التجربة النسوية المسلحة في سوريا والعراق: بين المقاتلات الكرديات وجهاديات “داعش”

Spread the love

Kurdish-women

بقلم: مصطفى زهران* — تعيش المنطقتان العربية والإسلامية بأسرهما على وقع صعود الحالة الراديكالية بتنويعاتها السياسية والدينية والمجتمعية، كردة فعل لتقلبات الربيع العربي (خاصةً في العمق السوري)،
وارتداداتها التي أثرت بالسلب على أطراف أخرى في العديد من دول العالم، ما أسهم في زيادة وتيرة الراديكالية الدينية والحزبية فضلاً عن تحولاتها التي دفعت بها نحو تمظهراتها الحالية في مناحٍ متفرقة بالمنطقة، إذ لم تقف عند حدود الشرق الأوسط بل امتدت لتشمل مساحات إقليمية أخرى.

بيد أن الجديد الذي تمخض عنه هذا الصعود هو بروز الدور الراديكالي “النسوي” بنسختيه الدينية واليسارية شديدة التطرف، ونظراً لدوره الثانوي في المتوالية الراديكالية تغافلَ عنه الكثيرون، على الرغم مما يعكسه هذا الجانب الوظيفي من تحولين جد خطيرين يَطالان واقع الحالة النسوية في عمومها والحالة (الراديكالية / الجهادية) بوجهٍ خاص، أولهما: حركةٌ نسوية يسارية مسلحة يتقاطع فيها القومي مع الماركسي في نسخته الثورية، وتعبر عنه “المقاتلات الكرديات” المنخرطات ضمن تنظيم “حزب العمال الكردستاني”، وثانيهما: الجهادية النسوية “السنية” ممثلةً في “مقاتلات تنظيم الدولة الإسلامية.

النسوية الكردية والرجولة المتخيلة الجديدة

شهدت فترة السبعينيات من القرن الفائت ولادة طورٍ جديد ضمن تحولات الحالة الكردية، تحت اسم “حزب العمال الكردستاني”. وقد جاء هذا التشكلُ الجديد كحالة ارتداد على التاريخ والجغرافيا والإطار الجامع (الدين) للمنطقة، الأمر الذي انعكس على الحالة النسوية الكردية من خلال ولادة جناحٍ نسويٍ مسلح متأثر بالحركات اليسارية الأكثر راديكالية وبالاشتراكية العالمية، حيث أخذت تنظر فتيات أو “رفيقات” هذا التنظيم إلى قتال المراة الكردية ومشاركتها في المعارك بوصفه يمثل صراعاً ضد عالمها الداخلي والطبقي كي يتحد مع العالم الكبير “الشعب – الوطن – القائد”. كما أخذن يرددن دوماً أنهن يسمعن في آذانهن صدى قول القائد – أي أوجلان – “الذي يحارب يصبح جميلاً والذي يصبح جميلاً يُحب”. (1)

على إثر هذه الرؤية، رحلت العديد من الفتيات الكرديات إلى الجبال وشكّلن وحدات مستقلة ومارَسن أنشطة تدريبية، وتذكر أدبياتهن في هذا السياق أن هذه الوحدات التي تحمل اسم “YAJK” تقوم على عدة مبادىء، منها: الارتباط اللامحدود بمبدأ الوطنية، والإيمان بمبدأ العسكرتارية النسوية، إذ أن الحرب تُعد أحد أهم مبادئ “YAJK” بالإضافة إلى تلازمية التنظيم مع المبادئ القتالية العسكرية، وذلك لأن المرأة لا تتواجد إلا بالتنظيم، وبدون وجود التنظيم يستحيل تواجد أي امرأة حرة – حسب وصفهن – ومن هنا يبرز هذا النشيد وهذا الشعار الذي تضعهن على صدورهن “سأذهب إلى الوطن، سأحيا حرة، سأصعد الجبال، سأحارب، حرية”(2)

ينقلنا هذا العرض عن دور العمل العسكري النسوي، والمواقع الاجتماعية الجديدة التي ولّدها (على مستوى تحرر المرأة الكردية) وفق أدبيات حزب العمال الكردستاني، إلى ضرورة التركيز واختبار دور المؤسسات والمجموعات العسكرية كبؤر من الدرجة الأولى لفهمٍ أدق لطبيعة وشكل هذه التحولات الجندرية داخل المجتمعات والجماعات التي تحكمها أو تمارس تأثيراً عليها . وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى الدراسة المهمة التي طرحتها الباحثة الأنثربولوجية إيما سينكلر في دراستها “الخدمة العسكرية والرجولة في تركيا”. (3)

ترى سينكلر في دراستها أن بعض المؤسسات قد تساهم بشكلٍ كبير على صعيد خلق مفاهيم وقيم اجتماعية جديدة في حياة النساء والرجل واليومية، ومن بين هذه المؤسسات تشير الباحثة الى دور (المؤسسة العسكرية التركية) التي أخذت تُولّدُ، من خلال طقوس الذكورة المتمثلة بالخدمة العسكرية في القرن العشرين، رؤية جديدة لدورها بوصفها موقعاً مؤسسياً أولياً للذكورية النازعة الى الهيمنة، والتي تمارس تأثيراً اجتماعياً وثقافياً لا مفر منه في سائر حياة الرجال والنساء في تركيا – بصرف النظر عن الجنسية والفئات الاجتماعية والجماعات الاثنية وما الى ذلك.

ووفقا للباحثة، لطالما حاولت الأكاديميات العسكرية (في تركيا) صنع تركيٍ من نوع مغاير تماماً للمادة الأولية التي تتلقاها، تركيٌ من النوع الذي يحلم به المرء. متحررٌ من كل الأمراض التي يُعتقد أن المجتمع التركي مصابُ بها، واسع الاطلاع للغاية، جدير بالثقة، ويتحلى بكل الشمائل الاجتماعية. كما انه محارب أبيٌ ونبيل، رجل انضباط ونزاهة. وما يعدو نموذجاً في هذا المجال ملاحظة قائدٍ بشأن عملية التدريب: “إننا نصنع زهريةً فاخرة مستمدةً من الطيب نفسه في المدارس العسكرية، أما المدارس المدنية فتنتج أباريق ذات نوعية رديئة”.

الأهم مما يمكن استخلاصه من دراسة سينكلر لا يتعلق فقط بالملاحظات السابقة، بل بالنتائج التي تولدها هذا الرؤية العسكرية الجديدة على المستوى الجندري وعلى مستوى الذات. ففي الوقت الذي يغدو فيه المقاتل هو صانع الأمة، نجد الثنائية التقليدية (ذكورة / أنوثة) غالباً ما تغيب لصالح ثنائيات جديدة رجولة (صانع الأمة) / مقابل الفرد اللامسؤول (عالم اللارجولة). من هنا يغدو المقاتل (بغض النظر عن جنسه) هو المواطن والحامل لكل قيم الذات الجديدة، في حين يجري فرز المدنيين (ذكور واناث) بوصفهم يحتلون موقعاً لاجنسياً تقريباً أشبه بموقع الطفل.

وفي حال اعتمدنا على المقارنة السابقة وحاولنا الاستفادة منها في فهمٍ أدق لظاهرة العسكرة والنسوية داخل حزب العمال الكردستاني بوصفه مؤسسة عسكرية/سياسية. نجد، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة الميدل إيست لمراستلها التي قامت بزيارة الى معسكرات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل(4)، أن هناك إصراراً من قيادات الحزب على أن الانتماء للحزب يقطع مع القيم التقلدية الأنثوية عند الكرديات (وهذا ما يذكرنا بخطاب الضابط التركي وبعالم المدنيين الفوضوي والتقليدي)، “لأن عبودية النساء هي شكلٌ من أشكال الظلم البشري على طول ضفاف التاريخ، لذا أردنا منح المرأة الحرية بادىء ذي بدء “وفقاً لتعبير أحد القادة المشرفين على المعسكر. بيدَ أن ما تلحظه المراسلة رغم هذا الخطاب، أن الحياة داخل المخيمات (بالنسبة للنساء) هي حياة عسكرية وليست حياة فكرية، حيث يبدأ اليوم العادي في الساعة الرابعة صباحاً لإعداد طعام الإفطار، وبعد ذلك بوقتٍ قصير يباشر الدرس الأول حول الاستراتيجيات والتكتيكات، والذي يعلم المقاتلات كيفية مواجهة وهزم العدو على أرض الواقع. وبعد درس التكتيك، يُركض باتجاه تلٍ عالٍ للمباشرة بدورة تدريبية تسمى “كوماندو” ومن هذا المنطلق فان الدورة تشبه معسكرات الجيش النمطية.

من هنا، نجد أن الحالة النسوية داخل حزب العمال الكردستاني والتي بات (مؤخرا) يجري التغني بمدى “حداثويتها”، كما يتم العمل على تضخيم صورتها في مواجهة قوى “الظلام” الإسلامية، وذلك باعتبارها امتداداً لصورة المرأة في الغرب، لا تُعبر برأينا عن حالةٍ جندرية جديدة يروم الحزب لخلقها داخل الوسط الاجتماعي الكردي، بل هي في الحقيقة (واعتماداً على رؤية إيما سنكلير السابقة) أقرب ما تكون الى صياغة ذاتٍ كردية جديدة، يكون فيها للعمل العسكري الدور الأساسي والفاعل، كما لا يجري فرز هذه الذات إلى ذكور وإناث، بل يحتلون موقعا لاجنسياً، تغيب فيها كل الأبعاد الأنثوية للنساء المقاتلات لصالح ثنائية الرجولة ( الفرد المسلح) / مقابل عالم المدنيين الكردي ( الفوضوي).

IS-female-fighters

النسوية الجهادية والبحث عن الفحولة

ومن المقاتلات الكرديات إلى النسوية الجهادية ربما لم يختلف المشهد الراديكالي بمقاربته الفكرية كثيراً لديهن، إذ لم يكن من أدبيات الجماعات الجهادية في طورها التكويني الأول منذ بدايات الحرب الأفغانية مع الإتحاد السوفيتي، وامتداداتها بعد ذلك في مناطق الجهاد المتفرقة، رغبةٌ في إقحام المرأة في العمليات العسكرية المباشرة، ويُعبر عن ذلك بقوة عدم توظيف تنظيم القاعدة للمرأة في بدايات ظهورها في الأدوار الجهادية وعملياتها القتالية مع خصومهم في الشرق والغرب، فلم يكن لهن دورٌ حقيقي أو حتى ثانوي، وتأتي رسالة زوجة الشيخ أيمن الظواهري في 2009 مستحثةً النساء بألا يغادرن إلى ساحات الجهاد بدون محرم، أو لكي لا يمثلن عقبة أمام ضربات الجهاديين للخصوم، وإمكانية أن يكون لهن أدوار ثانوية أخرى تدعم الجهاد في صورته الشمولية أكبر شاهد ودليل على ذلك، وهي الرؤية التي يتفق عليها أيضاً الظواهري ذاته.
فيما كان من تطور الحالة الجهادية السريع وتعاظم الخصومة التي أبدتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون من جهة، ومن ثم الأنظمة العربية والإسلامية من جهةٍ أخرى، بدأ الحديث عن دورٍ تلعبه المرأة الجهادية المنتسبة للقاعدة جنبًا إلى جنب بجوار الرجل، وربما كانت تتحكم النظرة الشرقية للمرأة كثيراً بتموضعها للعمل الجهادي، وهو ما يفسر بعد ذلك استحواذ الجهاديات الغربيات للانطلاقة الأولى للدور النسوي الجهادي.

ويؤكد على ذلك ما ذكره “مركز السكينة للدراسات الأمنية” بالمملكة العربية السعودية المتخصص في شؤون التنظيمات الجهادية المسلحة ومنها القاعدة، بأن مفهوم مشاركة المرأة في العمليات الجهادية وخاصة الانتحارية بدأ في مناطق القوقاز ومناطق الصراع في روسيا،

ثم انتشر بشكلٍ كبير في العراق. وكانت أولى الجماعات العربية التي أشركت المرأة في الحالة الجهادية تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وكانت أغلبيتهن – النساء المشاركات في العمليات – متأثرات بأقارب ينتمون للجماعات.(6)

وهنا نجد أن الدافع الأول للمشاركة النسوية في العمل الجهادي، إنما كانت رغبة في الثأر لذويهنَّ الذين لقوا حتفهم ومصرعهم على أيدي القوات الأمريكية والغربية – على حدٍ سواء – وقد لعبت المرأة الجهادية في بدايتها دوراً مهماً في التعبئة والتجييش لصالح الجماعة الجهادية، والتي كانت تمثلها القاعدة في ذلك الوقت، في الفترة التي بدأت مع تفجير مركزي التجارة العالمي في واشنطن 2001 ثم الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 قبل أن تشهد تحولا كبيراً في الآليات والممارسة.

ولكي نفهم التحرك النسوي القائم في اللحظة الراهنة بتمظهراته في “مقاتلات تنظيم الدولة الإسلامية” كان لابد من معرفة حجم التأثير الذي تركتهُ الجهاديات القاعديات في ذهن مقاتلات تنظيم الدولة، لما يمثلهن من جيلٍ مهم ساهم في تطور المفهوم الجهادي النسوي العالمي.

من بين هذه النسوة الجهاديات “ساجدة الريشاوي” المرأة التي حاولت تفجير نفسها في 3 فنادق بالعاصمة الأردنية عمان في 2005، وباءت محاولتها بالفشل، وسُجنت على إثرها لسنوات عدة بالسجون الأردنية، إلى أن تم إعدامها خلال صفقة الطيار الأردني “معاذ الكساسبة” التي لم تكتمل مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، ورفضت حينها السلطات الأردنية تسليمها وأعقبها إحراق “التنظيم” للكساسبة بعد ذلك.

والأمريكية “كولين لاروز” المعروفة باسم “فاطمة لاروز” صاحبة دعاوى النفير الجهادي في أوروبا وجنوب آسيا، والباكستانية “عافية صديقي”، والبلجيكية من أصل مغربي “مليكة العرود” صاحبة دعوى الجهاد في أفغانستان والعراق والجزائر ولبنان، فضلاً عن “وفاء الشهري” زوجة “سعيد الشهري” الرجل الثاني في تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب آنذاك. والقائمة تحمل الكثير من الأسماء العربية والغربية – على حدٍ سواء – لعبت خلالها هذه الرموز دوراً مهماً في الانتقال بالمرأة الجهادية من مرحلة التنظير إلى مرحلة التجريب والعمل الجهادي على الأرض.

وقد تعاظمت الطموحات النسوية للقاعديات خشية أن تُختزل في القيام بأدوار ثانوية وسَعَت لمنافسة الرجل – الجهادي – في ميادين القتال، وهو ما تُعبرُ عنه دعوة القاعدية البلجيكية “مليكة العرود” بتطلعاتها في أن تصير النساء في طليعة حركةٍ نسائية تهدف إلى تولي دورٍ كبير في الجهاد الذي يسيطر عليه الرجال، وهو تطورٌ مهم يعكس حجم التطلعات النسوية الجهادية التي سيكون لها عظيم الأثر بعد ذلك في الحركة النسوية الجهادية العالمية (7).

ولم يفت على المرأة الجهادية التأصيلُ النفسي والفكري للمجاهدات في مسيرتهن الجهادية حتى لا تثبط عزائمهن أو تفترَ آمالهن وتخرَّ قواهن. فتحت عنوان “الاستعلاء على الحطام” وضمن ما كانت تنشره مجلة “الشامخة” على صفحاتها الإلكترونية، تُبصِّرُ “أم وليد المكية” المجاهدات إلى صعوبة الطريق الذي سلكنه باختيارهن، وأنه سيرٌ على الدرب الصعب، وأنه اصطفاءٌ من المولى – عز وجل – لهن. لذا لابد وأن تعي المجاهدات حجم المهمة التي على عاتقهن، لذا تحثهن على ما أسمته بـ”الاستعلاء على الحطام”، فحب الدنيا وزخرفها البالي لا يجتمع في قلب المرأة الجهادية التي اختارت الجهاد طريقًا ومسلكًا وغاية.

ثم تأتي أهم المنظرات الجهاديات القاعديات “مني بنت صالح الشرقاوي” لتضع النقاط على الحروف وتضع إطاراً فكرياً جامعاً، لتتحولق حوله النسوية الجهادية في كتابها الهام “يا نساء دوركن فقد نام الرجال”، والذي خاطبت فيه النسوة الجهاديات قائلة: “أختي الكريمة.. إنني أخاطبك وكلي أمل فيكِ لأنني أعلم أنك مربية الأجيال وصانعة الرجال، فهلا وقفتِ مع نفسك قليلاً وتأملتِ حال أمتك اليوم، وما يجب عليك تجاهها”(28)، ثم تتابع بقولها: “يا حفيدة صفية والخنساء وأم عمارة، هلا مسحتِ العار عن جبين الأمة الذي خلَّفه أشباه الرجال من أمتنا”.

وبعد التأهيل النفسي والنفير إلى أرض الجهاد والعمل على بث روح الجهاد في النفس النسوية وما شابه، تأتي مرحلة السكينة والاستقرار مرحلةً هامة تؤصل لها في هذه اللحظة القاعدية “أم غدير” إحدى الكاتبات في مجلة الشامخة أيضاً، وتحت عنوان “الزواج من مجاهد”: “إن الحياة في ظل مجاهد حياة ليست كالحياة، إنها النعيم الذي يقود إلى نعيم الآخرة”، مؤكدة في الوقت نفسه على أنها “ستكون زوجة ليست ككل الزوجات، ستكون زوجة جهادي”(8).

وينقلنا هذا الطورُ الفكري إلى مرحلة النضوج الذي استوى على تمظهره الآني في حالة النسوة المنتميات لـ”تنظيم الدولة الإسلامية”، ويظهر بقوة عند الأكاديمية السورية “إيمان مصطفي البغا” في كُتيبها الهام “كنت داعشية قبل ظهور داعش”، والذي يعكس حجم التحول الذي أصاب المرأة الجهادية وانتقالها من الفكرة التنظيمية “القاعدية” إلى التشكل الدولاتي المتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.

تُقر “البغا” في كتيبها، وبعد اطلاعها على ما أسمته بمآسي المسلمين وقراءتها لسيرة رسول الله وحياة الصحابة والفتوحات لعشرات المرات، والتاريخ المعاصر بكل ثوراته، ومدارستها لفقه الجهاد على يد كبار العلماء، وما ساقها ذلك الزخم من الأدبيات على كونها “داعشية” قبل أن يظهر تنظيم الدولة، وأنه لم يعد ممكناً خروج الأمة الإسلامية من كَبوتها إلا بالجهاد في ثوب تنظيم الدولة الإسلامية.

بالتوازي مع ذلك، كانت المفارقة التي وضعها تنظيم الدولة في تعامله مع المرأة الجهادية، إذ عزز من تركيز وتأصيل وتموضع المرأة في المشهد الدولاتي داخل حدود خلافته الجديدة، أو من خلال وضعهن في إطارٍ وظيفيٍ من خلال ولاياته (مناطق نفوذه) المتفرقة في أماكن مختلفة من المنطقتين العربية والإسلامية وخارجهما سواء في الغرب أو أفريقيا. فلم يضع البغدادي أمام الداعشيات خياراً واحداً: إما القتال أو الاستشهاد، إنما وَضَعهن أمام خيارات عدة، ابتداءً من أن تختار أن تكون زوجة لجهادي مقاتل، وما يحظى به من مكانة عالية شرعياً وميدانياً، مروراً بالقيام بأدوار حيوية في الفضاء المجتمعي الجديد لدولة الخلافة، من إدارة شئون التربية العلمية والدينية للفتيات وأبناء المقاتلين والمجاهدين، وأعمال الطب وتقديم الرعاية الصحية للمجاهدين وذويهم، وما يتعلق بشئون المرأة كافة، إضافةً إلى وضع تصورات لشكل عملها في فضائها الجديد، وعادةً ما يخضعُ هذا لإشراف نسوةٍ لهن خبرة في ميادين شتي سبق وجودهن في مثل هذه الميادين القتالية ومجتمعات الجهاد المتنقلة، حيث يجعل في نهاية هذه الأدوار وليس على رأسها دورها القتالي والجهادي.(9)

وأهم ما تحمله تصورات البغدادي نحو المرأة يكمن في أنه بهذا التموضع للمرأة الداعشية في دولته، تصبح هذه الآليات والممارسات أداةَ جذبٍ رئيسة للنسوة الراغبات في الالتحاق بدولة الخلافة في الشرق والغرب على حدٍ سواء.

وهو ما يجعلنا نفهم بقدرٍ كبير حجم الانفتاح الذي أبدته دولة البغدادي في الرغبة بانضمام النسوة الغربيات من كل حدبٍ وصوب، وضمهن في صفوف ميادينه الاجتماعية والقتالية للاستفادة منهن بشكلٍ براجماتي، لما لهن من خبرة كبيرة في مجالات شتي ساهمت فيها طبيعة المجتمعات الغربية التي نشأن فيها. ما يدفع نحو مزيدٍ من هجرة النساء الغربيات اللاتي يشعرن بالتهميش والعزلة المجتمعية في أوطانهن بالغرب، نتيجة سياسة الإقصاء وزيادة وتيرة “الإسلاموفوبيا” التي تنتهجها كثيرٌ من دول أوروبا بشكلٍ خاص، والتي لا يمكن أن تنفصل تداعياتها عن الأسباب التي تدفع النسوة الغربيات للالتحاق بداعش.

ويفند الباحث الإيراني “فرهاد خسرو” جملةً من العوامل السوسيولوجية التي أسهمت بقدرٍ كبير في تشكل النسوة المقاتلات الجدد في تمظهرهن في تنظيم الدولة الإسلامية، وتحديدًا الفتيات المراهقات في أعمار متقاربة، منها تحقيق الإرادة المستقلة خالعةً عنها الإرادة الأبوية في سبيل تحقيق مآربهن بالالتحاق بالمقاتلين الشبان وهم يخاطرون بحياتهم كلّ يوم، وهو تجسيدٌ أطلق عليه خسرو “المسعى القمعي للفحولة والنزاهة”، وهي صفاتٌ تفتقدها تلك الفتيات في نظرائهن من الفتيان من أعمارهن غير الناضجات، واللاتي يستبدلن صديقاتهن كما يستبدلن قمصانهن. (10)

ويمكننا أن نتفهم من خلال هذا المعطى الحديث عن إنشاء ألوية وكتائب جهادية “نسوية” للحاجة إليها، مثل كتيبتي “الخنساء” و”أم الريان” اللتان كانت ولادتهما في الجانب السوري من الدولة الإسلامية، في ولاية الرقة شمال سوريا. ويمكننا بخلاف هذين العنوانين التكهن بالأدوار النسوية التي يمكن أن يقمن بها من خلال هذه اللافتات التي يتحركن بها، سواء كانت تحت ظلال كتيبة الخنساء أو أم الريان أو غيرهما.

وعادةً ما تبدأ من الشرطة النسوية في سياقات محددة أصبحت تفرضها الوقائع الجديدة على الأرض، مع تسيير الشؤون النسوية في الأسواق والمكاتب الإدارية وإدارة سجون النساء وغيرها، فضلاً عن العمل الجهادي والعسكري.

والأشد خطراً في هذه المهام العسكرية للنسوة المجاهدات في تنظيم الدولة هي العمليات الانتحارية التي تتعدى حدود وجغرافية الدولة الإسلامية. وهو ما يفسر عمليات انتحارية حدثت في أفريقيا وأوروبا من قبل تنظيم الدولة ممثلاً في جماعة “بوكو حرام”، النسخة الأفريقية منه وإحدى تشكلاته في غرب أفريقيا، وما أقدمت عليها انتحاريتان في بلدة “البنكي” بولاية بورنو شمالي نيجيريا والتي تكررت لأكثر من مرة، إضافة إلى تفجير “حسناء آيت بولحسن”، المرأة الفرنسية من أصول مغربية، نفسها أثناء مداهمة القوات الخاصة الفرنسية لمنزلٍ كانت تتحصن فيه في سان دوني شمال باريس، وغيرها من الحالات في ليبيا والعراق وغيرها من البلدان.

خلاصة القول

إن خطورة المشهد الراديكالي “النسوي” لا يقل عن نظيره “الذكوري”، وإن التهوين من تداعياته سيكون له عظيم الأثر في مستقبل الظاهرة الراديكالية ككل، ومن ثم سيسهم بشكلٍ أو بآخر في توطين العنف كأداة وممارسة جوهرية في بعض أنشطة الحركات المجتمعية “النسوية” في عمومها. وبالتالي يبقي حزب العمال الكردستاني وما يمثله من حالة راديكالية “نسوية” لا تقل خطورتها عن نظيرتها في تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام. وهو ما يستدعى التأمل في حالتهما معاً، فالمقاتلات الكرديات كظاهرةٍ نسوية راديكالية لا تقل عن نظائرها من مقاتلات تنظيم الدولة الإسلامية، سواء كان ذلك في الممارسة أو الآليات فضلا عن الغاية التي سعين من أجلها.

وبالتالي فإن من أخطر ما يمثله الاتجاه الراديكالي النسوي الصاعد في منطقة الشرق الأوسط وما جاورها، هو التموضعٍ السلبي المغاير للدور التقليدي للمرأة ومكانتها في مجتمعاتها وبيئاتها التي نشأت فيها أو هاجرت إليها، إذ ينجم عن هذا التحول من دورها المنوط داخل المجال العام، على مستوى التعليم والعمل والحريات، إلى وضعيتها كامرأةٍ مقاتلة تحت شعارات انفصالية وإثنية وعرقية، فضلاً عن تبنيها أيديولوجية عدائية للاخر ومعادية لذاتها الانثوية، ينجم عنه بدايةٌ حقيقية لتفكك المجتمع، وما يحويه من تنوعٍ قومي وهوياتي وإثني وعرقي، فهو بمثابة العقد في حال انفراطه يهدد السلام والأمن المجتمعان، ويلحقه تفككٌ للمشهد السياسي بأكمله.

المراجع

1- الموقع الالكترونى لوحدات المرأة الحرة ستار. الرابط2- (المصدر السابق)
3- الدراسة منشورة في كتاب لرجولة المتخيلة: الهوية الذكرية والثقافة في الشرق الأوسط الحديث – مى غصوب، وإيما سنكلير، دار الساقي.
4- إليونوروا فيو ، تعرف على الفتيات المقاتلات في حزب العمال الكردستاني ، ميدل إيست آي ، ترجمة نون بوست. الرابط5- زوجة الظواهري تدعو المسلمات لدعم المجاهدين والالتزام بالحجاب. الرابط6- نساء القاعدة وأخواتها. الرابط7- المصدر السابق.
8- مجلة الشامخة-العدد الاول ربيع 1432 الرابط
9- من «الخنساء» إلى «هايلة» و«سجى» و«أمّ ريان»: أنثى «الدواعش» في مهمّات الاستقطاب والعقاب. الرابط
10- جهاد النساء: تجربة ما بعد نسويّة/حوار مع عالم الاجتماع فرهاد خسرو خاور.

*كاتب وباحث مصري ، مساعد رئيس تحرير مجلة “رؤية تركية”. له الكثير من المقالات والدراسات التى تتناول الظاهرة الاسلامية الدينية بشقيها الدعوى والسياسي خاصة الراديكالية منها ، يكتب في عدد من المواقع العربية مثل موقع الجزيرة نت ، هسبريس المغربي.

المصدر: موقع معهد العالم للدراسات

Optimized by Optimole