يعرّج على حقولها – القصة الفائزة بالمركز الأول مشاركة

Spread the love

القصة القصيرة التي فازت مشاركة بالمرز الأول في مسابقة مجلة “شجون عربية” للقصة القصيرة –
بقلم: د. عماد الدين عيشه* |

المكان… هو صفحة مفقودة من كتاب تاريخ لم تُكتب بعد.

“لآخر مرة، قلت لكَ أن تتقدم” قالها العجوز صارخاً عبر الراديو الموجه إلى قائد أرض المعركة.
“ولكن الأعداء يا سيدي سيقسموننا إلى قسمين. لن يصبح لدينا موقع للانسحاب كما أنهم قد استحوذوا على أعلى نقطة في الميدان.”
“هذه مخاطرة عليكَ أن تقوم بها. أنا آمرك بأن تتقدم.” كان باستطاعة العجوز رغم مشاكل سمعه، أن يميز صوت الرصاص الذي يخترق الهواء من الناحية الأخرى.
“لكن…”
” ليس هناك لكن. عليك أن تتوقف عن التفكير كجندي، وفكر كسياسيّ. إن أستحوذنا على…”
“مع كامل احترامي لكَ، سيدي رئيس الوزراء، ولكنني لن أفعل ذلك.”
“ماذا؟” بدا كأنه سؤال ولكن علامة تعجب كانت لتكون أدق في هذه الحالة.
“لدي سلطة تنفيذية ل…”
رد العجوز عليه قائلاً: “ليس لديك أي سلطة!”.
“رجالي أولى عندي من أي شيء آخر” قالها الضابط بحزم. “لا أستطيع أن أُخاطر بهم من أجل السياسة.”
” سنقوم بمقاضاتك عسكرياً…”.
“إذن هذا هو قدري، وليساعدني الرب على تحمله. لكنني لن أشاهد رجالي يلقون حتفهم بنيران العدو لحفنة من السياسيين.”
قطع القائد الاتصال للأبد هذه المرة.
وهكذا تم اتخاذ قرار لم يؤخذ من قبل، من شأنه أن يُغير كُلَّ شيء.

***

“لقد وصلت الأوامر حالاً”، قالها عمر، وهو يُسلم اللوح الافتراضي لقائد الصاعقة (القوات الخاصة). قائده، القائد الذي من أجله يستطيع خوض غمار الجحيم من أجله بطيب نفس.
“هذا غير معقول”، قالها القائد كما لو أنه تلقى في هذه اللحظة رسالة إخبارية من مقهى الجيش، فقط ليجد أن الشوفان لم يكن على القائمة. “هذا لن ينفع أبدًا.” كان الرجل متسق الجسد، ولديه وجه متورد ينعكس على ردائه الرملي الداكن الخاص بالصحراء والذي يرتديه كجلده الثاني، كان مضطجعًا في كرسيٍ وكأنه يأخذ قيلولة ويشاهد البرامج التعليمية المُعادة والتي ترجع إلى زمن ذروة مجد قناة البي. بي. سي البريطانية.
وضع اللوح وأكمل دور الشطرنج الثلاثي الأبعاد، وكان يخسر أمام الحساب الآلي الذي أعاد برمجته بنفسه، ولكنه كان واسع الأفق، كما كان عريض المنكبين.
“علينا أن نجعلها تنجح يا ريس”، جاوب عمر ببساطة. كان لديه الهاجس أيضًا، من التحليق داخل منطقة العدو. دولة محاطة بسلسلة من الحلفاء. ولكن ماذا بإمكانك أن تفعل؟ كانوا جنودًا وكان لديهم أوامر مُحددة، أوامر من مدنيين كانوا منشغلين باختلاس الأموال.
وكانت هذه هي طريقة اليمين في عالم كان عدوهم مدعوماً من روسيا الشيوعية، عدوهم الدائم الذي قام الآن بخطف طائرة مدنية لمقرهم البعيد عن الوطن في أفريقيا الاستوائية. وقال الروس إن ما حدث لا شان لهم به، وأنهم تبرأوا من هذه المجموعة المتطرفة منذ مدة طويلة.
خرج القائد من النشوة الإلكترونية التي يستحثها ذاتياً، فجرّد عمر من دفعاته أثناء خروج الكلمات من فمه، من خلف حاجز أسنانه البيضاء. “علينا أن نحل الأمر بطريقتنا الخاصة. أتسمعُني.” كان هناك وميض لا يمكن تمييزه في مكانٍ ما في ملامحه المُبهمة.
“نعم… نعم يا سيدي. أفهم الأمر بوضوح. ”
***
صرخ القائد الإنجليزي لفرقة المظلات البدوية وهو يقفز من الباب الخلفي في نهاية الطائرة، وهو يمسك رشاشه ذا كاتم الصوت في يديه، وأمامه حصن الأعداء والذي كان يُعد المطار الدولي لعنتيبي، في أوغندا.
وفي نفس الوقت كانت جدران الطائرة تتحول وتنفتح بمرونة وكأنها أبواب عدة قد فُتحت فجأة، ليبرز من داخل هيكلها المرن مجموعة من البنادق القناصة التي تعمل تلقائياً وقد ركزت على الإرهابيين الماكثين وراء نوافذ المطار الضخمة. وكان من السهل التفريق بينهم وبين الرهائن. ليس فقط بسبب الرداء الغربي، والهيئة الغربية، ولكن لحقيقة أنهم كانوا واقفين بينما كان الرهائن – المربوطون والمكممون والمعصوبون – جالسين.
تلألأت النجوم فوقهم، وكانت لتتلألأ أكثر لو أخطأ الإرهابيون وأطفأوا الأنوار.
ولكنهم لم يفعلوا. كان عليهم أن يأخذوا الطريق الصعب.
“عمر فلتكن جنتلمان ولتضع القنابل الصاعقة على طور القتل ولتضع حدًا لأبراج المراقبة. ”
“بكل سرور يا سيدي” صرخ وهو يلقي القنبلة تلو القنبلة، وكأنه لاعب كريكيت محترف، على الأبراج. كانت الأمواج الصاعقة لتقتل أي أحد فوق الأبراج، وتمزق لحمه وأعصابه، ولكن من دون أي خدوش كثيرة على المبنى ذاته.
تخيل أن المطار بُني من قبل شركة مقاولات فلسطينية في قبرص.
وبعد ذلك قام الرجل الأبيض السمين المستبد الذي يحكم هذا البلد بتغيير ولائه وجلب هذا الطاقم المؤلف من عناصر مختلفة ليستخدمهم كشرطة سرية له.
وبمجرد أن أصابت القانصات الآلية أهدافها البشرية انتقلت تاليًا لتحطيم المصابيح – لمبة تلو لمبة، لو احتاج الأمر إلى ذلك – وبعد ذلك دارت في الأرجاء لتحطيم أجنحة الطائرات المُقاتلة التي كانت تستقر خلفهم.
“تقدموا!” صاح الرجل الإنجليزي وكأنه قائد فرسان.

***
“قام الصهاينة بنحر رقابهم عندما خسروا صحراء النقب للعرب في عام 1948. هل تتخيل هذا” أعلنها الرجل الإنجليزي بفخر وهو يجلس كعادته في مؤخرة الثكنة العسكرية. ولم يغيّر حتى ملابسه.
تنهد عمر. فهو قد سمع هذه القصة مراراً وتكراراً.
“رجلٌ مسؤول في الهاغاناه رفض أن يتقدم ناحية الجنوب ومفاجأته من الخلف من قبل العرب. من المؤسف أنه كان يفكر بالقواعد العسكرية التقليدية.
“لو كان يعلم كيف كان الإنجليز يعرقلون العرب على تلال الضفة الغربية لنهر الأردن، لعلمَ أن المخاطرة كانت تستحق أن تؤخذ. قرار واحد صغير قلب كُلَّ شيءٍ رأسًا على عقب منذ هذه اللحظة. وهذه هي سنّة التاريخ كالسير عبر الأدغال، يستعصي عليك أن تسير في خطٍ مُستقيم. ”
“لدينا هذا التعبير في العربية أيضًا يا ريس. مثل الرجل الأعرج، الذي لا يستطيع أن يمشي في طريق مستقيم. وحتى عندما تسافر إلى الفضاء الخارجي فأنت لا تستطيع أن تتحرك في خطٍ مُستقيم، مثل النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في رحلته إلى المسجد الأقصى الذي يدور حوله كل هذا النزاع،” قالها عمر بندم.
” هذا الصراع كله من أجل المال، على الأقل في الناحية الأخرى من السور،” قالها الرجل الإنجليزي بنبرة المُنتصر.
“لا تزال المدينة المقدسة مشتتة. عملنا لم ينتهِ بعد يا ريس”، قالها عمر بنبرة مُتعبة.
“لا تقلق! فلتحفظ كلامي جيدًا أيها الشاب، فالتاريخ يمر عبر سلسلة طويلة من التقلبات. في زمن هجمات شعوب البحر قام أهل فلسطين بالتحكم بالخط الساحلي، بينما احتل الصهاينة الهضاب. والآن فقد انعكس الأمر. الشيء الوحيد الذي يحد من قوتهم، بصرف النظر عنّا نحن الشجعان المتهورون، هو أن الممول السوفياتي في نهاية المطاف، قوة عظمى من دون منفذ إلى البحر، لقد كان تدهوراً للصهاينة منذ هذه النقطة فصاعداً. لأنهم لم يعد لديهم طريقة للولوج إلى البحر الأحمر ولا “فائدة” يستطيعون أن يحصلوها من الممولين الأجانب الأصليين. لن يكون لدى الرئيس ترومان البرجوازي التافه ذي العقل الصغير، أي شراكة مع الصهاينة، إن لم يستطيعوا تمرير بضائعهم بالمراكب وجعل قناة السويس بلا فائدة. أصبحت أيامهم معدودة، وهم يعلمون ذلك. ولهذا لجأ الصهاينة إلى ديار أخرى بعيدة عن وطنهم (الأرض الموعودة) التي لم تكن كذلك. وتوجهوا إلى مساحة الأرض المخصصة لهم جنوب النيل (أوغاندا) ، لتفضحهم على أنهم مجموعة من المستعمرين البيض الجشعين، وهذا ما هم عليه. والآن سيخسرون كلا الوطنين!”.
التحدث مع الرجل الإنجليزي كان مثل مشاهدة شريط تاريخي بالمقلوب، وبسرعة جنونية.
استطر الرجل الإنجليزي قائلاً: “إذن هل اعتنيتم بالأمر الآخر؟”
ابتلع عمر ريقه. لم تكن المناورة من سماته. كان يُفضل أن يواجه عدوه وجهًا لوجه كونه بدوياً وجندياً، ولكن أحيانًا عليك أن تستخدم الطرق القديمة. “ستقرأ عنها في جريدة القدس تايمز في الصباح الباكر.”
سيعثرون على رأس رئيس الأمن الداخلي، الذي يمثل النسخة العربية من الMI5 ، على مكتبه وهو غارق في بركة دمائه برصاصة مستقرة بين عينيه. (يسمّي الجنود الأمن الداخلي على سبيل المزاح بالشبكة، أو شبكة العنكبوت). فقد حاول رئيس الأمن الداخلي الوغد أن يقلب الفصائل الصهيونية على بعضهم البعض مُعرضًا المدنيين العرب الأبرياء وعائلات بأكملها للخطر. كل ذلك في محاولة نصف دقيقة لتشويه سمعة الصهاينة، وكسب بعض التعاطف الدولي مع القضية العربية – تحرير الأراضي العربية المتبقية وإعادة توحيد مدينة القدس / القدس المنقسمة – وتعزيز ميزانية وظيفته المتضائلة. ما حاجتك إلى أمن داخلي في دولة ديموقراطية على أية حال؟
لا عجب أن الخاطفين استطاعوا أن يمروا عبر الجمارك من دون أي فحص. ولا عجب أن الطائرات النفاثة المُقاتلة لم تُقلع برغم معرفة الاستخبارات العربية أن الطائرة قد خرجت عن مسارها. ولا عجب أن بعض الإرهابيين لم يقتلوا – لأنه لم يتم العثور عليهم في أي مكان في خضم كل هذا، وكانوا قد أمروا الحرس الأوغندي الأبيض بأن يأخذوا قسطًا من الراحة، واغتيال الزوجين البيض ذوي الأصول الرودهيسية أولئك الذين اختطفوا الطائرة من الخلف عندما بدأ إطلاق النار.
لم يكن الصهاينة أغبياء، ولكنهم خُدعوا فقط من شخصٍ غبي.
كانت الآثار المترتبة على الفشل في عنتيبي فظيعة مثل هذا القرار المشؤوم الذي اتخذه القائد في الميدان منذ سنواتٍ مضت في براري صحراء النقب، والتي أصبحت الآن جنة حقيقية بمساعدة الإنجليز، الذين استثمروا أموالهم مع العرب مع الغروب الأخير لشمس الإمبراطورية البريطانية.
وجد فريق التحقيق الذي أرسلته الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي مراكز احتجاز “غير مرئية” منتشرة في جميع أنحاء أوغندا، حتى في الجيوب الصهيونية، التي تديرها مؤسسة الشبكة سيئة السُمعة، وفيها انتهاك لاتفاقية مناهضة التعذيب التي وقّع عليها العالم بأسره – حتى الأميركيون.
“هل كان لديك الحنكة لاستخدام مُسدس لا يُشير إلى أننا المُذنبون؟ “، سأل الإنجليزي أخيرًا بعد سلسلة من الذكريات غير الضرورية.
“هدية تذكارية من غارتنا، وتركت المسدس هناك أيضًا، بحيث يشير الإصبع إلى المتآمرين معه”.
“جميل!” قال قائده، مبتهجًا. “لقد قمنا بدورنا. الآن سيتعين علينا انتظار السياسيين ليحلوا باقي الأمر. ولندعو ألا نضطر إلى إصلاح أخطائهم مرة أخرى. لا أعرف عنك، لكنني أستحق عطلة للحج عندما يتم توحيد القدس، لتصبح مدينة القدس الدولية، الشركة العالمية المحدودة قريبًا!”.

*أستاذ جامعي وروائي فلسطيني مقيم في القاهرة.

Optimized by Optimole