قبلَ اليوم أنكِرُ صاحبي إذا لم يكنْ ديني إلى دينِه داني

لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان وبيتٌ لأوثان

وكعبةُ طائفٍ وألواح توراة ومصحفُ قرآنِ

أدين بدين الحبِّ أنّى توجّهــت ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني

إذاً يعتقد سروش بالحقيقة النسبية وليس بالحقيقة المطلقة. فليس هناك من دين أو مذهب يمكنه الادعاء بحصر الحق به واعتبار الأديان والمذاهب الأخرى بالباطل والكفر. ويحاجج بأن التعدديين يقولون بأن الواقع ذو أبعاد والحقيقة ذات بطون، ولذلك يتعدد الحق ويتنوع، أما الحصريون فيجيبون: ماذا تصنعوا بالتناقضات؟ هل يعقل أن تكون مذاهب عدة متناقضة كلها على حق؟ يجيب التعدديون: لعل الحقيقة الدينية إلى درجة من الغموض والإبهام أن الذهن واللسان يقعان في دوامة التناقض، فيرد الحصريون: إذا كان هذا الكلام صحيحاً بالنسبة للذات الإلهية المقدسة(هو الأول والآخر والظاهر والباطن)، فماذا نقول بالنسبة للمقولات والمفاهيم الدينية الأخرى كاجتماع نبوة المسيح ونبوة محمد حيث الثانية نسخت الأولى باعتقاد المسلمين؟

يرى القائلون بالتعددية الدينية أن لعل الحق هنا من قبيل “الحق بالنسبة إلى…” لا الحق المطلق، ولذلك يكون المسيح نبياً للمسيحيين، ومحمد نبياً للمسلمين. لكن الحصريين يقولون إن كل واحد من النبيين قال من موقع الحصر بأن طريق النجاة والفلاح واحد وهو المتمثل بدينه، فيجيب التعدديون إن هذا صحيح وهو بذاته يولّد التعددية ويؤدي إلى تكريسها.

وعندما يحاجج الحصريون التعدديين بالقول: ماذا نصنع بالأدلة العقلية التي تقرّر أفضلية دين وأحقيته على سائر الأديان؟ يردون: إن عقلاء كل طائفة يرون أدلتهم أقوى من أدلة الآخرين ولا يذعنون لصحة أدلة الطرف الآخر. فالحق الذي توصلنا إليه بعقولنا هو الحق النسبي لا الحق المطلق، وبالتالي نصل إلى التعددية، فالحقانية مقترنة بالعقلائية، والهداية بدورها مقترنة بالحقانية، والسعادة مقترنة بالهداية.

يلتفت سروش إلى أنّ البعض سيقول فوراً: ما هي النتيجة من هذا الكلام؟ هل تريد أن نترك ما نحن عليه من الحقّ، أو نحسب أهل الضلالة والباطل من أهل الحقّ، أو نساوي بين الحقّ والباطل في معيار العقل والمنطق؟”. ويجيب أنه ليس هذا هو المقصود، إنّما القصد أن ننظر إلى كثرة الآراء وتنوع العقائد بمنظار آخر لنكتشف فيها روحاً اُخرى فمعترك الفهم الديني بمثابة ميدان سباق فيه لاعبون كثيرون، والمسابقة لا تقوم على مشاركة شخص واحد، بل تقوم على هذه الكثرة والتعدد، وأوّل شرط فيها أن نرى هذه الكثرة ولا نتصور أنّ تفسيرنا في هذا العالم هو الحقّ الوحيد وفهمنا هو الفهم المصيب ونتحرك من موقع إخراج سائر اللاعبين من ساحة اللعب.

فالتعددية في فهم النصّ لها مفهومٌ واضح هو عدم وجود تفسير رسمي وواحد للدين أبداً، ولذلك لا يوجد مرجع ومفسر رسمي له ولا يوجد أيّ فهم مقدس وخارج حدود النقد، فكلّ إنسان يتحمل مسؤوليته على عاتقه ويحشر وحيداً أمام ربّه، فالوحدة مطلوبة مثلاً في الحاكم السياسي وليس في الحاكم الفكري والديني.

ويرى سروش أن هناك نوعاً ثانياً من “البلورالية” الناشئة من تنوع وتعدد تفاسير التجارب الدينية. التنوع الذي لا يقبل الوحدة في ذاته، فالتجربة الدينية عبارة عن مواجهة الأمر المطلق والمتعالي وهذه المواجهة تتجلّى بأشكال عديدة وصور مختلفة، فتارةً بصورة رؤيا، واُخرى بسماع صوت معين، وثالثة برؤية ملامح وألوان، ورابعة على شكل احساس باتصال النفس بعظمة عالم الوجود. وأحياناً تشعر النفس بانقباض وظلمة، وأحياناً اُخرى بانبساط ونورانية… فكلّ هذه الحالات الروحية والمتغيرات النفسانية يمكنها أن تكون مصاديق التجربة الدينية مع ما بينها من تفاوت في الأبعاد، التجربة الدينية تجربة غير مألوفة. والتجربة الروحية المتولدة من عبور السالك على الملك والملكوت بنفسها نوع من التفسير لهذه التجارب. فالنبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) قد وضع بين أدينا تجربة قلبية أقوى وأشد من جميع التجارب، هي تجربة المعراج. وإنّ أدنى مرتبة لهذه التجارب، الرؤيا التي يعيشها الإنسان في منامه حيث ورد عن النبي أنّ الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.

يؤكد سروش أنه يعتمد في أطروحته على كلام المتصوف الكبير جلال الدين المولوي، الذي يعتبره “خاتم العرفاء” و”بيانه يمثل أحلى وأجمل بيان”. فقد ذكر في ديوانه “المثنوي” مفردة “منظر” كثيراً، والمنظر هو ما نصطلح عليه بالرؤية والنظرية، ويتحدث المولوي في شعره عن اختلاف المنظر ويقول: “من خلال المنظر يا عقل الموجود يختلف المؤمن والمجوسي واليهود”. فهنا يذكر المولوي ثلاثة أديان عالمية: الإسلام والمجوسية واليهودية، فيقول إنّ اختلاف هذه الأديان الثلاثة لا يعد اختلافاً في دائرة الحقّ والباطل بل اختلافاً في المنظر والرؤية فحسب، فالحقيقة واحدة ولكنّ الأنبياء ينظرون إليها من زوايا مختلفة، أو يقال بتجلّي الحقيقة لهؤلاء الأنبياء الثلاثة على ثلاثة أنحاء ومن خلال ثلاثة نوافذ، ولهذا قدّموا لنا ثلاثة أديان، وعلى هذا الأساس فانّ السرّ في اختلاف الأديان لا يكمن في اختلاف الظروف الاجتماعية أو التحريف الذي طرأ على الأديان واستلزم ظهور دين آخر، بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود، فكما أنّ عالم التكوين متنوع فكذلك عالم التشريع متنوع.

إذا ثمة حتمية للتعددية الدينية، فالأديان والمذاهب كثيرة، لكن ما يجمعها هو حب الله، أو كما يقول الإمام محمد الباقر: “هل الدين إلاّ الحب؟”.

ويبدو أن الواقع العربي والإسلامي اليوم يفتقد إلى الحب الذي هو جوهر العلاقة بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، بينما يحل مكانه الكره والعنف بإسم الدين وفي سبيل التقرّب إلى الله. والصراعات المذهبية والطائفية التي تسود العالم الإسلامي اليوم ليست ظاهرة فريدة أو جديدة؟ فقد عرف العالم الإسلامي سابقاً بعض هذه الصراعات التي كانت ذات بعد مذهبي أو طائفي أو كانت سياسية وسلطوية ولكن تم استخدام الغطاء الديني والطائفي كإطار للتعبئة والحشد لدعم هذا السلطان أو ذاك النظام.

وقد عرف الغرب المسيحي صراعات وانقسامات طائفية بين الكاثوليك والأرثوذكس ثم بين الكاثوليك والبروتستانت، أفضت إلى حروب طاحنة في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا أسفرت عن مقتل ملايين الأشخاص حيث سقط في ألمانيا وحدها خلال حرب الثلاثين عاماً(1618-1648) بين البروتستانت والكاثوليك أكثر من ستة ملايين شخص، وهبط عدد سكانها من 20 مليوناً إلى 13.5 مليون نسمة. ولم تتوقف الحرب حتى وقعت اتفاقية وستفاليا للسلام عام 1648، وكان من أبرز بنودها الاعتراف بحرية الاعتقاد والعبادة للبروتستانت.

اقترح الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في القرن السابع عشر نظرية مفصلة لفكرة التسامح، اشتملت على مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة والذي شكل حجر الأساس لمبادئ الديمقراطية الدستورية. وكان قانون التسامح البريطاني لعام 1689 حصيلة للجهود الفكرية والسياسية المبذولة حول فكرة التسامح. لكن انتشار الفكر العلماني وفصل الدولة عن الكنيسة في أوروبا قد حدث فعلياً في القرن التاسع عشر ونتيجة للثورة الفرنسية سنة 1789. وقد ساهمت سيادة العلمانية في الغرب في ترسيخ أسس الدولة المدنية ومفاهيم المواطنة والقانون وحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وبينها حريات الدين والاعتقاد والعبادة. وبرغم الحريات الدينية التي كفلها الدستور الأميركي عام 1788، لم يقدر الكاثوليك واليهود على التمتع الفعلي بها في الولايات المتحدة حتى القرن الـعشرين.

إذن يمكن القول إن الغرب تمكن من تجاوز مشكلاته الطائفية وصراعاتها الدموية، وذلك من خلال مبادئ العلمانية والليبرالية والديموقرطية، وخصوصاً الحريات الفكرية والسياسية والتسامح الديني وقبول الاختلاف واللجوء إلى الوسائل السلمية والديموقراطية في صراعاته السياسية وحسم الخلافات داخل المجتمعات والدول.

Optimized by Optimole