في سؤال الثورة

Spread the love

د. عقيل سعيد محفوض* —

لم تحدث الثورات أو الاحتجاجات في كل الدول العربية، إلا أن تأثيراتها طالت المجال العربي ككل، ولا يمكن القول بأن ثمة في العالم العربي من أو ما لم تطله – بكيفية أو أخرى – تأثيرات ما يجري، ولكن يجب ألا يثنينا ذلك عن البداهة الأساسية الكامنة في قلب أي حدث كبير أو مواجهة كبرى وهي الصراع على “التقسيم السلطوي للقيم” المادية والمعنوية، بحسب تعريف شهير لعلم السياسة؛ وأن التحولات الكبرى هي عبارة عن “عملية” أو “سيرورة” محكومة نتائجُها ومآلاتها بديناميات وفواعل كثيرة، لعل أهمها –في عالم اليوم- هو ديناميات التحكم والضبط التي تمارسها أو تفرضها أو تحاولها فواعل دولية قاهرة.
أدى الحدث العربي منذ العام 2010/2011 وحتى اليوم، إلى إعادة طرح سؤال الثورة والتغيير الاجتماعي والسياسي، وإعادة التفكير في وضعية الدول العربية والمجال الإسلامي في النظام العالمي، وقد ثارت توقعات كثيرة بأن المنطقة العربية والشرق الأوسط مقدمان على تحولات “ثورية” سوف تغير من وضعهما في العالم، وأن العرب الذين “خرجوا من التاريخ” هم بصدد “العودة إليه”، بل إن التاريخ الذي انتهى –كما ادعى فرنسيس فوكوياما- قد يكون عاد مجدداً مع “البوعزيزي”.
إلا أن تطورات الأمور أظهرت أن السياسة في المنطقة، وفي عالم اليوم، أكثر تعقيداً، وأن التوقعات المشار إليها كانت أقرب للأدلجة منها للتبصّر في الواقع وإمكاناته وفرصه وإكراهاته، بل إن ثمة مراجعات تُعيد كل ما جرى إلى “مؤامرة” دُبِّرت في ليل أو نهار.
وقد طرحت الأحداث في عدد من الدول العربية أسئلة شاقة على علماء السياسة في المنطقة والعالم، حول طبيعة المجتمعات العربية، ولماذا لم يكن ممكناً توقعها، ولم يكن ممكناً توقع مآلاتها؟ الأسئلة نفسها طرحت على الدراسات الاستشراقية ومراكز الأبحاث والدراسات في الغرب أيضاً. وقد تكون دراسة الصديق الدكتور هيثم مزاحم الصادرة تحت عنوان “لماذا تحدث الثورات؟” هي إحدى الاستجابات البحثية لتلك الأسئلة، ولكن بتوسل أدوات نظر وبحث وتحليل وتأصيل نظرية تعود لعدد من أهم من كتب عن “الثورة” و”التغيير الاجتماعي والسياسي”.
إن النقد العميق لما حدث في عدد من الدول العربية، خطاباً وسلوكاً، لا يعني بأي حال أن الشعوب في تلك البلدان وغيرها ليس لديها ما يبرّر رغبتها واندفاعها للتغيير، كما أن النتيجة الخاطئة لا تعني بالضرورة أن البداية كانت خاطئة، ذلك أن عالم السياسة معقد ومتداخل، وثمة دوماً من يتربص بالشعوب شروراً ومكائد، بـ”اختلاق” أو “تدبير” ثورة أو “إجهاضها” إن اقتضت المصلحة ذلك.
يحاول الدكتور هيثم مزاحم تقصّي سؤال الثورة في الفلسفة والتاريخ والفقه والعلوم الاجتماعية المختلفة، وفي التجارب السياسية أيضاً، ويطرح السؤال: لماذا تحدث الثورات أو لماذا يثور الناس؟ محاولاً استخلاص نقاط التشابه أو النقاط المشتركة بين الثورات التي تناولتها بالدراسة، وكيف أن منظّرين كباراً حاولوا تقديم جهود تحليلية وتفسيرية معتبرة، وهذا ما فعلته حنة أرندت وألكسي دو توكفيل وإريك هوبزباوم وغيرهم، والذين تناولوا بدورهم مقاربات عديدة لمفاهيم الثورة وتجاربها في التاريخ.
يتقصى الكتاب الأصول اللغوية والتاريخية لمفاهيم الثورة، ومتى أصبحت مفاهيم دائمة الحضور في العلوم الاجتماعية والسياسية، ويلاحظ أن الأصول اللغوية والتجربة التاريخية في الثقافة العربية والإسلامية استخدمت تعبير”الخروج” وليس “الثورة”، ومع ذلك فإن تعبير الثورة يستخدم بكثرة في المنطقة العربية والشرق الأوسط وعنهما، كما لو أنه تعبير “أصيل”.
ينطلق كتاب الدكتور مزاحم من سؤال دائم له تجلّيات وتمظهرات مختلفة تتركز حول التغيير الاجتماعي، ولو أن هاجس السياسة أو السياسيين هو كيف يمكن “احتواء” الثورات أو الاضطرابات الاجتماعية، و”منع” الخروج على السلطان أو الدولة أو النظام أو غير ذلك؟
يفتتح الكتاب حيز النقاش والتناول العلمي الدقيق لسؤال جدي حول ما جرى في عدد من البلدان العربية، وهو: هل أن ما جرى في المنطقة هو “ثورات”، وهل كانت التسميات مطابقة، وهل على الواقع أن يسير وفق قوالب وأنماط نظرية بالأساس، ولماذا تُحاط تعابير مثل “الثورة” بنوع من الدلالات القطعية قدسية الطابع على أنها تُمثّل الاتجاه الحاسم والصحيح في التاريخ، خلافاً لإرث “الآداب السلطانية” في المشرق، وإلى أي حد يمكن لتاريخ وأفكار ورؤى الآخرين أن تساعد في توضيح ما يجري في المنطقة، وهل أن استخدام تسمية “ثورات” هو في محله، وما الذي يمنع من استخدامها بناء على الخطاب وليس الفعل، أو بناء على ما وعدت به وليس على ما انتهت إليه، ألا يمكن للثورات أن تفشل، وهل أن الفشل ينفي عنها صفة الثورة؟
إن الأساس الأنثروبولوجي والتاريخي وأنماط البنى والتكوينات والتفاعلات الاجتماعية الخ في المنطقة –وأرجو ألا يكون في ذلك شبه مع تقديرات الاستشراق- لا تشجع كثيراً على استخلاصات مؤيدة أو مرجحة لـ”الثورة” كما ترد لدى ماركس ولينين وأرندت وتوكفيل وبريتون وغيرهم، لأن أكثر محاولات “الثورة” أو “الخروج” في المنطقة كان مصيرها “الإخفاق”، وليس لدى شعوب المنطقة الكثير من الأمثلة على ثورات ناجحة، ذلك أن ما بدأ “ثورة” كثيراً ما انتهى إلى الفوضى والدمار وربما الإبادة.
وعلى الرغم من أن تاريخ المنطقة شهد ثورات متتالية، وفكرا ثورياً غنياً، إلا أن العقل العربي والإسلامي، إذا صح التعبير والتعميم، لم يتمكن من إدراجها في منظومة القيم المعتبرة لديه، وبقيت “خروجاً” على الحاكم أو السلطان، وبقي موقف أكثر الفقه الديني والسياسي رافضاً لتراث الثورة. وهنا يبرز السؤال: ما الذي جعل العديد بل الكثير من الفواعل السياسية، والإسلاموية منها على وجه الخصوص، تحتفي بما يجري في المنطقة، وتعده ثورات مباركة، خلافاً لتراثها ومدوّناتها الفقهية وتجاربها التاريخية؟
قد يكون من سمات ما حدث في عدد من الدول العربية هو أن خطاب الثورة بالمعنى التبجيلي شهد نكوصاً خطيراً بشكل فاق كل التوقعات، ووصل الأمر لدى عدد من مثقفي الحدث العربي والإقليمي أن تحول من خطاب يساروي حداثوي إلى خطاب مذهبي طائفي مريع، وثمة مثقفون دعوا إلى إبادة جزء من الشعب، أو طوائف وأعراق أو مدن بعينها. ولكن في المقابل قام مثقفون آخرون بمراجعة جدية لمواقفهم تجاه الحدث العربي والإقليمي، وأظهروا تحفظات ومعارضات صريحة بعدما كانوا من المؤيدين بإطلاق.
عودة إلى كتاب الدكتور مزاحم، الذي يضيء على مفاهيم الثورة ولماذا يثور الناس، ليس باستعراض أهم الآراء والتنظيرات حوله فحسب، وإنما بتناول أهم الثورات قديماً وحديثاً، ولعل سعيه للوصول إلى القواسم المشتركة بين الثورات أو بين مقاربات المفكرين الذين تناولوها، يصل بالقارىء إلى المعرفة المطلوبة من نصوص وكتابات على هذا المستوى من الجدية والعمق.

*باحث وأكاديمي سوري

Optimized by Optimole