وهم – القصة الفائزة بالمركز الأول مشاركة

Spread the love

القصة القصيرة التي فازت مشاركة بالمرز الأول في مسابقة مجلة “شجون عربية” للقصة القصيرة –

بقلم: د. أسماء بن منصور* |

هي… تعلم يقيناً أن قلبه لا يأبه لها… إنما هو الفضول والإدمان على قراءة تعليقاتها ما يشده إلى اسمها.. ولكنه يحب إغاظتها..
هو… لا تتذكره إلا عندما لا تجد فيما تفكر، فتقضي ساعات طويلة في تحليل منشوراته التي تبدو وكأنها رسائل استفزاز موجهة إليها، خاصة وأنه يختمها بنفس أسلوبها في ختم أعقاب الجمل، بثلاث نقاط لا تقول شيئاً ولكنها تتركها أبواباً مواربة على كل المعاني التي قد تخطر في خلدها من دون أن تضع لهاً مدلولاً محدداً..
تحب إغاظته بكلام عن رجل من صنع كلماتها.. فيغتاظ كالطفل الصغير ويزمجر.
هي… لا توقدها الغيرة عندما ينشر صوراً لخطيبته… إطلاقاً.. ربما إحساساً منها بمقدار سطوتها عليه ومدى قدرتها على شحنه غيظاً فيرد بصورها، والحقيقة أن كليهما معتوه.. فأي أحمق يتسلى بقلبه !!!
¬ هو… لا يحدثها أبداً … إنما يكتفي بنشر جمل قصيرة على صفحته الإلكترونية يضمنها أشياءَ لا تفهمها سواها، وهو يعي ذلك جيداً، يود مراسلتها لكنه يخشى ألا ترد على رسائله الخاصة.
أما هي… فلا وقت لها للعبث على الخاص وتخاف الله… وتخاف على قلبها أيضاً .
لا تدري من أين جاءته الجرأة ليقول ذات يوم:
– أنت مميزة.. وأنا أقدرك.
يكذب… تعلم أنه يكذب.
“لمَ تعشقون نساء وتتشدقون بأخريات وتتزوجون صنفاً ثالثاً يا معشر الرجال؟”، تتساءل بين نفسها في حيرة. ومع ذلك تحاول ألا تُكذّبه جملة وتفصيلاً..تحاول أن تقنع نفسها بأهميتها لديه، ليس لأنه يحبها، كلا.. بل لتشعر بتلك المتعة الغريبة التي تستشعرها الأنثى عندما تحس أن شخصاً ما غارق بها وإن كانت لا تكترث له.
فتسأل نفسها: “ترى ما الذي شدّه إلى تعليقاتي المقتضبة على إحدى صفحات حماية حقوق الإنسان؟ ما الذي شده إليّ وهو يعيش هناك ..في النصف الآخر من العالم، حيث النساء الجميلات وعلى مقاس أفكار الرجال وأجسادهم..؟”.
ويجيبها عقلها: “ربما هو الكبرياء …. تلك الأنفة والغطرسة التي تجعلك لا تركضين خلف أحد”.
لكنها لا تدري أنه مهووس بشخصيتها الغريبة ومزاجها المتقلب أيضاً .. بكلماتها المرتدة على معاني عقول أمثاله من الرجال .. تلك المعاني لا تعجبه أغلبها فتستمر في إغاظته.
لو قُدر لها أن تعيش للثمانين لجعلت كل ما يحدث كتاباً جميلاً بعنوان استفزازي يتقصده لترسله له ذات صباح مطير.. كتاب تلبسه من خزانة دفتي عقلها وقلبها ما تحب أن ترتدي لعقلها من قناعات شرقية وما تحس بقلبها من حب صاخب خرافي كتاب يعزف سيمفونية صراع شرقي غربي.
ليس غرضها أن تهزمه فالشرق لم يهزم الغرب يوماً منذ بدأ عقلها يحفظ التاريخ. ولا هو بوسعه أن يهزمها … يستحيل لأمثاله أن يهزم رأساً كرأسها. ولكن الصراع سيظل قائماً بينهما حتى يطال القلوب… ساعتها إما أن يموت شنقاً أو قهراً أو خمراً.
أما هي .. فلأنها شرقية فهي لن تموت أبداً بسبب رجل…فوحده الكبرياء والشرف من يقتل الشرقية…ولكونها هي زيادة على الكبرياء والشرف؛ لا تقتلها سوى معارك الشهداء.. ولكأنّها رضعت ثورة التحرير حتى أضحى قلبها أوطاناً عربية بدروع مستحيلة على الغربيين.. انتقاماً لشرف الوطن العربي المهان.
لكنه يُلح عليها ولا يكف عن إرسال تعليقاته كل يوم حتى أدمنتها وأدمنته ومع الوقت صار الإدمان تعلقاً وبعد التعلق خفق القلب..
كتبتْ له ذات مرة: “لا أدري لمَ أنا هكذا… لا أصحح ظن أحد بي مهما كانت صفته حتى لو كان أمي وأتعمد أن أمنحك مفهوماً خاطئاً عني… كأن أستفزك بنية مدبرة وأجعلك تظن ما أريدك أن تظن وأنا أخفي أشياء عجيبة وراء ابتسامتي الساخرة… هل سيحين ذلك اليوم الذي أخبرك فيه أنني تقصدت استفزازك طوال تلك السنين ربما كي تكرهني؟… ولمَاذا أرغب في جعلك تكرهني أصلاً؟؟ لكنك لم تكرهني… لم تقدر على كرهي ولم تقدر على حبي أيضاً… وبقيتَ معلقاً بين تقاسيمي الغامضة… وكلماتِي المتقلبة كل لحظة.. فلا تدري في أي خانة تضعني.. أمن الأخيار أنا أم من الأشرار؟ لماذا أصر على جعلك تتوهم عكس ما أنا عليه؟ أنا طبيعية مع الكون عداك أنتَ… وكيف اعتدتُ ذات لحظة على إيهامك بأشياء لا وجود لها في شخصي؟ أأكذب عليك أم أكذب على نفسي؟ تلك الفتاة التي تصفها لك كلماتي ليست أنا… ليست أنا..أنا اسم كائن مختلف تماماً عن أسمائي المستعارة. متى سأتشجع وأنزع قناع القسوة والجفاف الذي أضع في حضرتك أنت فقط؟
ربما لن يحدث هذا أبداً… وربما لن نلتقي أبداً… ولهذا ستتذكر عندما تصل الثمانين هذه الصبية وستشعر بالأسى في حلقك لكنك ستبتسم لأنك وحدك من عصف به إعصارها… ووحدك من ظل معلقاً بين تقاسيم غامضة محببة ومبغضة… فوقفتُ بك بين المتناقضات ووهبتك أكثر من سبب لتبتسم ولتكتب ولتصرخ أحياناً في وجه أناس من دون سبب مقنع ولتفكر ليلاً ولتدخن ولتحدث نفسك أمام المرآة ولتتعس لأنك ما قابلتني يوماً.. لو قابلتني ..؟ أقصد أنا … من دون أسماء مستعارة وأقنعتي كنت ستموت من دون شك عشقاً وسينتهي بك المطاف عبداً .. لا تعاتبني أرجوك… فالحياة لم تمنحني يوماً سبباً لأكشف لك عما في نفسي وجوفي.. ولا عجب في ذلك وأنا فتاة شرقية تعيش في عالم كبير مخادع يزور كل شيء… حتى تواريخ الميلاد ومعارك الحياة..عالم يتلف كل النسخ الأصلية للحياة ويهبك أخرى منقحة ومصصحة ليملأ رأسك بالهراء.. عالم يجعلك تقتنع أنك أنتَ وأنك لستَ أنتَ .. فكيف أهديك نسخة أصلية مني بالله عليك.. كيف؟.
قرأ رسالتها التي نشرتها على صفحتها الإلكترونية من دون أن تحدد لها عنواناً أو وجهة، فهي تعلم تماماً أنه سيفهم أنها له.
لكن ما كانت تخشاه هو أن تقع فريسةَ وهمِ جاذبيتِه التي غررت بالكثير من النساء.
شهرته غطت الأفاق… كيف لا وهو أحد نجوم هوليوود. ما الذي جمع بين قلبيهما حتى ينتبه على تعليقات بعضهما في صفحة إلكترونية لحماية حقوق الإنسان؟
أسخريتها الباذخة من مبادئ الغرب وقناعاته التي تكيل للأوطان العربية بالمكايل ثم تدعي أنها تحارب من أجل حقوق الإنسان؟ أم أنها لغتها العابرة للقارات من جعل أفريقيا تدغدغ قلب أميركا؟
دائما كانت أفريقيا موطن الكنوز التي تشد قلوب الغرب إليها.. دائماُ أغرتهم ودائماً ستغريهم بسحرها الأخاذ.
منذ أيام قال لها عبر سهام كلماته: “أنت أفضلُ ما حدث معي”.
لا تدري أتصدقه أم تكذبه… إنه ممثل.. قد يَعُدُ الحياة مسرحاً مغرياً يتقمص فيه دور بطولة قصة لطالما هفا إليه قلبه.. قد يرغب في العبث في الواقع أيضاً… هو الذي تعود أخذ أدوار البطولة العابثة وقصص الهوى المدوية ذات النهايات المستحيلة.
ربما هو إغراء المستحيل وشغفه لأدوار قنص القلوب ما جعله يرغب في قنصها..
لكن قلبها أدمنه.. وصارت منشوراته بمثابة حقنة الهيرويين التي يأخذها المدمن كل مساء.
تسعدها كثيراً كلماته… تفسد انتظام عقلها.. وتجعلها شاردة طوال الوقت بابتسامات حالمة.
قال لها أيضاً: “منذ بدأت أنتبه على وجودك تغيرت حياتي كثيراً”.
وقال أيضا: “أتفكرين بي مثلما أفكر بك.. أنتِ هناك… أجيبي أرجوك يا صغيرتي.. My Baby لا تتركي هذا القلب يتعذب أكثر”.
” My baby.. منذ بدأ قلبي يهتم بك لم يتوقف عن البحث عنك”.
رسائل كثيرة وتعليقات كثيرة تصلها كل يوم لقلب ما عاد يحتمل أكثر .. لم يعد قادراً على صده بعد الآن والإعراض عن كل هذا الشغف .. لا يؤتى لكل أنثى شرقية أن يقع نجم أميركي في شرك هواها..
هي لم تسعَ إليه.. القدر من وضعه في طريقها ومن وضعه في قلبها أيضاً.. وكبرت كلماته وصارت رسائل هوس طويلة بعدما كانت مجرد منشورات قصيرة.. صارت طائرات نفاثة تلقي بصواريخها على قلبها الشرقي الذي لم يعتد هذه الغارات العنيفة.. المتلاحقة والمصرة والمتمسكة بهدفها..
أضحت هدفه في الحياة إلى درجة أن تكبر سنوات المنشورات إلى خمس سنوات..
خمس سنوات من تبادل رسائل مشفرة.. من دون أي اسم أو دليل واضح على أنها لكليهما.
كلاهما يتعمد ارتداء لغة الضباب.. ربما لأنه نجم مشهور يخشى على سمعته.. أما هي فما الذي يجعلها تخشى التصريح بأنها تتقصده وأن كل كلمة تنشرها فهي له؟
الكبرياء… كبرياء العروبة المفرط في الأنفة..
ماذا لو كان يتسلى فقط؟ خاصة وأن له خطيبة.. ماذا لو رفض مشاعرها لو اعترفت بها.. ماذا لو كانت تمثيلية منه حتى يهزم آخر حصونها المنيعة ليرفع رايته عليها ثم يتجه إلى مستعمرة أخرى يختبر فيها ما يملك من أسلحة دمار شامل؟
ولكنها ترفع راية الاستسلام بعد خمس سنوات من الصمود.. تخبره في منشور تضع فيه اسمه أنها كانت تعنيه هو كل تلك السنين.. لكنه لا يرد طيلة أسبوع.. ويصبح الأسبوع شهراً.. وعندما أقنعت نفسها بعدم جدوى انتظار رسائله عاد… عاد يعتذر عن غيابه.. كان مشغولاً بمهرجان “كان” الدولي الذي يُقام في جنوب فرنسا. لم تسعها الفرحة… قفزت في غرفتها ورقصت.. نظرت إلى مرآتها ذلك المساء لترى عودة الحياة إليها.. أسرعت إلى حاسوبها لتنشر رسالة موجهة إليه لتدرك أنه انفصل عن خطيبته الأميركية وبدأ مواعدة عارضة أزياء فرنسية قابلها في “كان”. حينها فقط أدركت أنها واهمة وأنها رهنت سنين من عمرها لوهم، فابتسمت ثم بكت ثم تعلمت درساً جديداً من دروس التاريخ.

*أستاذة جامعية وقاصة جزائرية.

Optimized by Optimole