حزب العمل الإسرائيلي: النشأة والأيديولوجيا

شمعون بيريس
Spread the love

بقلم: د. هيثم مزاحم — حزب العمل الإسرائيلي (مفليجت هعفودا هيسرائيليت) هو حصيلة اندماج الأحزاب العمّالية الثلاثة؛ الماباي واحدوت هعفودا ورافي في حزب واحد، وذلك بعد مداولات استغرقت أشهرًا. وشكّل هذا الحزب إطارًا جديدًا لعودة حزب الماباي القديم قبل انشقاق حزبي أحدوت هعفودا العامَ 1944 ورافي العامَ 1965.
ولعلَّ أهمَّ الأسباب التي أدّت إلى اتّحاد هذه الأحزاب هي:
1- كانت وحدة الأحزاب اليمينية في اتّحاد جاحال (التجمّع اليمينيّ) من أهمّ العوامل الضاغطة التي دفعت الأحزاب العمّالية الثلاثة إلى الاتّحاد في حزب واحد.
2- كان التقارب بين حزبي الماباي وأحدوت هعفودا قد وصل غلى درجة متقدّمة جدًّا، خصوصًا بعد خروج أحدوت هعفودا من حزب المابام العامَ 1954، ثمّ تحالفه مع الماباي في تجمّع المعراخ الانتخابيّ العامَ 1965، واشتراكه في الائتلاف الحكوميّ العامَ 1967، بحيث أصبحت الفروق بين الحزبَين هامشية جدا لا تمسّ الجوهر، ولا تحول دون اندماجهما.
3- كان الإخفاق النسبيّ الذيب مُني به حزب رافي في انتخابات العامِ 1965 بحصوله على عشرة مقاعد فقط، والذي جعله خارج التشكيلة الحكومية ، قد أظهر لقيادته أنَّ الطريق إلى السلطة من جديد لا يكون إلا بالتحالف أو الاندماج مع تجمّع المعراخ.
4- كان لارتفاع شعبية موشي دايان لدوره – بوصفه وزيرًا للدفاع – في انتصارات حرب العامِ 1967، وتسرّب الأنباء عن مفاوضات سرّية لإجراء تحالف بين حزبَي رافي وجاحال، أثرهما الكبير في دفع حزب الماباي إلى البدء بحوار مع حزب رافي لتوحيد الأحزاب العمّاليّة. وقد عقد الحزب مؤتمره التأسيسيّ في 21 كانون الثاني/يناير 1968 في القدس المحتلّة، حيث وقّع قادة الاحزاب الثلاثة؛ جولدا مائير وإسرائيل جاليلي وشمعون بيريز على الميثاق الأساسيّ للحزب.

أيديولوجيّة الحزب
لما كان حزب العمل الإسرائيلي استمرارًا مباشرًا لحزب ماباي التاريخي، فقد ظلّ يتبنّى ايديولوجيّة الماباي نفسها، أي “الجمع بين الصهيونيّة والاشتراكيّة الديمقراطيّة في رؤية براجماتيّة من أجل تحقيق كلّ الأهداف الاجتماعيّة والقوميّة للشعب اليهودي في إسرائيل”. ولا يزال حزب العمل إلى اليوم يصف نفسه بأنه حزب اشتراكي ديمقراطي ينتمي إلى الاشتراكيّة الدولية، ويقول غن رؤيته الأيديولوجيّة ترتكز على “قيَم الحركة العمّالية اليهوديّة التي هي نتاج التجربة الاجتماعيّة للشعب اليهودي وتراثه الثقافيّ”.
وأبرز الأهداف الأساسيّة للحزب التي تضمّنها ميثاقُه التأسيسيّ هي: “تجميع الشعب اليهودي في بلاده وإقامة مجتمع عمّاليّ حرّ في إسرائيل… والسعي من أجل تحقيق الأهداف القوميّة والاجتماعية والطلائعيّة بموجب روح تراث الشعب اليهوديّ ونبوءة الصهيونيّة الاشتراكيّة وقيم حركة العمل، والحرص(الدؤوب) على أمن إسرائيل، وإبعاد كلّ خطر يتهدّد كيانها وسيادتها وسلامتها ووحدة أراضيها”.
أمّا أهداف الحزب – كما وردت في التقرير السياسيّ الصاد عنه في أيلول/سبتمبر 1997 – فتتمثّل في “تعزيز الشكل الديمقراطي للحكومة، وتحقيق التطوّر الاجتماعي والاقتصاديّ والاقتصاديّ لجميع المواطنين الإسرائيليّين، وتقوية الاقتصاد الإسرائيليّ على أسس مبادئ السوق الحرّة وإنجاز السلام الحقيقيّ (المترافق) مع الأمن في الشرق الأوسط”.

1- التطوّر الأيديولوجي
شهد حزب الماباي-العمل تطوّرًا أيديولوجيًّا تدريجيًّا تمثّل في تخلّي الحزب عن المبادئ الاشتراكيّة الماركسيّة وتحوّله في اتّجاه اليمين غلى الوسط، أي إلى مركز الساحة السياسيّة الإسرائيليّة. ويعكس تحوّل حزب العمل وتراجع أهميّة الأيديولوجيّة الاشتراكية لديه التغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي حدثت في إسرائيل، ولا سيّما في خلال خمسينيات القرن العشرين وستينياته، بفعل الهجرات الجديدة والتطوّر الاقتصاديّو التقنيّ، ما أدّى إلى نشوء مهن جديدةوتشكّل طبقات حديثة وصعود طبقات أخرى.
وقد سعى حزب الماباي–العمل لاستقطاب هذه الفئات الجديدة إليه، ما غيّر من البنية الاجتماعية للحزبن التي كانت تتشكّل من المزارعين والعمّال، بعد انضمام أعداد كبيرة من الموظّفين والحرفيين والمثقّفين والعلماء وأساتذة الجامعات،ـ الأمر الذي حوّل الحزب إلى حزب الطبقة الوسطى وحزب النخبة المثقّفة.
وكانت ثمّة آثار عميقة للفوارق الطبقيّة بين العمّال والمزارعين(الفئات الدنيا) وبين الفئات العليا(الموظفين الكبار والمثقّفين) الناجمة عن غياب مبدإ المساواة الاشتراكية في سياسة توزيع الرواتب ،وعن تقديم قادة حزب العمل الحاكم لمصالح الدولة على حساب مصالح المزارعين والعمّال الذين كان الحزب العمالي الاشتراكي يدّعي أنه يدافع عن قيمهم ومصالحهم. وقد أسفرت هذه التأثيرات عن تغيير ايديولوجيّة الحزب وبنيته السوسيولوجيّة، وهي تساهم في تفسير أسباب الانقلاب السياسيّ الذي أطاح حزب العمل العامَ 1977.
أمّا بالنسبة إلى مسالة العلاقة بين الدين والدولة فإنَّ حزب العمل حزب صهيوني علمانيّ لكنّه يقدّر التراث الدينيّ الذي شكّل الأساس الفكريّ للصهيونيّة، والشريعة اليهودية التي اعتُمدت باعتبارها أحد مصادر التشريع في الدولة الإسرائيليّة واتُّخذت شعائرها شعائرَ للدولة، وذلك رضوخًا لمطالب الأحزاب الدينيّة، ولا سيّما حزب المفدال الشريك التقليديّ لحزب العمل في الائتلاف الحكوميّ في الفترة 1948-1977 وحزب شاس الديني المتشدّد الذي يمثّل اليهود الشرقيين.
وكانت قوانين الشريعة اليهودية – وما زالت – سببًا للنزاعات داخل المجتمع الإسرائيليّ بين العلمانيين والمتديّنين، ولا سيّما مسالة الهويّة اليهوديّة (من هو اليهودي؟)، ومسالة تحريم العمل يومَ السبت، وقواعد الطعام (كوشير)، والزواج الدينيّ(عدم اعتراف الدولة بالزواج المدنيّ)، ومشكلة التعليم الديني أو العلماني. وقد رضخ الحزب خلال وجوده ي الحكم لابتزاز الأحزاب الدينية فقبل شروطها المتعارضة مع مبادئه العلمانية من أجل ضمان نيل حكوماته الثتقة أمام الكنيست.
أمّا رؤية الحزب في المجال الاقتصادي/الاجتماعي فقد عبّر عنها برنامجه الانتخابيّ لعام 1992 حيث دعا إلى “اقتصاد مختلط تنافسيّ مكوّن من القطاع الخاصّ والقطاع احكوميّ والقطاع العامّ الهستدروتيّ، يدار على اساس اقتصادي تجاريّ بدون تمييز، وتتوافر فيه مساواة في الفرص للجميع”. كما تعهّد البرنامج بان تقلّص حكومة العمل “من تدخّلها قدر الغمكان في النشاط الاقتصاديّ الاعتياديّ والمباشر”، وأن تسعى لبيع المشروعات الاقتصاديّة التي تملكها الحكومة. ودعا البرنامج إلى مواصلة سياسة تقديم الخدمات الاجتماعيّة والصحية للمواطنين التي تتولاّها الحكومة والقطاع العامّ.
ويمكن القول إنه لا توجد أيديولوجيّة واضحة محدّدة لحزب العمل، وذلك بسبب تعدّد الاتّجاهات الفكريّة والسياسيّة داخله وغياب الحسم في طروحه حفاظًا على وحدة الحزب من جهة، ولاستقطاب الناخبين والمؤيّدين من مختلف الاتّجاهات السياسيّة والشرائح الاجتماعيّة من جهة أخرى. ويعتبر زائيف سطرنهل، أستاذ العلوم السياسيّة في الجامعة العبرية، أن حزب العمل تخلّى عن شعاراته التقليدية الداعية إلى “مفاهيم الديمقراطية والاشتراكية” وأصبح يتحدّث بمفاهيم “دولة الرّخاء” فتحوّل إلى حزب رافي موسّع. ويعتقد سطرنهل أن الأيديولوجيّة السائدة في حزب العمل هي أيديولوجيًّا “السلطة التي تقوم على عبادة الدولة وعبادة القوّة السياسية”.
وهكذا فإن اشتراكية حزب العمل هي اشتراكية براجماتية استُخدمت من أجل جلب العمّال والمزارعين اليهود إلى فلسطين وفي تنظيم واستيعاب هؤلاء المهاجرين في مستوطنات جماعيّة (كيبوتسات). وكذلك استخدِم التأميم الاقتصادي بهدف تحقيق المشروع الاستيطاني الصهيونيّ الذي كان يحتاج غلى اقتصاد جماعيّ استيطاني يستطيع تامين نفقات التسلّح والحروب والهجرة والاستيعاب والاستيطان. ولذلك عندماتحقّق معظم هذه الأهداف تراجع الحزب عن هذه الشعارات “الاشتراكيّة الجماعيّة”، وحلّت مكانها الشعارات الوسطيّة والدعوات إلى اقتصاد السوق والليبراليّة.

2- حزب العمل بين الاشتراكية والليبرالية
عرف حزب العمل صراعا فكريا/سياسيا داخليا بين معسكرَين حول أيديولوجية الحزب؛ كان المعسكر الأول بزعامة إسحق رابين يرى ضرورة التكيّف مع المستجدات العالمية الجديدة والتخلّي عن الاشتراكيّة التي فقدت بريقها، واعتماد نظرية اقتصاد السوق الحرّة. وقد انتقد رابين الطابع الاشتراكي البيروقراطي لإسرائيل، وسيطرة حزب العمل على الاقتصاد الإسرائيلي. كما دعا إلى تحرير الهستدروت من صلاته بالدولة وخصخصة بعض صناعاته. أمّا المعسكر الثاني، بزعامة شمعون بيريز فكان يرى أنّ على الحزب السعي من أجل تغيير المجتمع الإسرائيلي بدلاً من التكيّف معه والحفاظ على الاشتراكيّة بصيغة جديدة “فوق قومية” (supranationalism).
وكان بيريز يأمل عودة العلاقات الحميمة مع الاشتراكيين الأوروبيين، ودمج البلاد في تكتّل سياسيّ واقتصادي واسع، أطلق عليه بيريز تسمية “الشرق الأوسط الجديد”، الذي يقوم – في رأيه – على أساس رؤية جان مونيه (الرؤية الفرنسية للاندماج الإقليميّ). ويرى بيريز أنه كما تمكّنت أوروبا من تجاوز حروبها القومية، وانتقلت إلى الاتّحاد السياسيّ والاقتصادي بين دولها، يمكن أن يحدث الشيء نفسه في “الشرق الأوسط الجديد” بعد إحلال السلام والأمن فيه، وقيام الاندماج الاقتصادي والتعاون الإقليمي بين دوله، فالاستراكية التي يدعو إليها بيريز وأنصاره تجد أصولها الفكرية في أوروبا، وفي رؤية حزب العمل القديمة، وفي إبعاد إسرائيل عن عمليّة “الأمركة” المتنامية، فإذا “كانت الحرب هي التي سلخت إسرائيل عن أوروبا حيث جذورها الفكرية والسياسيّة، فإنَّ السلام هو الذي سوف يعيدها جزءًا منها، حيث يمكن أن تؤدّي إسرائيل دور البوابة التي تدخل عبرها الأفكار والتجارة الأوروبيّة إلى التكتّل الاقتصادي الشرق أوسطيّ(MEEC)” الذي سوف يُخرج إسرائيل من عزلتها، ويساعدها على أداء دورها الطبيعيّ بوصفها امتدادًا لأوروبّا في المنطقة العربيّة.
وإن كان رابين لم ينجح قبل مصرعه في تغيير رؤية الحزب من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق الحرّة؛ بسبب معارضة “الحرس القديم”(بزعامة بيريز) الذي يسيطر على جهاز الحزب وعوائده الماليّة، فإنَّ هزيمة بيريز في انتخابات رئاسة الحكومة العامَ 1996 وتنحّيه إثرها عن زعامة الحزب قد شكّلا هزيمةً لرؤيته المثاليّة غير الواقعيّة.
وقد شرع إيهود باراك الليبرالي منذ تولّيه رئاسة الحكومة السابقة في تمّوز/يوليو 1999 في إصلاحات اقتصاديّة في الدولة الإسرائيليّة تعتمد على خصخصة بعض مرافق القطاع العامّ كشركتي الكهرباء والمياه وزيادة الضرائب وإيجارات المساكن وغيرها من التدابير التي تطال الطبقات الفقيرة والوسطى. وهذا يؤكّد تحوّل رؤية الحزب الاشتراكية نحو مزيد من الليبرالية. وقد تعرّضت سياسة باراك الاقتصادية هذه إلى انتقادات عدّة، إذ اعتُبرت هذه الإصلاحات الهيكلية التي تبنّتها حكومته مستوحاة من الليبرالية. ورأى وزير الأمن الداخليّ السابق شلومو بن عامي، وهو أحد قادة حزب العمل الذين يتمتّعون بشغبيّة كبيرة منه أنَّ هذه الخطّة “تعتبَر نقيدًا كاملاً لبرنامجنا الاجتماعيّ”. واتّهم الأمين العامّ للهستدروت عمير بيريتس حكومة باراك بانها “أكبر مُعادٍ للنظام الاجتماعي عرفته إسرائيل”.
ونقِلَ أنَّ باراك قد أعرب عن شكره لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير خلال زيارته للمملكة المتّحدة في تمّوز/يوليو 1999، وذلك بسبب المساعدة والمشورة اللتَين قدّمهما حزب العمل الجديد برئاسة بلير إلى حزب العمل الإسرائيلي فس الانتخابات. وقال إن الحزب سيتبع خطى حزب العمال الجديد والحزب الديمقراطي الأميركي في اعتماد “الطريق الثالث”. ونقلت صحيفة “دايلي تلغراف” عن وزير العدل الإسرائيلي السابق يوسي بيلين قوله “إننا تعلّمن الكثير كم اتلحزب البريطاني الشقيق، ذلك أن الثورة التي قادها بلير أثبتت لنا ضرورة الانتقال إلى الوسط والتحوّل إلى ليبراليين لا إلى اشتراكيين”.

Optimized by Optimole