من كسر المزهرية؟

Spread the love

بقلم: د. عقيل سعيد محفوض* — حلب اليوم هي عين سورية، بل عين ما يجري في العالم، إذ تتركز المواقف والسياسات حولها، وتتواصل المعارك من أجل السيطرة عليها. ومع استمرار تقدم الجيش السوري وحلفائه فيها، تمارس واشنطن ضغوطاً غير مسبوقة على موسكو، من أجل اتخاذ إجراءات فورية لإلزام دمشق بوقف إطلاق النار، وإلا فإنَّ ثمة تطورات ميدانية وعسكرية قد تؤدي إلى خسائر في قواتها العاملة في سورية، بل واعتداءات يمكن أن تطال مدناً في روسيا أيضاً؛ وقد شبّهت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا تهديدات واشنطن بأنها: “أشبه ما يكون بالإيعازات الأوامرية”.
حلب اليوم هي الخبر أو الحدث رقم واحد في العالم، وهي كذلك منذ معارك الكليات، ومعارك منبج، ودخول الجيش التركي إلى مدينة جرابلس، واتفاق الكاستيلو الذي أجهضته الاعتداءات الأمريكية على مواقع الجيش السوري في محيط مطار دير الزور. وإذا ما تصاعد التوتر بين روسيا والولايات المتحدة حول حلب، فسوف تمثل المدينة أيقونة أو رمزاً أو مِحرقاً للصراع في العالم اليوم، وربما حدثاً بدئياً وشرارة لمواجهات كبرى.

لم تغير التهديدات الأمريكية من موقف روسيا في حلب، واستمر دعم روسيا للجيش السوري والقوى الحليفة هناك، وقد أعلن سيرغي بيسكوف المتحدّث باسم الكرملين أنّ القوّات الروسية، ستواصل عمليّاتها في سورية. طبعاً هدف موسكو هو دعم دمشق وحلفائها، من أجل استعادة المدينة من سيطرة الجماعات المسلحة الموالية لواشنطن وأنقرة وحلفائهما؛ فيما هدف واشنطن وحلفائها هو السيطرة على المدينة، وتمكين الموالين لهم فيها، وإن لم يكن فتدميرها، وتمكين الجماعات المسلحة من خوض معارك تستنزف روسيا في الأزمة السورية.
إنَّ الوضع في سورية بعد عام على الحراك العسكري الروسي، يُذكِّر بقصة قديمة يوردها ميشيل فوكو في محاضرة له في الكوليج دو فرانس، وهي قصة “مزهرية سواسون”، وفيها لحظتان يمكن أن توضحا جانباً من الصراع المحتدم على حلب.
يُحكى أن قائد أحد الجيوش الغازية، بينما كان يحصي الغنائم بعد السيطرة على مدينة سواسون (فرنسا) من أجل توزيعها على المنتصرين، قال: “أريد هذه المزهرية”، فرد عليه أحد المقاتلين: “ليس لك الحق في المزهرية، وما تم الاستيلاء عليه بالحرب، يجب أن يقسم ويوزع بين المنتصرين”، وهوى المقاتل بفأسه على المزهرية فحطمها. تحسر القائد على المزهرية رائعة الجمال، لكنه لم يجد اللحظة مناسبةً لفعل شيء. هذه هي الحلقة الأولى من القصة، التي لها حلقة ثانية نذكرها في الختام.
لا يمكن لواشنطن وحلفائها أن يتركوا المزهرية لموسكو وحلفائها، كما يصعب عليها تطبيق التفاهمات والاتفاقات السابقة، لأنها لا تضمن لها ما تريده، ومن ثم فإنها تريد المزهرية كلها، وتقسيم المزهرية يعني كسرها، لا حلول وسطاً هنا، وواشنطن البراغماتية لا تقبل الحلول الوسط أو التسويات. وقد أشار نائب وزير الخارجيّة الرّوسي سيرغي ريابكوف إلى أن واشنطن تريد “فرض مقاربات أحادية، وهذا ما ترفضه موسكو دائماً”.
وإذ تزيد واشنطن دعمها للجماعات المسلحة، وتهدد بأن موسكو ربما تواجه خسائر في الأرواح والطائرات، كما قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية جون كيربي، فإنها تزيد من الصراع وتعزز الإرهاب الذي تدعي محاربته، وتُغَلِّبُ منطق المواجهة على منطق التفاهم، على أمل أن ترضخ موسكو للضغوط فتوقف دمشق حملتها في حلب، وتعود سيرة الهدنة/الخدعة كما حدث في 27 شباط/فبراير الماضي عندما استغلتها واشنطن، وقامت بتنظيم وتسليح المجموعات المسلحة الموالية لها، ومكنتها من استعادة السيطرة على مناطق في جنوب حلب، سبق للجيش السوري أن انتزعها منها.
وها هي واشنطن تقول في موسكو ما لم تقله فيها أيام الحرب الباردة. هذا يعني أنها تريد منع موسكو ودمشق من الحصول على المزهرية، حتى لو تطلب ذلك كسر قواعد اللعبة بينها وبين موسكو، ليس في سورية فحسب وإنما في مناطق أخرى، وربما في داخل روسيا نفسها، حسب تصريحات جون كيربي (29/9/2016).

تقترب القوات الأمريكية والتركية (والجماعات المسلحة الموالية لهما) من حلب، فقد دخلت إلى مارع وأعزاز في ريف المدينة (30-9-2016)، فيما تزيد روسيا من وجودها العسكري إلى جانب الجيش السوري وحلفائه، وترتفع وتيرة المواقف بين موسكو و واشنطن، ما ينذر بتطورات غير مسبوقة، ويفتح الرهان على حلب والمشهد السوري، كما لم يحدث من قبل.
إنَّ إصرار الجيش السوري وحلفائه على استعادة حلب، أقوى من تهديدات واشنطن، خاصةً أنَّ دمشق وحلفاءها يدركون أن واشنطن تريد إيقاف الحملة في حلب، من أجل تمكين الموالين لها من الهجوم على المدينة والاستحواذ على “المزهرية”. وعندما يتمكن الجيش وحلفاؤه من استعادة المدينة، سوف يكون تحالف دمشق أقوى عسكرياً، وأقوى في تقرير التسوية السياسية المحتملة، ما يعني “تهميش” دور واشنطن وحلفائها في المشهد السوري، مقارنة بدور روسيا وإيران وحلفاء آخرين.
كلما لاح أمل بالتهدئة أو بتقدم الجيش السوري وحلفائه في الميدان، برزت عوامل تفجير جديدة، ذلك أن فواعل الأزمة وفي مقدمها الولايات المتحدة وحلفاؤها غير مستعدين للتحول من الحرب إلى السياسة، وأن الولايات المتحدة لن تمكن الرئيسين بوتين والأسد وحلفاءهما، من الاحتفال بتطورات الميدان ومنجزات عام على “عاصفة السوخوي” في سورية، وإنما ستشغلهم بتقدير مصادر التهديد الجديدة والمتزايدة.
قد يمضي وقت طويل في المشهد السوري، قبل أن تصل الأمور إلى لحظة استقرار مناسبة، ويحين وقت الحلقة الثانية من قصة فوكو عن “مزهرية سواسون”، إذ أقام القائد العسكري المذكور عرضاً عسكرياً بمناسبة انتصاره، وعندما شاهد ذلك المقاتل الذي كسر المزهرية، اقترب منه، وحدّق في وجهه، ثم انتزع منه فأسه، وهوى بها عليه قائلاً: “هل تذكر المزهرية؟”.

*باحث وأكاديمي سوري.
المصدر: مركز دمشق للأبحاث والدراسات

Optimized by Optimole