تجربة الصين التنموية (1949-2020)

تجربة الصين التنموية  (1949-2020)
Spread the love

خاص مركز الدراسات الآسيوية والصينية – بقلم: رشا النقري * |

مقدّمة
لكلّ شعب من شعوب العالم حلم يمثّله ويسعى إلى تحقيقه. وللشعب الصيني كذلك حلمه الخاص؛ وقد مدّ هذا الحلم جذوره في تاريخ الأمّة الصينية وثقافتها. وهو اندمج كذلك في فهم الصينيين للعالم الخارجي وفي تصوّرهم عن موقعهم ودورهم فيه.
إنها جمهورية الصين الشعبية، التي شهدت تجربة تنموية رائدة على مدار ثلاثين عاماً متتالية، وكذلك أسرع تحوّل اقتصادي واجتماعي في العالم. لقد فعلها الصينيون، الذين انتقلوا ببلدهم من اقتصاد الزراعة إلى مصنع العالم، لتصبح الصين أكبر دولة مصدّرة للسلع وأكبر حامل للاحتياطي من النقد الأجنبي؛ كما احتلّت المركز الثاني في النمو الاقتصادي بعد الولايات المتحدة.
إنها الصين، أكبر قوّة بشرية في العالم، وبلد التعددية الدينية، وموطن التنّين الذي نهض من رماد الأفيون والحرب الأهلية، ليصبح معجزة العالم الاقتصادية، والدليل المرشد لدول العالم الثالث بطريقة استقلالية وغير انعزالية؛ إنها نهضة دولة متحضرة، ذات تاريخ طويل وأرض شاسعة.
إنها الصين، والتي تطمح بأن يكون لها دور أو موقع في النظام العالمي يتناسب مع ثقلها الهائل في حركة التجارة والاستثمار الدوليين، عبر تبنّيها استراتيجية الانفتاح والعولمة وتوسيع المشاركة، بدل استراتيجية العزلة.

الأهمية العلمية للبحث
تبرز الأهمية العلمية لدراسة التجربة التنموية الصينية، من خلال ما حقّقته الصين من إنجازات تكنولوجية واقتصادية كبرى، وتحمّلها لأصعب وأخطر الأزمات، حتى تصبح واحدة من أقوى دول العالم. ودراسة النهضة الصينية هي مطلب مهم، لأننا نحن العرب قلّما التفتنا في دراساتنا المختلفة شرقاً؛ فبحوثنا دائماً ما تتناول كل ما يتعلق بالغرب فقط؛ هذا الغرب الذي أخضعنا عسكرياً فيما مضى، وواصل هيمنته السياسية والاقتصادية والثقافية علينا فيما بعد.
ويُفترض بهذا الدور الصيني المتعاظم في العالم، والمدفوع بحماسة الصينين وفخرهم ببلدهم، أن يكون مرشداً للعرب في تخطيطهم لاستنهاض بلدانهم، مع الاستناد إلى ما سيكون عليه حضور الصين المتعاظم مستقبلاً، من أجل التخلص من المعيقات الخارجية لنهضة العرب الجديدة.
إن التوجّه نحو الغرب لا يُعدّ خياراً صالحاً للإسهام في تحقيق النهضة العربية أو توفير البيئة الملائمة لتحقيقها، رغم إنجازاته الحضارية الهائلة؛ فاستقلال الدول العربية ونجاح نهضتها سوف يمنع الغرب من استغلال موارد هذه الدول وإمكانياتها.

وتوجد ما بين الصين والعالم العربي مشتركات عديدة. فقد قامت النهضة الصينية على الأساس نفسه الذي صيغ منه المشروع النهضوي العربي، وهو “براغماتية النهضة” المؤسّسة على هدف وطني ثابت، يدعم وعيها بما تريد ويمنعها من الانزلاق والتردد؛ وهذا أبرز ما يمكن أن نقرأه ونتعلمه بأن سبب النهضة لأي أمّة أو شعب هو سبب ذاتي لا موضوعي.
مشكلة البحث
لقد قطعت الصين أشواطاً على صعيد الإصلاح الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة؛ وهي تحظى اليوم بمكانة عالمية. وهنا يبرز سؤالان رئيسيان :
إلى أي مدىً نجحت الصين في تحويل ميزان القوى لصالحها على المستوى الاقتصادي خلال تجربتها التنموية الأخيرة ؟
وكيف يمكن تفسير هذه النهضة الضخمة التي نجحت الصين في إرساء دعائمها في زمن يُعدّ وجيزاً للغاية؟

النطاق الزماني للدراسة
الفترة ما بين عامي (1949- 2020):
تمّ اختيار عام 1949 كبداية لفترة الدراسة، وهو تاريخ تأسيس الصين الجديدة أو الصين الشعبية. ولا بدّ من الإشارة الى الدور التاريخي لدولة الصين الصاعدة وسياساتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، التي مهّدت لوصولها إلى موقع الصدارة في النظام العالمي الحالي.
وتمّ اختيار عام 2020 كنهاية لفترة الدراسة، لأن الصين لا تزال حتى الآن قوّة صاعدة، وهي تسعى إلى تحقيق التحديث في جميع المجالات التي تمكّنها من مجاراة أو منافسة الدول الغربية المتقدمة.
تتضمّن هذه الدراسة المحاور الآتية:
المحور الأوّل: مراحل تطوّر الاقتصاد الصيني
-أوّلاً: مرحلة اقتصاد السوق الاشتراكي (1949-1977).
-ثانياً: مرحلة الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي (1978-2012).
-ثالثاً: مرحلة عصر النهضة (2012-الآن).
المحور الثاني: التحديات والصعوبات التي واجهت النهضة الصينية.
المحور الثالث: العوامل التي أسهمت في نجاح النهضة الصينية.
المحور الرابع: اليابان تفقد مكانتها الاقتصادية أمام الصين.

المحور الأول: مراحل تطوّر الاقتصاد الصيني
أسهمت كل مرحلة تاريخية من مراحل النمو الاقتصادي في تطوّر الاقتصاد الصيني، لينجح في السيطرة على جزء لا يُستهان به من الاقتصاد الدولي، وصولاً إلى المساهمة المباشرة في رسم التوجهات الاقتصادية الدولية، وذلك بالشراكة مع مجموعة من القوى الاقتصادية والسياسية العظمى.
وقد مرّ المجتمع الصيني في العصر الحديث بمراحل مختلفة، قبل وصوله إلى التطور الحالي؛ وأبرز تلك المراحل:
أوّلاً: مرحلة اقتصاد السوق الاشتراكي (1949-1977)
تميّزت تلك المرحلة بسيطرة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ التامة:
ففي مطلع 1949، أعلن المركز الاستشاري السياسي للشعب الصيني الذي سيطر عليه الشيوعيون قيام جمهورية الصين الشعبية، ما أعاد للصين وحدتها وسيادتها على كامل أراضيها. وكان ما يميّز الحزب الشيوعي الصيني أنه أقوى أجهزة الدولة؛ فهو تأسس في عام1921، وكان تركيزه على المفهوم الوطني قبل المفهوم الأممي؛ كما أن اعتماده على الفكر الإرشادي ساعد في تحقيق تماسك قوي للأمّة الصينية؛ وجرى الاهتمام بالهندسة الهيدروليكية والمشاريع الأساسية.
أما الرئيس ماو، فكان أسطورة جمهورية الصين الشعبية ورمزها؛ فهو صانع النهضة الصينية الحديثة ، والذي وضع الصين على المسار الصحيح للنهضة والتقدم، لتكون دولة كبرى لها أهميتها ومكانتها في العالم بعد أن كانت دولة تحت الاحتلال .
عُرِف ماو بإيديولوجيته المرنة القابلة للتعديل نسبياً بحسب خصائص كل مرحلة. وقد ارتبطت سياسته بمفاهيم أساسية، وهي: استمرارية الثورة، والخوف من الأعداء الخارجيين ،والتساند المتبادل مع الدول النامية .
أقام ماو جمهورية الصين الشعبية على اقتصاد محطّم، ومتأثر بالظروف الدولية التي كانت سائدة بفعل الحروب التي دارت سابقًا ضد الاحتلال الياباني، خصم الصين التاريخي، ومن جهة ثانية بالمواجهة ضد الحزب الوطني ذي الطابع الإقطاعي؛ بالإضافة للحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، والحرب الكورية عام1950.
لكن إنجازات ماو لم تكن مثالية. فقد شهدت الصين الكثير من النكسات والمآسي، وربما أخّرت ما أنجزته الصين في العقود التي تلت وفاته.

وضع ماو خططاً للنهوض الاقتصادي، ومنها: الخطة الخمسية الأولى (1953-1957)
هدفت هذه الخطة إلى انشاء المئات من المشاريع الصناعية بمساعدة الاتحاد السوفياتي؛ وتم وضع الأسس الاشتراكية للتصنيع، والتحول الاشتراكي في الزراعة أيضاً.
وانطلاقاً من هذه الأهداف طبّق “الإصلاح الزراعي” في المناطق التي يقطنها أكثر من 90% من المزارعين في البلاد، وحصل 300 مليون فلاّح على نحو 47مليون هكتار من الأراضي الزراعية على أساس التأميم ونزع الملكيات، وسيطرت الدولة بموجب ذلك على الاراضي والمحاصيل على حساب الفلاّحين.
وقد أدّت الخطة الخمسية إلى بعض النتائج المثمرة، من تنظيم الضرائب والسيطرة على آلية التضخم وتوفير فرص عمل جديدة وزيادة الأجور، الأمر الذي أدّى إلى تطوير البنى التحتية.
لكن خلال هذه الفترة سيطرت على البلاد حالة من الجفاف، إضافة إلى ضعف الإمكانيات الزراعية من الأسمدة وغيرها، وسيطرة الدولة على محاصيل الكومونات (وهي وحدات إدارية واسعة تشمل الريف والمدينة وتؤدّي ثلاث مهمات أساسية هي: الإنتاج والدفاع والتعليم)، فانعكس ذلك سلباً على الاقتصاد الصيني.
-بعد الخطة الخمسية، وضع ماو خطة سمّيت “القفزة الكبرى للأمام”، خلال الفترة بين (1958 -1961):
وكان هدفها تحويل البلاد بسرعة من اقتصاد زراعي موجّه مركزياً إلى مجتمع اشتراكي، من خلال التصنيع السريع والتجميع، أي من خلال الكومونات، حيث أراد ماو تحرير الصين من الحاجة إلى استيراد الصلب والآلات، والتركيز على الصناعات الثقيلة لتحقيق نهضة سريعة، بجعل معظم السكان الذين يعملون بالزراعة يتركون مِهنهم للعمل في الصناعة، ولكن من دون خبرة حقيقية؛ فقام المواطنون بتحويل المعادن الخردة إلى صلب قابل للاستخدام؛ وفي حالة اليأس غالباً ما صهروا المواد المفيدة، مثل الأواني والمقالي والأدوات الزراعية، وتمّت تغذية المصاهر عبر قطع الغابات بالكامل. وقد ألحقت هذه الخطة خللاً في توازن قطاعات الإنتاج وأثّرت على موارد الطاقة وعلى الوضع البيئي في الصين، حيث تضررت آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، وتراجع إنتاج المحاصيل الغذائية؛ وبالتالي هبط الإنتاج الحيواني أيضاً.
أدّى فشل هذه القفزة الاقتصادية إلى مجاعة أودت بحياة عشرات الملايين، والتي عُدّت من أسوأ المجاعات في التاريخ الإنساني. وشهدت سنوات القفزة تراجعاً اقتصادياً، فغدت الصين دولة فقيرة. ورغم الجهود المبذولة، لم تحقّق الصين تحوّلات اقتصادية كبيرة، وعانى الشعب من فقدان الطعام والكساء في ظل اضطرابات داخلية استمرت لعشر سنوات .
وفي المؤتمرات اللاحقة لتلك الفترة، درس الحزب الشيوعي الصيني الآثار السلبية للقفزة العظمى إلى الأمام، وتم انتقاد سياسة ماو وتهميشه، ما دفعه للبدء بما أسماه الثورة الثقافية البروليتارية، والتي كانت في الواقع بمثابة حركة تطهير ضد أعداء ماو.

-الثورة الثقافية (1966-1976)

دارت هذه الثورة حول تنميط الصين وفقاً لآراء وأفكار ماو، الذي كان يؤمن أن مصلحة بلاده تتحقق من خلالها، وذلك بحرق المراحل للانتقال من المجتمع الإقطاعي التقليدي إلى حالة الشيوعية فوراً، واعتبار المعارضين للأفكار الماوية ممثّلين للطبقات البرجوازية والإقطاعية أو عملاء للسوفييت. ونتيجة لذلك نشأ ما يُعرف بالحرس الأحمر الذي يتكوّن بأغلبيته من الطلبة؛ إلاّ أن الثورة الثقافية أدّت إلى اضطرابات اضطرت ماو إلى الاستعانة بالجيش للقضاء عليها، وتسبّبت في وصول الاقتصاد الصيني إلى حافة الانهيار.

الثورة الثقافية
مع ولادة النظام الجديد في عام 1966 واستلام ليوشاوتشي السلطة، جرى التركيز على الصناعات الثقيلة، مثل صناعة السيارات والطائرات والمعدّات الثقيلة والتعدين والمناجم ومعدّات توليد الكهرباء وصهر المعادن، لمضاعفة الإنتاج، واتّباع السياسات التعليمية المدروسة التي شهدتها الصين في تلك الفترة لرفع نسبة التعليم لدى الصينيين.
واهتم الشيوعيون أيضاً بالسعي لاستقطاب العلماء والخبراء الصينيين المقيمين في الخارج وتوفير المناخ العلمي الملائم لهم، في ظل انتشار العديد من مركز الأبحاث والتكنولوجية والصناعية في مختلف الأقاليم والمدن.
توالت إنجازات التقدم العلمي في الصين حتى 16أوكتوبر 1964، عندما نجحت الصين في تفجير قنبلتها الذريّة الأولى. هذه التجربة التي أذهلت العالم؛ وأصبحت الصين بذلك العضو الخامس في النادي النووي العالمي. ولكنها أصدرت بياناً دعت فيه إلى الحظر الشامل والتدمير الكامل للأسلحة النووية، وأوضحت أنها اختارت إنتاج الأسلحة النووية لغرض الدفاع عن النفس فقط.
في تلك الفترة برز الخلاف الصيني -السوفييتي ذو الأساس الأيديولوجي، الذي كان له تأثير سلبي أيضاً على إمكانيات النهضة الصينية، ومن ذلك تعطيل فرص الاستفادة من التفوق النووي السوفياتي لتطوير السلاح النووي الصيني، وعزوف السوفييت عن دعم المطلب الصيني باستعادة تايوان؛ إلاّ أن هذا الانقسام دفع الصين للعمل على تطوير أسلحة نووية خاصة بها، وكانت أول تجربة عام 1964. وبعد النجاح الصيني في تطوير القنبلة الذرية، تم تطوير القنبلة الهيدروجينية؛ وفي 17 مايو 1967 جرت أول تجربة تفجير صينية للقنبلة الهيدروجينية بنجاح. وكان إطلاق برنامج القمر الصناعي الصيني نتيجة طبيعية لهذا التطور، وذلك عام 1970 .
كما أسهم تحالف الصين مع الغرب ضد الاتحاد السوفييتي قبل انتهاء الحرب الباردة في كسب الصين للسوق والتكنولوجيا ورأس المال الغربي والدعم الدبلوماسي.
ولعلّ فشل النموذج السوفييتي- قبل سقوطه – الذي كان يهتم بالكم قبل النوع، وبحاجات الدولة قبل حاجات الشعب، وبمتطلبات المركز قبل الأطراف، قد أعطى قوة دفع كبيرة ساعدت النموذج الصيني على التطور وإزالة الكثير من النواقص والسلبيات، خصوصاً في الربط بين الاقتصاديات والاجتماعيات وبين الحقوق الفردية والعامة. قامت الحكومة الصينية بإعادة بناء الاقتصاد الصيني على أسس اشتراكية، وذلك باعتماد قيادة الملكية العامة والمؤسسات المملوكة للدولة، والتي تسعى لاستنفاذ طاقات السوق ومراعاة قوانين عمله محلياً ودولياً . فآليات السوق هنا ستراقب الحاجة والنوعية والجودة والكلفة والمنافسة والأولويات، لا أن يُترك ذلك فقط للبيروقراطية والتخطيط الفوقي ، والقرارات الحكومية، كما هو حال العديد من اقتصاديات القطاع العام والاشتراكية.
وقد مهّد انعدام المنافسة الوطنية والأجنبية الطريق لتقدم النموذج الصيني وتراجع النموذج السوفياتي . وكان غياب المستهلك واحداً من العوامل المهمة التي جعلت البضاعة المنتجة في الغرب تتقدم نوعاً على كثير من البضائع المنتجة في النماذج السوفييتية.
في عام 1971، وبدعم من الولايات المتحدة والغرب، استعادت الصين مقعدها الدائم في مجلس الأمن.

ثانياً: مرحلة الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي(1978-2012)
اعتمدت السياسة الصينية في عهد دينغ وحليفه جيانغ على استمرارية الحزب الشيوعي كقوّة رئيسية، وانتهاج سياسة الانفتاح لبناء قوّة تكنولوجية تعتمد على الخبرة الأجنبية والاستثمار الأجنبي، مع الابتعاد عن الجوانب السياسية والأيديولوجية التي سادت في مرحلة ماو، وتبنّي سياسة التصدير كركيزة أساسية للتنمية.
تولّى دينغ قيادة أكبر عملية اقتصادية في تاريخ الصين، متّبعاً سياسة الانفتاح الخارجي والإصلاح الاقتصادي، انطلاقاً من قناعته بأن الإصلاح والانفتاح هما السبيلان الوحيدان للتمسك بالاشتراكية الصينية وتطويرها، وجعل روح الإصلاح والإبداع تسود دائماً في كل حلقات إدارة شؤون الدولة، ومواصلة دفع النظام الاشتراكي في الصين نحو التحسن الذاتي.
قام دينغ بوضع خطط النهج الاقتصادي في البلاد، لتحويلها من الاعتماد على اقتصاد مخطّط وموجّه يتحكم فيه الحزب ويقوم وفقه بتقسيم الأرباح على العاملين والمنتجين، إلى اقتصاد السوق؛ أي العمل وفق بيئة ترتكز إلى آليات السوق الحرّة المعتمدة في الرأسماليات الغربية. وسمحت السياسة الجديدة للأفراد بالتملك وإدارة الشركات والمشاريع الخاصة بلا قيد أو سقف استثماري، شرط الخضوع الكامل للدولة والحزب الشيوعي. كما أطلق دينغ برنامج إصلاحياً يرتكز على أربعة قطاعات: الصناعة والزراعة والبحث العلمي والتكنولوجيا والدفاع الوطني؛ وقد امتدت خطة التنمية التي وضعها على مدى 70 عاماً، فتحسنت الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمواطن الصيني وزاد معدّل دخل الفرد بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي، وحصل الناس على ما يكفيهم من الغذاء والملابس خلال عشر سنوات.
كما تضاعف الناتج القومي الإجمالي وإصلاح القطاع الزراعي وإلغاء الكومونات الشعبية، مع إحداث تغييرات مهمة في حقوق الملكية، حيث مُنح الفلاّحون حق إدارة الأراضي التي يزرعونها والإنتاج الزراعي، مع حق الانتفاع بجزء من عوائد المحاصيل بعد الوفاء بالتزامات الدولة. وأدّى ذلك إلى خلق ظروف مناسبة للتنفيذ السلس للبنية التحتية؛ وتم بناء أكثر من 95% من سدود الصين في ثمانينات القرن العشرين.
قدّمت الحكومة دعماً مالياً كبيراً للقطاع الزراعي، عبر تخفيض الأعباء الضريبية وإعفاء المزارعين من الضريبة الزراعية وضريبة المنتجات الزراعية الخاصة. وبفضل هذه الإجراءات، تعاظمت ممارسة الفلاّحين الصينيين في الإنتاج الزراعي إلى درجة غير مسبوقة.
كما واصلت الحكومة دعمها للزراعة والريف والفلاّحين، فكانت المشاكل المتعلقة بالزراعة والريف والفلاّحين في قمّة أولويات أعمال الحكومة المركزية؛ وكذلك رفع القدرة الإنتاجية الشاملة في الزراعة وزيادة الإنتاج الزراعي ودخل الفلاّحين، من خلال تعزيز الأعمال ذات العلاقة بالزراعة والريف والفلاّح، ودفع التجاوب بين شرق الصين ووسطها وغربها، وتعزيز التكامل فيما بينها في نقاط التفوّق وتحقيق التنمية المشتركة.
أدركت التجربة الصينية في فترة مبكرة الاختلافات بين الشعارات والواقع وبين النظريات والتطبيق، فاختارت لنفسها طريقاً خاصاً، حيث سارت بتجربتها من الأرياف الى المدن، وجعلت عمادها الفلاّحين قبل العمال، ولم تدمّر قديماً لقِدمه، ولم تستورد حديثاً لحداثته؛ بل صارت تنبت من القديم والحديث كل ما يساعدها وينفعها، وزاوجت بوعي بين الثقافة التقليدية والكونفوشية وخصوصية اشتراكيتها مع الثقافة الغربية ، بما فيها ثقافة الأحزاب الاشتراكية والشيوعية الغربية.
وقد شهدت البلاد تطوراً مدهشاً في خفض انبعاثات الغازات الحابسة للحرارة، خاصة بعد إنشاء الغابات الاصطناعية على مساحة 62 هكتاراً؛ إضافة إلى تعديل وتنسيق السياسات الاقتصادية والهياكل الصناعية، والتركيز على توفير الطاقة وتطوير قطاع الطاقة المتجددة والنووية. وقامت الصين أيضاً بتسريع بناء البنية التحتية لشبكة المواصلات الممتدة في كل الاتجاهات كأساس مهم لضمان تطوّر الاقتصاد والمجتمع، مما أسهم في انخفاض الاستهلاك الإجمالي الوطني للطاقة في الصين، مع كبح تدهور البنية الإحيائية والتصحّر بشكل كبير.
كما سمح النظام الاقتصادي الجديد للبلديات والمحافظات بالاستثمار في الصناعات الأكثر ربحية، والتركيز على الصناعات الحديثة والخفيفة، كالملابس والمنسوجات والإلكترونيات من ناحية التوجه الصناعي، وعلى مناطق الشرق والجنوب الشرقي من الناحية الجغرافية، وعلى المناطق الاقتصادية الخاصة كنموذج ينافس مناطق هونغ وتايوان وغيرها.
وأنجزت الصين مهمات شاقة في المجالين الزراعي والاقتصادي وسياسة الانفتاح على العالم، ما أدّى إلى دفع عجلة التنمية في البلاد ورفع معدّلات النمو.
لقد بات الاقتصاد الصيني أكثر قدرة على التكيّف مع متغيرات الاقتصاد العالمي والاندماج فيه، وتحديد أولويات القطاع الزراعي والصناعي والبحث العلمي، مع استقلالية أكبر للمؤسسات واحتفاظ الدولة بسيطرتها على الصناعات الثقيلة، وتشجيع القطاع السياحي والسعي للانضمام إلى الهيئات المالية الدولية، في خطوة مهمة لدعم الصناعة الوطنية باستخدام التكنولوجيا الحديثة الواردة من الخارج.
وتماشياً مع متطلبات الانفتاح على العالم الخارجي، عملت الصين على استقطاب الاستثمارات الأجنبية على نحو كبير، فتمّ إنشاء مقر لنشاط المستثمرين ومنحهم إعفاءات ضريبية وتسهيلات الدخول والخروج للصين وصلاحيات كبيرة لإدارة مشروعاتهم، وإنشاء أسواق للأوراق المالية؛ وهذه الإجراءات عكست رغبة القيادة الصينية في أن يشاركها العالم المتقدم في التحديث اعتماداً على السوق الحرّة ؛ إضافة إلى إطلاق الحكومة إصلاحاً مالياً جزئياً لمكافحة الانخفاض السريع في نسبة الضرائب والناتج المحلي الإجمالي، والإشراف على إجراءات تحسين النظام التجاري الصيني لتخفيض الدعم المباشر للصادرات، لتصبح الأهداف الخاصة بالتصدير أكثر استجابة لإرشادات السوق العالمية، والاستثمار الرأسمالي على نطاق واسع والتمويل من خلال المدّخرات المحلية الكبيرة والاستثمار الأجنبي؛ كما نجحت الصين في جذب الاستثمار الأجنبي انطلاقاً من خطة الدمج التدريجي للاقتصاد الصيني في الاقتصاد العالمي. وقد أدّت تايوان دوراً رئيسياً في هذا الشأن، حيث تعدّ هونج كونغ وماكاو المصدر الأول للاستثمارات المباشرة في الصين، بالإضافة لظهور سنغافورة واليابان كمستثمر رئيسي؛ كما أدّت الاستثمارات الخارجية دوراً مهماً ومتزايداً على الصعيد الاقتصادي في الصين، وساعد على ذلك تزايد عمليات الخصخصة وتشجيع القطاع الخاص والسياسات الاقتصادية الجاذبة التي أسهمت بتدفق رؤوس الأموال، فتمكنت البلاد من إعادة استثمار ما نتج عن هذا النمو، وتحقيق إنتاج أكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية، وفي شراء الآلات والمعدّات كثيفة التكنولوجيا من اليابان والغرب رابطة أرجاءها الواسعة بشبكة فعّالة للمواصلات والاتصالات، ولتتبنّى أنماط العمل ووسائل الإنتاج الأنسب لأوضاعها وقدراتها، ولتصبح بضائعها عالية الجودة ورخيصة الكلفة، مما ساعد في نمو الاقتصاد الصيني بمستويات قياسية.
وكما هو معروف، فإن السياسة الخارجية لأي دولة هي امتداد طبيعي للسياسة الداخلية؛ ومن متطلبات تحقيق النمو المستدام تجنّب النزاعات الدولية وتحقيق السلام، حيث تمّ التركيز على العلاقات الخارجية مع الدول المتقدمة للحصول على التكنولوجيا الحديثة، ومع الدول النامية للحصول على الطاقة والموارد والأسواق، بما يخدم أهداف التنمية الاقتصادية الصينية؛ فالصين لم تتجاهل أي قوة دولية، كبيرة كانت أم صغيرة.
وكان من ثمار أفكار دينغ الانفتاحية توقيع معاهدة الصداقة والسلام مع اليابان عام 1978، حيث احتلّت العلاقات التجارية بين البلدين موقعاً متقدماً على الدوام؛ حتى أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لليابان.
كما عمل دينغ على توطيد علاقات الصين مع الولايات المتحدة الأمريكية خلال زيارته لواشنطن عام 1979، ومفاوضاته الناجحة مع بريطانيا لإعادة هونغ كونغ للحضن الصيني عام 1997.
في عام 2001 تم توقيع معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون بين الصين والاتحاد الروسي، مع تحقيق نتائج ملموسة من التعاون العملي بينهما في المجالات التجارية والاقتصادية والعلوم والتكنولوجيا؛ وهذا ما جلب فوائد ملموسة لشعبي البلدين.
وفي نفس العام انضمّت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، مما ساعدها في ترسيخ مكانتها كمصّنع عالمي وأكبر تاجر، وانخفضت التعرفات الجمركية المفروضة على المنتجات الصينية في شتّى البلدان؛ وبدأ ثقل الصين السياسي والاقتصادي بالتزايد في محيطها وعالمياً.
وقد دعا الرئيس الصيني هو جين تاو الصين لتحقيق الانتقال من اقتصاد قائم على التصنيع إلى اقتصاد يقوم على الابتكار؛ ووافق مجلس النواب الوطني على زيادات كبيرة في تمويل البحوث وأبحاث الخلايا الجذعية –والعلاج الجيني.
تحققت عدة إنجازات في إطار ما يسمّى الخطة الخمسية الحادية عشر في كل المجالات، من زراعة وصناعة وبيئة وتكنولوجيا؛ إضافة إلى مشروع نقل الغاز الطبيعي من غرب الصين إلى شرقها؛ ويُعتبر هذا المشروع من البنى التحتية الضخمة على المستوى الوطني، ويبلغ طوله 40000 كيلومتر لربط موارد غرب الصين بشرقها.
إن أبرز ما يميّز استراتيجية جمهورية الصين الشعبية لتطوير اقتصادها، هو اعتمادها بشكل أساسي على التصنيع منخفض التكلفة والتركيز على الصناعات الثقيلة(فهي أكبر مصدّر للفولاذ في العالم)، وتعدين العديد من المواد (الفحم-الذهب-النفط-الغاز-الملح)؛ بالإضافة إلى الأيدي العاملة المؤهّلة الرخيصة، والاعتماد على بنية تحتية جيدة ومستوى متوسط من التكنولوجيا والمهارة الإنتاجية العالية نسبياً، ومحاولة تقليل اعتمادها على الفحم واعتمادها الطاقة المتجددة في المستقبل؛ إضافة إلى امتلاكها عدة مصادر نفطية ومصادر للغاز الطبيعي، والعديد من القطاعات الضخمة (المنسوجات -الأقمشة- صناعة الآلات-صناعة الإسمنت). وتعدّ الصين أحد أبرز مصّنعي وسائل النقل (الطائرات-القطارات-السيارات-السلع الإلكترونية).
كما أن السياسات الحكومية المتّبعة في مجال الاستثمار والتصنيع كانت داعماً ومحفّزاً أساسياً للاقتصاد؛ فقد امتلكت الصين ثاني أكبر ميزانية للبحوث والتنمية. ومن المتوقع أنها استثمرت أكثر من 136 مليار دولار في عام 2006.
كما تواصل الحكومة الصينية التركيز على البحث والتطوير، من خلال خلق المزيد من الوعي العام للإبداع والابتكار وإصلاح النظم المالية والضريبة، لتشجيع النمو في الصناعات المتطورة. يُضاف إلى ذلك انخفاض سعر صرف العملة الذي يعدّ أحياناً سبباً لفائض تجارة جمهورية الصين الشعبية. ففي عام 2007 وصل الفائض إلى 262,7 مليار دولار، وأصبح مصدراً رئيسياً للنزاع بين جمهورية الصين الشعبية وشركائها التجاريين الرئيسيين، أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان.
ومع تدفّق الاستثمارات الصينية، بدأت الصين بحجز حصص متزايدة لها من التجارة العالمية، خاصة مع وجود أعداد هائلة من الشركات الأجنبية في الصين، وبعد أن ساعدت الأموال الصينية العديد من الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
امتلكت الصين أربعة من أكبر خمسة بنوك على مستوى العالم، وأهمها: البنك الصناعي والتجاري الصيني (أعلى البنوك في العالم من حيث القيمة)، وبنك التعمير، والبنك الزراعي؛ وأدّى ذلك إلى انتشال مئات الملايين من الناس من حالة الفقر وتحسين مستوى المعيشة للملايين. وسعى الصينيون أيضاً إلى امتلاك العقارات؛ فهم يتمتعون بأقوى تقليد في العالم فيما يخص امتلاك المنزل؛ فقد شهدت الصين ازدهار أكبر طبقة تمتلك العقارات على مستوى العالم، إضافة إلى شبكتها الضخمة من المصانع الحديثة التي تنتج مختلف أنواع السلع.
بدأت القدرة الصينية التكنولوجية بالظهور عبر أشكال مختلفة ، وامتلكت الصين برنامج فضاء متقدم؛ كما أطلقت مركبة فضائية بدون إنسان، ووضعت مركباتها على سطح القمر والمرّيخ. وفي عام2003، أطلقت الصين أول مركبة فضائية مأهولة ” شنتشو”، وعلى متنها رائد الفضاء الصيني يانغ لي وي، مما جعل جمهورية الصين ثالث دولة ترسل رحلة مأهولة بالإنسان إلى الفضاء من خلال مساعيها الخاصة.
وفيما يتعلق بإصلاح نظام الاستثمار، أعلنت وزارة التجارة كلاً من:
– قانون دراسة وإجازة سفر الشركات المحلية للاستثمار وإطلاق الأعمال التجارية في المناطق الإدارية الخاصة، هونغ كونغ ومكاو.
-قانون دراسة وإجازة الاستثمار وإطلاق الأعمال التجارية خارج البلاد. وفي نفس العام بلغ الناتج المحلي الإجمالي (1,654 تريليون دولار) ليصل إلى 4,533 تريليون دولار عام 2009؛ وهذا التقرير صادر عن البنك الدولي لإعادة الهيكلية والتنمية، فيما بلغ الناتج المحلي للولايات المتحدة الأمريكية (13.470 تريليون دولار).
هذا بالإضافة للجنة التنظيم المصرفي الصينية التي أتاحت التسهيلات النسبية لإدارة الاستثمارات الأجنبية الخاصة بالبنوك التجارية؛ وكذلك لجنة تنظيم الأوراق المالية التجارية التي قامت بالإجراءات التجريبية بشأن إدارة الاستثمارات في الأوراق المالية في الخارج، والخاصة بالمستثمر المؤسسي المحلي المؤهّل.
ففي عام 2007، صُنّف سوق الأسهم في شنغهاي كخامس أكبر سوق أسهم في العالم؛ وهناك أربع من أكبر عشر شركات في العالم صينية، ومنها شركة بتروتشاينا الأولى عالمياً (أغلى شركات نفط في العالم)، وتجاوزت ألمانيا كأكبر دولة مصدّرة عام 2009. استضافت الصين دورة الألعاب الأولمبية لعام 2008، مما ساعد في تنشيط الاقتصاد، على الرغم من الآثار السلبية للأزمة المالية العالمية آنذاك؛ وكذلك استضافت الصين معرض إكسبو العالمي في شنغهاي لعام 2010؛ وهذا أدّى إلى زيادة نفوذ الاقتصاد الصيني في العالم.
إن نجاح سياسة القيادة الصينية، المتّسمة بالعقلانية العملية واختيار المواهب عالية الجودة، أسهم في التأقلم السريع للصين مع تحديات التصنيع والعولمة وعصر المعلومات؛ إضافة للنموذج السياسي، الفريد والاستثنائي، بتنفيذه الإصلاحات الصعبة والضرورية على أساس المصالح طويلة الأجل للبلد والشعب. وساعد هذه السياسة على النجاح عدة عوامل، أبرزها الجديّة في العمل لدى لشعب الصيني وسياسة الادخار الذكيّة، وبما أسهم في تجاوز الأزمات خلال مراحل الكوارث الطبيعية المتكررة.
وفي مجال تحسين هيكلية المؤسسات، أصدرت لجنة تنظيم التأمينات الصينية الإجراءات الإدارية للهيئات التأمينية التي تقيم شركات تأمين خارج البلاد عام 2006 ، والإجراءات المؤقتة لإدارة الاستثمارات الخارجية الخاصة بصناديق التأمين عام 2007.
في عام 2010، تجاوز الناتج المحلي الإجمالي الصيني الناتج المحلي الإجمالي الياباني، وحلّ الصين محل اليابان كثاني قوّة اقتصادية في العالم؛ وبالتالي خسرت اليابان الموقع الذي كانت تحتلّه منذ العام 1968.
فانفتاح الصين على العالم، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، والتكنولوجيا المتقدمة، ودراسة التجارب الناجحة في الدول الأجنبية، وتشجيع مؤسسات الدولة للمشاركة في المنافسة بالأسواق العالمية، وتعزيز الإصلاح الداخلي والتنمية الاقتصادية، كانت أبرز عوامل النهضة في الصين.
لقد حقّقت الصين قفزة اقتصادية وسياسية وعسكرية كبرى منذ نجاح الثورة الشيوعية فيها عام 1949، وبخاصة بعد انطلاق سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978. فالصين تحوّلت لتصبح مصنع العالم في إنتاج السلع المتنوعة ذات الجودة العالية. وبالموازاة، طرحت الصين رؤية كونية تستهدف بناء عالم جديد يستند إلى قيم العدالة والأخلاق والمساواة والمنفعة المتبادلة، مع توسيع نفوذها لمواجهة الحضارة الغربية بقوة وجاذبية الحضارة الصينية؛ وكل ذلك بهدف تقديم صورة إيجابية عن الصين الجديدة، ولمحو الصورة النمطية عنها، والتي تزعم أن الصين هي دولة شيوعية وغير مندمجة في الجماعة الدولية أو المجتمع الدولي.

ثالثاً: عصر النهضة (2012-الآن)
كان العالم – ولا يزال – مبهوراً بالنجاح التصنيعي المتميز والحيوي للصين؛ إنجازات عظيمة وقدرات تحديث وسرعة تكيّف مع الأنماط المعاصرة للعمل والعيش. فالصين على رأس الدول الآسيوية التي جذبت انتباه العالم نتيجة لتحقيقها أكبر الطفرات الاقتصادية في التاريخ الحديث. فالنجاحات المتوالية في عمليات الاندماج مع الاقتصاد العالمي، وما تلاها من تغيّرات في مستوى الرفاهية الاجتماعية للمواطنين، انعكس على معدّلات النمو الاقتصادي؛ وهذا ما دفع الكثير من الباحثين إلى تناول المعجزة الآسيوية بالدراسة والبحث.
فمنذ التحرّر الاقتصادي عام 1978 وحتى الآن، نما اقتصاد جمهورية الصين الشعبية المعتمد على الاستيراد والتصدير 65 مرّة، وأصبح أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً في العالم .
إن استمرار القيادة الصينية بالتمسك بالنهج الاستراتيجي الذي اتّبعه الآباء المؤسّسون، من أمثال ماو و دينغ، والذي يقوم على المزيد من الانفتاح على العالم الخارجي والإصلاح الداخلي- الاقتصادي أوّلاً، ومن ثم السياسي التنافسي، وتقييم الليبرالية كنتيجة للتنمية الاقتصادية، واتباع السوق الاشتراكي المملوكة للدولة، وإتاحة الفرصة للقطاع الخاص ليلعب دوره؛ كل ذلك ساعد الصين في تحقيق أكبر تحوّل اقتصادي واجتماعي، بموازاة إحياء الحضارة الصينية القديمة ذات التاريخ والتقاليد العريقة، وإظهار حيويتها وإنجازاتها الملموسة، الداخلية والخارجية.
بعد انتخاب القيادة الجديدة للحزب الشيوعي واختيار شي جين بينغ رئيساً جديداً للصين، سعت القيادة الصينية لتحقيق مجتمع الرفاه ورفع مستوى معيشة الشعب، من خلال الإصلاح المعمّق، وعلى نحوٍ يشمل بنية الحزب الشيوعي الصيني نفسه، مع الاحتفاظ بالخصائص التي تميّز الاشتراكية الصينية في صلب الإدارة والحكم؛ وستعطي الأولوية في هذه المرحلة لبناء طريق حرير جديد في البر والبحر.
ومن أهم أفكار بينغ الحفاظ على حكم الحزب الشيوعي، وعلى الأمن القومي والوحدة الوطنية للصين وأراضيها، والتمسك بمبدأ دولة واحدة بنظامين (خصوصية هونغ كونغ)؛ وكانت استراتيجية بينغ واسعة، حيث شملت مختلف الأصعدة، ومنها طريق الحرير، وتوفير الضمانات الأساسية لاستمرارية الصين المستدامة، وتوسيع دائرة شراكاتها تجاه الدول النامية وحتى العظمى، والتركيز على الاستثمار في البنية التحتية والسكك الحديدية والطرق السريعة، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية Asian infrastructure investment bank)، وهو مؤسسة مالية دولية تأسست في عام 2014 لتوفير التمويل لمشروعات البنية التحتية في منطقة آسيا، وإنشاء صندوق طريق الحرير عام 2014 انطلاقاً من فلسفة الانفتاح والشمولية والمنفعة المتبادلة؛ ويدير صندوق طريق الحرير أعماله استناداً لمبادئ السوق والمعايير الدولية والتميّز المهني.
وقد تم إدراج فكر “شي” حول الاشتراكية ذات خصائص صينية لعصر جديد ضمن الدستور عام 2017.
كذلك تحققت إنجازات مشرقة فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والوطنية المتواصلة والسريعة نسبياً، والتكنولوجيا المتطورة، مع تحقيق اختراقات مهمة في الابتكار العلمي. وظهر التفوّق العظيم للاشتراكية ذات الخصائص الصينية تماماً، وتجسدت القوّة الخلّاقة غير المحدودة للشعب الصيني:
-حيث تطوّرت صناعات استراتيجية جديدة تشمل الجيل الجديد، من تكنولوجيا المعلومات وترشيد استخدام الطاقة وحماية البيئة والسيارات التي تعمل بالطاقة الجديدة.
-تم ابتعاث “غوّاصة التنّين الصيني” إلى المياه العميقة في بحر الصين، وتحقيق أول رقم قياسي عالمي في تاريخ الغوص تحت سطح البحر، متجاوزة عمق 7000 متر.
-إرسال الغوّاصة المأهولة (فينووشي)، التي حملت على متنها 3 باحثين، وتمكنت من تسجيل رقم قياسي بالهبوط لما يزيد على 10 آلاف متر، في خندق مارينا غرب المحيط الهادئ.
-وصلت الصين إلى سلسلة من الابتكارات الأوليّة في الاتصالات الكميّة وتذبذب النيوترينو وفرط الموصلية للحفة الحديدية عالية الحرارة إلى مستوى متقدم عالمياً.
– تحقيق تقدّم نموذجي في تعديل الهيكلية، وذلك بتعميق الاندماج بين التصنيع والمعلوماتية.
-شهدت بكين افتتاح معرض الصين الدولي للتجارة والخدمات تحت شعار “خدمات عالمية وازدهار مشترك” لعام 2020، وتحت شعار “الرقمنة تحت آفاق المستقبل والخدمة وتعزيز التنمية” لعام 2021.
-بدأ تشغيل أكبر تلسكوب “فاست” اللاسلكي، ويبلغ قطره 500 متر، ضمن مشروع طموح لغزو الفضاء واستكشاف البحث عن حياه خارج الكرة الأرضية في عام 2016.
وخلال عام 2017، امتلكت الصين أطول شبكة قطارات فائقة السرعة في العالم مع 22 ألف كيلومتر من الخطوط ، ورفعت سرعة قطار الرصاصة فوشينغ إي 350 كلم في الساعة، وهو أسرع قطار ركّاب في العالم؛ وصمّمت أول طائرة ركّاب صينية من الطراز C919، كجزء من هدف الصين لتطوير طائرات مدنية محلية الصنع ، وبناء خمسين مطار جديد.
– حقّقت الصين إنجازات علمية نوعية، ومنها الاستنساخ الناجح لقرود في مركز أبحاث العلوم العصبية التابع للأكاديمية الصينية، اعتماداً على نقل نواة الخلية الجسدية وتطوير أول خليّة حقيقية للنواة الصبغية الأحاديّة، وهو الاختراع الأول من نوعه في العالم، وتم نشره في المجلة الأكاديمية الدولية المشهورة “الطبيعة”؛ وتطوير روبوت نانو ذكي لعلاج الأورام ، وقياس أعلى دقة حتى الآن لقيمة G الثابتة للجاذبية، واكتشاف إشارات غير متوقعة وغامضة في قياس الأشعة الكونية عالية الطاقة، واكتشاف الهيكل الذريّ وتأثير الرقم السحري داخل الأيونات المائية، وتطوير تكنولوجيا تصوير نانوية وبالميللي ثانية، ويمكنها صدّ التفاعلات الفيزيائية بين الخلايا وتنظيم التوازن الأيضي للنمو النباتي، لتحقيق التنمية الزراعية المستدامة.
– حظِي الريف باهتمام رئيسي، حيث بذلت الحكومة الصينية الجهود لدعم الاقتصاد والمجتمع الريفي وتضييق الفجوة بين دخل السكان في الحَضَر والريف. كما تم وضع سياسات مواتية بشكل أكبر، وتعزيز قوانين العمل وتحسين آلية حلّ النزاعات العمالية وحماية حقوق العمّال، وتحسين مستوى البنية التحتية، وتشغيل الخطّين الشرقي والأوسط لمشروع نقل المياه من الجنوب إلى الشمال؛ وتم إكمال أعمال إعادة التوطين من خلال بناء أكثر من مليون وحدة سكنية ضمن مشروع خاص، وتأمين السكن المدعوم حكومياً، وتحسين مستوى معيشة الفرد؛ إضافة إلى تقديم القروض من بنك التنمية الصيني.
-تحقيق ارتقاء ملموس في النظام التعليمي ونوعية التعليم، مع التحاق جميع الأطفال بالتعليم الإلزامي، إضافة لتغطية كاملة للتأمين الطبي الأساسي، حيث تجاوزت نسبة المشاركة في التأمين ضد الشيخوخة 80%، وتم تأمين وجبات غذاء صحية مجّانية لتلاميذ المناطق الجبلية؛ وتحوّلت الصين إلى الدولة الكبرى الأولى عالمياً من حيث تجارة البضائع والاستثمار في الخارج.
– تحوّلت الصين لكي تكون مصنع العالم في إنتاج السلع المتنوعة من مختلف أنواع الجودة. فقد شهدت الصناعة تقدّماً سريعاً وتبدّلات قطاعية عميقة، مع ظهور صناعات جديدة إلكترونية وكهربائية، حيث تم ضخ 800 مليار دولار أمريكي في الاستثمارات الأجنبية في الصين، وأصبحت الدولة قوّة محفّزة للنمو، وحقّقت إنجازات غير مسبوقة في تاريخ التنمية لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم؛ فالزيادة السريعة في الإنتاجية كانت نتيجة إعادة تخصيص الموارد المحلية لاستخدامات أكثر إنتاجية ، ومنح اقتصادها دفعة إضافية.
– أفادت إنغر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، أن الصين قامت بالكثير من العمل المهم للغاية محلياً بشأن البيئة، معربة عن أملها في أن تساعد تجربة الصين في شفاء كوكب يتصارع مع تغيّر المناخ والتلوث؛ وكانت الصين قد أسهمت بتخفيض نسبة تلوّث الهواء بنسبة 25%.
-حقّقت الصين العديد من الإنجازات على الصعيد الفضائي، وتالياً قسم منها. فهي أطلقت مسبارها الخاص للمريخ وكذلك رحلتها لجلب عيّنات من تربة وصخور القمر. وفي هذا العام تم تشغيل نظام “بيدو” للملاحة العالمية؛ وفي مجال التكنولوجيا المتقدمة، نجحت الصين في تشغيل مفاعل نووي أطلِق عليه اسم ” الشمس الصناعية”، وهو يعتمد الاندماج النووي TOKAMAK HL-2M؛ وهذه الخطوة غير المسبوقة حقّقت للصين تقدماً كبيراً في مجال الطاقة. كما نفّذت الصين 39 عملية إطلاق في عام 2020، وأرسلت 80 مركبة فضائية، وأطلقت مسبار “نيانون-1 نحو المرّيخ”؛ وجلبت مهمة “تشانغ أ5-5” أول عيّنات للصين من القمر؛ وكل هذه الإنجازات لم تتحقق إلاّ بالعمل الجاد الذي قام به المهندسون والفنيّون لإنجاز تلك المهام.
– حقّقت الصين إنجازات هائلة في مجال المعلومات العلمية والتكنولوجيا؛ وهذا الأمر مكّن الدولة الصينية من بناء قوات عسكرية تعتمد التكنولوجيا الحديثة، من نظم المعلومات وأقمار صناعية وأسلحة متطورة، تقليدية كانت أم نووية، ما أسهم في تفعيل دور الصين في النظام الدولي.
وأيضاً، اتجهت الصين لبناء مجتمع المعرفة، عن طريق إنتاج المعرفة والطاقات البشرية المبدعة وتطوير البحث العلمي والتطوير التقني. فهي وجّهت جهودها نحو تكنولوجيا التصنيع والذكاء الاصطناعي والرقمنة، والتركيز على ما يُعرف بالتكنولوجيا العالية والدقيقة، وذلك لعدة أسباب؛ أوّلها قناعة الحكومة الصينية بأن قوّة الدولة تكمن في القوّة الفكرية القيّمة، والقوّة المعرفية والعلمية والتكنولوجية، وتنمية الموارد البشرية والكفاءات المبدعة والمبتكرين؛ فالعالم مقسّم إلى دول منتجة للتكنولوجيا الرقمية ومحتكرة لها ودول مستهلكة لها، حيث تستغل الدول المنتجة للتكنولوجيا تفوّقها في هذا المجال للاختراق الإلكتروني بواسطة ما يُعرف ب “البرمجيات الرقمية الحديثة”.
وثاني الأسباب، تصاعد النزعة نحو امتلاك التكنولوجيا والتحكم التقني لدى الدول الكبرى؛ فالنزعة التكنولوجية أصبحت تتحكم في الفكر الاستراتيجي العسكري المعاصر.
وثالثها، أن العامل التكنولوجي أصبح محرّكاً أساسياً للعلاقات الدولية في شتّى المجالات، السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية …إلخ. فالتكنولوجيات تستطيع تعويض الدول عن فقرها في الموارد الأوليّة والثروات الطبيعية، بإيجاد حلول وبدائل تقنية أخرى؛ وحظوظ الصين تبدو أكبر في التطلع لزيادة تحكّمها في التكنولوجيا المدنية، لاسيما في الإلكترونيات والرقمنة والروبوت وأنظمة الاتصال وبرامج الفضاء ومعدّات إنتاج الطاقة البديلة.

الصعود كقوة عظمى
تسعى الصين، بثقلها الديموغرافي والسياسي والعسكري والاقتصادي المتنامي باطّراد، للوصول إلى مرتبة القوى العظمى القادرة على التأثير في حركة التفاعلات العالمية في القرن الحادي والعشرين؛ فهي تعدّ مركزاً مهماً للعديد من التفاعلات الإقليمية والعالمية. وقد ظهر الطموح العالمي للنهضة الصينية بعد عام 2013. فكلّما تنامى صعود الصين زاد هدفها في توسيع نفوذها عالمياً؛ وكلّما دعمت الصين قوّتها الناعمة، المتكوّنة من الثقافة ومفاهيم السياسة الخارجية والنماذج التنموية، زادت دبلوماسيتها العامة قوّة ومرونة في جذب الشركاء من الدول . فالصين تعتمد القوّة الناعمة بهدف ضمان التنوع العالمي سياسياً وثقافياً.
وتسعى الصين دائماً لتنشيط اقتصادها وضبط نموّها وتجنّب الركود، واستقطاب دول العالم، باعتمادها على المبادئ الخمسة التي حظِيت بدعم واسع من المجتمع الدولي ومن الدول الآسيوية والأفريقية ودول أمريكا اللاتينية؛ وهذه المبادئ هي:
-الاحترام المتبادل للسيادة.
-وحدة الأراضي.
-عدم الاعتداء.
عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
-المساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي.
فالصين، ورغم كونها من أكبر اقتصاديات العالم، ومن أكثر دول العالم تسليحاً وقوّة، لم تتبنَّ دوراً سياسياً عالمياً بالمستوى نفسه. وهذا ما يفسّر بروزها كقوّة ناعمة.
انتشر نفوذ الصين كالرياح بعد عام 2013، عن طريق توسيع الشراكات الاستراتيجية لبكين في منطقة الشرق الأوسط، والتي دُعِمت بالقوّة الناعمة؛ فالمنطقة مصدر أساسي للطاقة وسوق مميّز للصين أيضاً؛ واعتماد الصين عليها هو من منطلق استراتيجي لتوازن القوى على المستوى الإقليمي.

العلاقات الصينية السعودية
تعمّقت العلاقات السعودية -الصينية في المجالات الأمنية والعسكرية عام 2017، ومنها الاتفاق على الشراكة لتصنيع الطائرات المسيّرة، حيث تُعتبر الرياض أكبر شريك لبكين في منطقة الشرق الأوسط؛ وكذلك تم تدشين أحد مشروعات التعاون السعودي – الصيني في مبادرة الحزام والطريق عام 2019، وهو مشروع مصنع شركة “بان آسيا” الصينية للصناعات الأساسية والتحويلية، في مدينة جازان جنوب السعودية.
إن طبيعة السياسة الصينية تقوم على الفصل بين التجارة والاقتصاد من جهة، وبين السياسة والأيديولوجيـة من جهة أخرى.
فالصين هي دولة نامية، ولكن كبيرة بما يكفي لأن تفرض على الآخرين احترامها؛ وهي نامية بما لا يجيز للآخرين أن يطلبوا منها ما قد يطلبُ من الدول الكبرى. فعلى سبيل المثال، لم تمنع الخصومة التاريخية للصين مع دول معيّنة من أن تندفع في شراكات اقتصادية ضخمة مع أميركا واليابان؛ كما أعلنت الصين عن سعيها لزيادة التبادل التجاري مع الدول العربية، من حوالي 222 مليار دولار عام 2013 إلى 300 مليار دولار عام 2014، ومعظمها مع الدول الخليجية، في الوقت الذي سارت فيه الصين في طريق سياسي معاكس لأغلب هذه الدول، وذلك فيما يخص استخدامها “الفيتو” في مجلس الأمن ضد قرارين كانا يهدّدان بفرض عقوبات على الجمهورية العربية السورية؛ وهذا المشهد السياسي فهِم عربياً على أنه دعم لحكم الرئيس بشار الأسد.
إن الصين حريصة على تعزيز صداقاتها مع العرب، وعلى استمرار التبادل التجاري والشراكة الاقتصادية مع العالم العربي، وأن ما تتّخذه من قرارات إزاء التطورات في المنطقة هو لمصلحة العرب كما هو لمصلحتها هي، وليس مرتبطاً بأي محور خارجي؛ وسيدرك العرب هذا الأمر في المستقبل.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الاقتصاد الصيني هو المحرّك الرئيسي للنمو الآسيوي؛ فالقوّة الصينية هي قوّة مالية اقتصادية تجارية هائلة في المقام الأول، وتتمتّع الصين بوزن استراتيجي على المستويين الإقليمي والدولي. وبفضل تلك المقوّمات البشرية والاقتصادية والعسكرية، تمكنت الصين من أن تكون طرفاً مهماً في الساحة الدولية؛ ودعم ذلك موقعها الجيوسياسي، حيث لا تكاد تخلو منطقة في جنوب ووسط وشمال آسيا من الاستثمارات الصينية؛ إضافة إلى قوّتها البشرية ومساحة أراضيها التي مكّنتها من استثمار كافة الإمكانات المتاحة لتبلور مكانتها الدولية المتقدمة.

المحور الثاني: التحديات والصعوبات التي واجهت النهضة الصينية
لقد واجهت مجالات الإصلاح الاقتصادي الصيني المتعددة (زراعي- صناعي- القطاع العام -القطاع المالي – بيئة الاستثمار-وسياسات التوظيف والعمالة) الكثير من العقبات والمشكلات التي أدّت اليها عملية التحوّل الصناعي، والتحديث، والتحوّلات الاجتماعية المصاحبة لهما. ومن هذه المشكلات:
1. تصاعد حدّة التوترات في بحر الصين الجنوبي، بعد قيام الصين باستصلاح أراضي بحرية وإنشاء المزيد من البنى التحتية هناك؛ فهذا المسطّح المائي يمثّل شرياناً بحرياً حيوياً للتجارة العالمية .
2. النزاع بين الحكومة المركزية والأقاليم.
3. الفساد الذي انتشر بشكل كبير بسبب مراحل التحديث السريعة. فنادراً ما يستطيع حكم القانون ومراقبة الدولة اللحاق بالتمدّد السريع للثروة؛ بالإضافة إلى ارتفاع معدّلات التضخم بسبب الكثافة السكانية واحتكار السلع وتخزينها. كما تعمّمت ظاهرة اللامساواة في توزيع عوائد النجاح الاقتصادي الذي حقّقته الصين، فاتسعت الفجوة بين الأثرياء والفقراء.
4. عدم التناسق والتوازن والاستدامة في عملية التنمية.
5. مشكلة الهجرة من الريف إلى المدينة.
6. تحقيق نمو اقتصادي دون الاعتماد على تحسين الاستهلاك المفرط للموارد المادية، من مواد أوليّة ومعادن وطاقة.
7. التلوّث: فحماية البيئة شكّلت تحدياً آخر واجه نهضة الصين كونها أكبر بلد منتج للانبعاثات الغازية المسبّبة للاحتباس الحراري والتلوّث الناتج منها على البلدان المجاورة، وذلك لاعتمادها المفرط على الفحم الحجري كمصدر للطاقة بسبب نقص مصادر الطاقة الأخرى، ما أدّى إلى تدهور نوعية الماء والهواء في البلاد.
8. الاستهلاك المفرط للطاقة: أصبحت الصين في عام 2010 أكبر مستهلك للطاقة، وهو ما أثار المخاوف بشأن الوصول إلى درجة الطاقة المفرطة وظهور الفقاعات.
9. واجه النمو الصيني ضغوطاً رغم ارتفاعه في عام 2020، بسبب التأثير السلبي لجائحة كوفيد-19 على الاقتصاد؛ فلم يعد نشاط قطاع الخدمات (الترفيه والسياحة والفنادق والمطاعم والنقل…) إلى مستوى ما قبل الجائحة، مع انخفاض الطلب والضغوط على سلاسل التوريد وزيادة أسعار المواد الأوليّة، وارتفاع معدّل البطالة إلى أعلى مستوى له على الإطلاق (6,2%) من نسبة القوى العاملة في المناطق الحَضَرية.
10. أدخل صعود الصين في مجال الاستثمار الدولي والشراكات مضمار المنافسة ومعترك الشركات العظمى متعددة الجنسية، مما أثار مخاوف الإدارة الأمريكية؛ فقامت بفرض قيود على الشركات الاستثمارية الصينية ومنعتها من التغلغل في بعض القطاعات الاستراتيجية المهمة داخل الولايات المتحدة.
11. أدّى نمو اقتصاد الصين الهائل مع بداية الألفية الجديدة (2000)، واحتلالها للمرتبة الثانية اقتصادياً بعد أمريكا، إلى إعادة الصراع والتنافس الاقتصادي في تكنولوجيات الصناعة الدقيقة والتجارة الدولية بين أمريكا والصين؛ فقد بدأ الصراع والتنافس بين شركة أبل الأمريكية وهواوي الصينية، حيث كان موقف شركة هواوي دفاعياً إزاء اتهامها بسرقة براءات الاختراع والتقنيات التي تُنتجها أبل.
واليوم، تحتاج الصين إلى حلول، ولكن على طريقتها، بإيجاد محفّز نمو اقتصادي جديد، ومعالجة الأزمات البيئية والاجتماعية الناجمة من نظام التنمية الاقتصادية السابق، ووضع نظام حماية اجتماعي للفئات الأكثر ضعفاً، وضم أكبر شريحة من الطبقة المتوسطة وجعلها العامل الأساسي في عملية الاستهلاك والتحفيز لتحقيق الازدهار الاقتصادي المشترك.
إن الصين تعاني كقوّة صاعدة من الشعور بعدم الإحساس بالأمان فيما يتعلق بأمنها القومي. كما أنها تشعر دائماً بأن العالم لا يتعامل معها بما يليق بمكانها الدولية الحالية. وتبغي بكين أن يراعي النظام العالمي نفوذها المتنامي ، وأهمية عملتها مقارنة بوضع الدولار، وضرورة الدعوة للتعددية، وتمكين الدول النامية من تقديم بديل عن هيمنة القطب الواحد على شؤون العالم.
ومن العقبات أمام التطوّر الصيني أيضاً:
• عدم فهم العالم للغة الصينية والميديا الصينية، والتي تستخدم مفردات وشعارات قديمة لا يفهمها العالم المعاصر الآن ولا يهتم بها.
• الشراكة بعد المحيط الهاديTPP)) من دون عضوية الصين تُعتبر تحدياً كبيراً لاقتصاد الصين وسياساتها، وتفتح الباب واسعاً أمام إصلاحات اجتماعية وسياسية لطالما دعت الحاجة إليها في الصين.

المحور الثالث: العوامل التي أسهمت في نجاح النهضة الصينية
الحاجة الاقتصادية للإنسان هي دافع أساسي لتحقيق منجزات كبيرة وعديدة؛ وتحقيقها يمثّل القوّة الاقتصادية الأولى للبلد. وقد تطوّر مفهوم القوّة الاقتصادية، كما تطوّرت وسائلها؛ لذلك تأتي بقية القوى السياسية والعسكرية في مرتبة وسائل لتحقيق هدف استراتيجي هو القوّة الاقتصادية.
إن الاقتصاد الصيني هو المرشّح الأول لأكبر اقتصاد في العالم، متفوّقاً على الولايات المتحدة خلال السنوات القادمة؛ فالصين تمتلك أقوى اقتصاد على مستوى العالم من ناحية القوّة الشرائية والناتج المحلي الإجمالي؛ ومصالح الصين على الصعيد الجغرافي والسياسي والاقتصادي والطاقة والأمن في الشرق الأوسط في توسّع مستمر. وبالنظر إلى المراحل التي قطعها الاقتصاد الصيني منذ عام 1949 وحتى اليوم، نجد أن الصين أنجزت نهضتها الاقتصادية انطلاقاً من الوجود الاجتماعي ومن مجموع الظروف المادية والاجتماعية والمطالب التنموية، وانطلاقاً من قضايا الشعب الصيني السامية والمقدّسة، والمسؤوليات الضخمة لتحقيق النهضة العظيمة للأمّة الصينية.
وقد ساعد على تحقيق ذلك عدة عوامل:
1. الإصلاح والانفتاح: فقد قامت الصين بسلسلة من الإصلاحات على كافة الأصعدة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
كما اعتمد الحزب الشيوعي الصيني استراتيجية انفتاحية للمواءمة بين الفكر الاشتراكي المنبثق من الفكر الماركسي وبين الرأسمالية المنبثقة من النظام العالمي الحديث، والقائم على السوق المفتوح؛ وهذه الاستراتيجية ساعدت الصين على الانفتاح الاقتصادي على سوق خارجي يزداد اتساعاً في ظل العولمة ؛ أي أن الصين لم تترك الباب مغلقاً، فهي كانت تنفّذ إصلاحاً داخلياً، وتنفتح على العالم الخارجي، مع مضيّها قُدماً بالتمسك بالتقاليد الرفيعة للأمّة الصينية، واستنادها إلى الإنجازات الكبرى للحضارات الأخرى.
2. إصلاح عملية صنع القرار التي كانت على النمط السوفييتي القديم، والمهتم بالمركزية أكثر من الديمقراطية؛ وأصبح القرار النهائي يعكس التوافق الواسع للمجتمع الصيني، لاعتماده مؤسسات الفكر والرأي والوكالات الحكومية والجامعات والعلماء والبارزين والمحترفين .
3. إرادة أبناء الشعب الصيني واجتهادهم وتضحياتهم وحكمتهم، حيث كانوا روّاد أنموذج التنمية الخاصة بهم.
4. الصين بلدٌ غنيٌ بالموارد؛ فهي تمتلك ثروات متنوعة واحتياطات مهمة، من فحم وبترول وغاز ومعادن.
5. السياسة السلمية التي تتّبعها الصين. فهي لم تُقحم نفسها في المشاكل الدولية ، ولم تتدخل في أي دولة، مناصرةً فئة ضد فئة أخرى، وكذلك بمواجهتها للتحديات الداخلية والخارجية بصورة أكثر فعالية وفتح آفاق جديدة لمستقبل البلاد.
6. الاستفادة من الكثافة السكانية، من خلال توظيف الأعداد الضخمة، كالعمالة الرخيصة.
7. تحديث استراتيجية تنمية إقليمية للأجزاء الداخلية في الصين لتصل إلى مستوى استراتيجيات التنمية الوطنية، واتّباعها السياسات المشجّعة للمستثمرين.
8. السماح للأفراد بإنشاء مشاريعهم الصناعية الخاصة ، وتنمية ثرواتهم، وتنشيط المبادرات الفردية.
9. تعزيز التنمية بين المناطق الحَضَرية والريفية وتطوير البنية التحتية، وتمويل الاستثمار في هذا المجال. فقد عبّدت الحكومة الطرق، ووفّرت الماء والكهرباء والتلفونات والإنترنت في 98% من المناطق ، مما ساعد في نشوء العديد من المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
10. الأسعار التنافسية : منذ أن دخلت الصين مجال الصناعة في خمسينات القرن العشرين، قامت بتقليد الصناعات الغربية وتسويقها بأسعار أقل مما تُباع به، ما أدّى للإقبال على الصناعات الصينية.
11. جذبت الصين استثمارات أجنبية كثيفة خلقت قدرات إنتاجية جديدة في القطاعات التي تستجيب للطلب المحلي والعالمي.
فالصين، وقبل كل شيء، شدّدت على ضرورة تحقيق نمو اقتصادي متوازن، علاوة على الفوائد قصيرة الأجل الناتجة من الازدهار السلعي والاستراتيجيات الاستهلاكية، وتحقيقها للتوازن بين الإنفاق الاجتماعي، مع الاستثمار في النشاط الإنتاجي الأساسي، واهتمامها بالتعليم الفني والمهني والتقني للابتكار التكنولوجي.
وتحسّباً لبرنامج الشراكة عبر المحيط الهادئ، سعت بكين إلى توقيع اتفاقيات التجارة الحرّة مع العديد من دول جنوب شرق آسيا، وكوريا الجنوبية وتشيلي وأستراليا. كما تُقدّم الصين أموالاً طائلة لمنظمات اقتصادية ومالية ودولية، بديلة ومكمّلة، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ( AIIB)، وبنك مجموعة بريكس (BRicks)، ومشروع “حزام واحد طريق واحد” الذي يهدف إلى تصدير الطاقة الإنتاجية الصينية للمناطق المجاورة.

المحور الرابع: اليابان تفقد مكانتها الاقتصادية أمام الصين
لدى الصين واليابان تاريخ طويل بحكم القرب الجغرافي للبلدين. واتّسم مسار العلاقات الصينية – اليابانية بالتذبذب (تطوّر إيجابي مشحون بالتوتر). فقد تأثرت العلاقات بين البلدين بظروف الحرب الباردة وما رافقها من سياسات الاستقطاب في العلاقات الدولية؛ فاليابان كانت طرفاً في سياسة الاحتواء التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركية ضد الصين.
مع نهاية الحرب اليابانية- الصينية عام 1894، هُزمت الصين، فيما حصلت اليابان على تعويض يساوي 230 مليون تايل من الفضّة من الصين .
لكن كم كان يعادل مبلغ 230 مليون تايل من الفضّة ؟ كان يعادل تقريباً إيرادات دولة الصين حينها لمدة 3 سنوات؛ وقد أنفقت اليابان هذا المبلغ في تحسين التعليم وإنشاء مصانع وبناء مدن وزيادة حجم الجيش؛ وبالتالي زادت قوّة اليابان الاقتصادية والعسكرية الإجمالية. فكم من العمل الشاق والأموال والموارد الصينية التي اغتصبتها اليابان من أجل عملية التحديث الخاصة بها؟ كم حياة صينية فقِدت بسبب غزو اليابان للصين؟ أرقام هائلة لا تُحصى؛ وكلّ هذا أدّى إلى خزانة فارغة في الصين، والتي سارت نحو دوّامة من الانحدار الحاد.
في عام 1978، تم توقيع معاهدة السلم والصداقة الصينية – اليابانية وتطبيع العلاقات بين بكين وطوكيو. فقد أدرك كلا الجانبين الحاجة الملحّة للتعاون الوثيق بينهما وتجاوز سلبيات المراحل التاريخية الدامية والتطلع لمستقبل واعد، لتحقيق الاستقرار الإقليمي وإحياء الوعي التاريخي بالهوية الآسيوية؛ فهناك عوامل كانت تدفع باتجاه التكامل الاقتصادي بين الصين واليابان على الرغم من التوترات السياسية بينهما.
ومع الوقت أصبحت العلاقة الاقتصادية بين البلدين متداخلة ومتينة، وبات البلدان يعتمدان على بعضهما في الاستيراد والتصدير والاستثمار وخلق الفرص التنموية، حيث تعدّ اليابان الصين بمثابة الشريك التجاري الأول والسوق الأهم؛ فهي ترى في الصين سوقاً كبيراً يمكن أن يستوعب الصادرات اليابانية والاستثمارات، خصوصاً في مجالي النفط والتكنولوجيا. وقد تنامى التبادل التجاري بين الجانبين ليصل إلى مستويات كبرى؛ وبحلول أكتوبر 2016 بلغ عدد الشركات اليابانية العاملة في الصين 32 ألف شركة .
عملت الصين واليابان على خلق بيئة استثمارية آمنة، من خلال بناء المؤسسات في كلٍ من البلدين، وبما يشكّل حافزاً اقتصادياً ينمّي البيئة الاستثمارية في الصين، مع بناء مستويات من الثقة الاقتصادية بالنسبة للمستثمر الياباني. وقد تضخمت الاستثمارات اليابانية المباشرة في البرّ الصيني بين عامي2002/2012.
لكن كانت هناك مخاوف لدى اليابان ودول آسيوية أخرى، بأن نهوض الصين سيسحق الجميع، وخاصة لما يشهده الاقتصاد الصيني من معدّلات نمو عالية. وبالمقابل، الصين كانت لديها مخاوف من طموحات اليابان السياسية في الحصول على مقعد في مجلس الأمن لتكون قوّة سياسية مهيمنة في آسيا.
فالصين تدرك الأهمية الكبيرة لليابان كقوّة اقتصادية وسياسية وعسكرية لها طموحها في السيطرة؛ لكن البلدين وصلا الى مرحلة متقدمة من التعاون، وهذا يعزّز من الدور الصيني ويقلّل من مخاوف اليابان منها.
لكلٍ من الصين واليابان نقاط قوّة وضعف. فالصين هي الأولى عالمياً بالموارد البشرية، على عكس اليابان التي تعاني من نقص الموارد البشرية؛ والصين هي الأولى في النمو الاقتصادي، ولديها أضخم جيش في العالم وثاني أكبر ميزانية معلنة للدفاع، وهي الرابعة عالمياً من حيث المساحة؛ أما اليابان، فهي ثاني اقتصاد في العالم من حيث سعر صرف العملات، والثانية عالمياً من حيث المعرفة التكنولوجية، ونظامها التعليمي هو الثاني عالمياً بعد الولايات المتحدة ، ويتميز مجتمعها المحلي بالاندماج الوطني وروح العمل الجماعي.
في العام 2010 تجاوزت الصين اليابان؛ ويرجع ذلك لعدة أسباب:
• تناقصت وتيرة النمو الاقتصادي نتيجة الاستثمارات الضخمة خلال العشرية التي سبقتها، والسياسة التقشفية التي انتهجتها الحكومة للتخلص من الفائض في الأسواق العقارية والمالية.
• وصول الإنتاج إلى سقف الطلب والعجز عن النمو، فبدأت أزمة فائض الإنتاج.
• ارتفاع سعر الين الياباني، وهو ما جعل السلع اليابانية باهظة الثمن وخفّض من قدرتها التنافسية.
• التدهور الديمغرافي وشيخوخة السكان؛ وبالتالي انخفاض الاستهلاك رغم القوّة الشرائية المرتفعة، وتأثّر الاقتصاد بسبب نقص اليد العاملة.
• سوق العمل جامدة ومقفلة؛ بالإضافة إلى أن اليابان لم توقّع اتفاقيات تجارة حرّة كغيرها، وذلك لثقتها المبالغة بجودة سلعها وخدماتها.
• الشركات اليابانية لا تعتمد سياسات تسويق فاعلة ونشطة كما تفعل الشركات الغربية والمنافسة عموماً.
• العمالة الصينية لم تعد رخيصة؛ فالتوتّر بين الصين واليابان أدّى إلى نقص العمالة في اليابان، وارتفاع تكاليف المتوفّر منها.
• ارتفاع الدين العام، حيث تحتل اليابان المركز الأول بين الدول المتقدمة في قيمة الدين إلى الناتج المحلي للدولة، مما أثّر على الاقتصاد والصناعة والاستثمار في البلاد.
• الحرب التجارية: تمثّل أحد أهم شواغل اليابان، إذ إنها تهدّد صادرات اليابان، من قطع السيارات والأجهزة الإلكترونية والآلات الثقيلة.
فالصين باتت اليوم أقرب من اليابان إلى القطبية الكونيّة بسبب ما تمتلكه من مقوّمات عسكرية واقتصادية وطبيعية وبشرية، قد تقودها، من خلال تخطيط استراتيجي متماسك، إلى المساهمة في صنع القرارات العالمية بالتشارك مع الولايات المتحدة الأميركية.

الخاتمة
لقد نهضت الصين من الحطام، وكسرت حاجز التخلف والتبعية. وهي أصبحت أكبر دولة صناعية، وأكبر دولة تجارية، وأكبر دولة في احتياطي العملات الأجنبية، واضعة خططها الاقتصادية الاستراتيجية بما يخدم اقتصادها ويسير بشعبها على درب الرفاهية، ومنطلقةً من قِيم الجد والمثابرة والانضباط، ومعتمدةً على ما تمتلك من مقوّمات بشرية وطبيعية واقتصادية، ومتعمّدة الفصل بين السياسة والاقتصاد في علاقاتها الدولية؛ وبذلك استطاعت الصين أن تحتلّ موقعاً متقدماً في قلب الاقتصاد العالمي، وتخلق دورة اقتصاد نشطة وزّعت ثمارها بالعدل على الجميع.
لقد تمكنت الصين من تحقيق معجزة اقتصادية بكل معنى الكلمة، حيث وقف العالم احتراماً لها. وما زالت التجربة الصينية تمدّنا بالعِبر والدروس؛ فالمصلحة الوطنية يجب أن تكون أولاً؛ والاقتصاد القوي هو أساس التقدم في كل المجالات؛ والأهم من ذلك هو اقتصاد المعرفة الذي توليه الصين اهتماماً كبيراً باعتباره اقتصاد المستقبل.
كما لا يمكن تجاهل القوّة الاقتصادية الهائلة التي تمتلكها الصين، والتي جعلت منها ورشة العالم. فسابقاً، لم تكن الصين تمثّل قوّة اقتصادية وسط محيطها الآسيوي الذي يلامس حدوداً مشتركة مع 15 دولة أخرى. أما الآن، فهذا التوسع الصيني الهائل يشتمل على مناطق وأنشطة عديدة، بدءاً من مناجم التعدين في أفريقيا، ومروراً بأسواق العملات في الغرب وحقول النفط في الشرق الأوسط، والأعمال التجارية والزراعية في أميركا اللاتينية، وحتى المصانع في شرق آسيا. فالصين تريد الثروة والمكاسب والأرباح، وهي الأشياء الأكثر تحديداً ورغبة بالنسبة للهوية الصينية الخارجية؛ ويتأسس ذلك على افتراض من قِبل الحكومة الصينية بأن الثروة سوف يتم ترجمتها مباشرة إلى قوّة ونفوذ كبيرين.

*باحثة في الاقتصاد والتنمية.

حقوق النشر محفوظة لمركز الدراسات الآسيوية والصينية-بيروت نوفمبر-تشرين الثاني 2022

Optimized by Optimole