مَرْوَان وَالسَّجَّان

Spread the love

قصة فصيرة* بقلم: صباح دهليس** |

بين نفحات ونسمات اللّيل الجميل، كان مروان يعيش مرحلة الرّيم من نومه العميق الّذي قادته إلى حلم جميل إلى حسنائه حسناء الّتي كانت تُشعره بالحنان المحدود واللّامحدود تحت حكم (( رُفع القلم عن النّائم حتّى يستيقظ )) و ما كان ليعرف إن كان في حلم أم علم إلّا بعد إحساسه بِبلل يُلامس رجليْه المتورّمتين، لم تكن قطرات للنّدى ولم تكن حبّات لمطر خفيف، إنّها فقط وابل من مياه المجاري، فيستيقظ مروان مُستذكرا واقع أنّه نائم نصفه الأعلى في زنزانة الحبس و نصفه الأسفل في مرحاضها…مرحاض مزعج بتسرّباته خرّب عليه أسره لا واقعيّا بحبّ حسناء إلى واقع أسره.
ليقع مروان محبوسا فوق حبسه في سجن الأرق و التّفكير اللّامتناهيان، و يعودان به إلى مرحلة طفولته الّتي حكم عليها بالإعدام في محكمة حياة الفقر و الانعدام …
مروان و منذ نعومة أظافره كان يعمل بجانب أبيه وإخوته في الحرث و الزّرع والحصد من جهة والدّراسة بجدّ من جهة أخرى، فهو كان يعرف أنّ العلم وثيقة مهمّة ستُثبت براءته يوما في محكمة الحياة، و لأنّ الحياة قاضٍ قاسٍ ظالم، فقد احتاج مروان إلى شاهد لا يعرف زورَا فلم يجد أخير من القرآن عقد معه عقدا فحفظه مؤمنا و مسلّما بأنّ ((من حفظ القرآن حفظه اللّه تعالى )).
عاش مروان مرحلة الابتدائيّة في أحضان معلّمة تعمل بتقنيّة المظاهر و كم من مرّة خوّفت براءته بأسره في بيت الفئران، ليس لأنّه لم يقم بالواجب المنزليّ بل فقط لأنّه لم يدفع حقّ أوراق النّسخ طبق الأصل، وكم من كرّة جلدته في أقدامه لا لِشيء إلّا لأنّها لم تعجبها آمارات البؤس البادية عليه.
في مرحلة الإعداديّة و بينما كان أقران مروان يرفعون شعار تحدّي كلّ شيء لإثبات رجولتهم الصّغيرة باستنشاق تبغ و معاكسة فتاة، كان هو يتحدّى جوع بطنه و بؤس مظهره و يكسب الرّهان في كلّ مرّة بتسجيل علامات جيّدة في شباك الدّراسة و يكسب نقاط جديدة في بطولة حفظ القرآن.
ولج مروان أسوار الثّانويّة و هو حامل لِكتاب اللّه تعالى بين ضلوع قلبه و مسالك أعصابه الدّماغيّة وحاملٌ كذلك إصراره الدّائم على النّجاح السّبيل الوحيد الّذي سيُوصله إلى حياة دون فقر، وقد عرفت هذه المرحلة أيضا حمله لشعور جديد اختلج صدره… هو شعور الحبّ.
أحبّ مروان فتاة من الضّفة الأخرى من مدرستهم و هي أيضا من الضّفة الأخرى من حياتهم…حين وقعت تلك الفتاة في قلب مروان لأوّل مرّة تبِعها فوجدها تدخل بابا ضخما مُرصّعا بالنّحاس مكتوب عليها بالبند العريض “مدرسة رائد الخاصّة”…تسجّلت كلمة “خاصّة” في قلب الفتى قبل عقله بالعرض البطيء لِيُدرك فجأة أنّه من “العامّة” و أنّها نقيض ” الخاصّة”.
راقب المحبوب محبوبته عدّة أيّام فلاحظها تركب السّيّارة الخاصّة تارة و رآها تذهب إلى الأسواق الكبرى الخاصّة تارة ثانية و ميّز أنّ السّائق الخاصّ يغطّي خصلات شعرها حين المطر تارة ثالثة…فيحسب مروان- لأوّل مرّة- حسابا لِفقره و يلعن لعنةً لحاله.
تشجّع الفتى على أن يُخرج الحقيقة الّتي ماعدا صدره يسعُها و إمّا حياة وإمّا ممات…دنا الفتى من مدرسة الفتاة و حين دقّ الجرس مُعلنا خُروج التّلاميذ دقّ هو قلبه رهبا و روعا من يوم قيامته، اقترب المحبّ من حبيبته و مافتئ ينطق فمه بما يُخبّئه صدره إذ بأحدهم يقبض على كتفيْه الهزيلتيْن و يُدخل عنوة سيّارة قالت أجراسها أنّها سيّارة شرطة، فيجِد نفسه بعد هنيهة في زنزانة مُجرما بين المجرمين!
جلس المجرم يفكّر في جرمه :
– هل اغتصب الفتاة و هو لا يدري مثلا ؟ هل تحرّش بها جنسيّا و نسي زعما؟ هل الدّولة أصبحت تهتّم بالأخلاق كلّ هذا الاهتمام شكّا ؟ أنا لم أفّكر بها يوما بشهوانيّة، حتّى في أحلامي معها كنت أُقبّلها في جبينها و أضُمّها ضمّة حنان ابنٍ لأمّه…
قطع تفكير مروان شرطيّ الباب آخذا إيّاه إلى المكتب الّذي علم فيه أنّ أبو الفتاة ضابط شرطة كبير وعلم أنّ اسم حبيبته “حسناء” فأيقن مروان أنّه وقع فريسة للجلّاد…
عرف بدن مروان أنواع العذاب من يد الّذي حلم به يوما أنّه سيكون حماه وسمعت أذناه أصناف من السّبّ و الشّتم و دقّ قلبه خيفة حين هدّده بالسّجن أربع سنوات، خرج الفتى من مكتب العذاب يبتسم في قرارة نفسه:
– اسمها حسناء ياله من اسم جميل !و يا لها من مناسبة لمعرفة الأسماء!
أُعيد الفتى إلى زنزانته محمولا مُسجّلا على جسمه علامات التّعذيب لِيُذهل مجرمو تلك القاعة من هول المنظر فيسأله أحدهم :
– ما جُرمك يا هذا؟
يسكت مروان قليلا ثمّ يُجيب :
– جُرمي أنّي أحببت!!
لِيدخل الحاضرون في هيستيريا من الضّحك و يدخل هو في هيستريا من كسب العبرات و إصدار الشّهقات.
مكث السّجين في سجنه مكوثا لا مأكل فيه و لا مشرب و لا منام و كان يسمع من هنا وهناك أنّ أطرافا تتدخّل لإخراجه و على رأسها أبوه الّذي دفع رشاوي من الذّل لكسب عطف الجلّاد.
أُفرج على المجرم البريء بعد أربعة أيّام و ليال لِيجد والده عند باب السّجن يستقبله استقبالا حارّا بكلمة: ” بهدلتنا”! فكان ختامها مسك.
وجد مروان نفسه فجأة مشهورا بقضيّته بين عامة النّاس و خاصّتها و وجد نفسه كذلك راسبا للسّنة الدّراسيّة فأيّام سجنه هو كانت أيّاما لاجتياز الإمتحان لِزملائه.
نسي الفتى الرّاسب حزنه بِمجيء شهر البركات الّذي جعل الفرح في قلبه فرمضان هذه السّنة يُعدّ الأوّل الّذي سيقرأ فيه القرآن على مسامع النّاس في “التّراويح”…فرحة تبددت حين قرأ مروان ورقة بعثته لِمنطقة نائيّة بِامتياز فوجد مروان نفسه أسيرا مرّة أخرى في مُلحقة المسجد الّتي حين كان يخرج مِنها لا يجد غير شمس ساخنة و شجر لا ثمر فيه ، فيُحسّ أنّه مسجون حين يكون خارجا أكثر ممّا يكون داخلا.
خرج رمضان من العام الهجري و خرج المُقرئ معه من سجن غرفة الجامع لِيدخل في سجن الملل بغياب الأيام المباركة.
عزم الفتى على العمل لِيساعد نفسه بالمال من جهة و أيضا لِيتخلّص من الفراغ الّذي سيقتله بِرصاصات التّفكير و قد كان من السّهل عليه إيجاد عمل بعد المكانة التي حضي بها بدخوله السّجن ، مكانة في الحقيقة محلّها الشّفقة و فقط.
عمل مروان في مصنع كبير لِوالد أحد أصدقائه المقرّبين كمُرتّب للمخزن و منظّف له ، و ما إن دخل بابه حتّى رمقه المسؤول بنظرات الكره، قال مروان في نفسه:
– ” يا إلاهي أجرني…كره من أوّل نظرة ” .
مرّت أيّام أحبّ فيها الفتى المُجِدّ عمله و كان يصبر على سوء معاملة مسؤوله و يوكّل عليه تعالى في قرارة نفسه.
في أحد الأيّام عاد الفتى المنهك إلى داره وراح بمجرد فتح والدته الباب إلى النّوم يبتسم متحمّسا ليوم غد يوم استلام أوّل أجر في عمله…ما كاد الفتى يغمض عيْنيه حتّى جاءت أمّه مفزوعة توقظه:
– مروان مروان …الشّرطة على الباب ماذا فعلت؟
أسرع المرعوب إلى الباب على نيّة الاستفسار لكنّه وجد نفسه كرّة أخرى محمولا إلى سيّارة الشّرطة ومنها إلى السّجن…تفاجأ الفتى بزميليْه في العمل راكنان هناك .فهِم منهما أنّهم متّهمون بسرقة مبلغ مُعتبر من المال، تبذّذت مفاجأة مروان حين علم أنّ الاتّهام تحت إشراف المسؤول.
بعد دقائق وجد الفتيان الثّلاثة أنفسهم في مكتب الضّابط الّذي حاول إخراج اعتراف منهم بِشتّى أنواع العذاب ،وحين يئس أمر الشرطيّ بِإعادتهم مُتوعدا إيّاهم بِعذاب أكبر غدا …كان مروان يحمد اللّه ويبتسم داخله و يقول:
– ماذا لو كان هذا الضّابط والد حسناء…يا ويلي !
في الزّنزانة نصح مروان صاحبيّْ السّجن ضرورة اعتراف الفاعل فَأن يُسجن المُذنِب خيرٌ من زيادة اثنان معه ظلما ،لكنّ لا حياة لمن تنادي و بقي كلّ شاب يرمق الآخر على أنّه مُدان و أنّه هو بريء.
مرّت الأيّام وجد المتهّم نفسه يبصم أوراق دخول السّجن ووجد نفسه يتعرّى أمام الجيّد والعاطل ليلبس اللّباس الرّسمي للمجرمين ليدخل قفص المتّهمين، بينما حسناء وقتها كانت قد خُطبت وكانت تجرّب ألبسة الفرح استعدادا لدخول قفص الزّواج،في حين أنّ أباه كان يتديّن من هنا وهناك لِيُخرج فلذة كبده من الأسر.
…………
عاد مروان من تفكيره الطّويل نهض من غرفة الزّنزانة لِيجد نفسه واقفا في المرحاض ،مسح الماء من رجليْه وتوكّل على اللّه فيومه هذا حاسم هو يوم النّطق بالحكم، عاش مروان – ومعه زميليْه- أجواء الجلسة الأخيرة كالعاصي الّذي ستأخذه الزّبانية إلى نار جهنّم فالحاضر وحتّى الغائب كان يعرف أنّ القاضي سيحبس الفتيان الثّلاثة لسنة على الأقّل… حين تسلسل اليأس إلى قفص الفتيان دخل رجل وشوش وهمس ولمز مع أصحاب الجلابيب السوداء فبعث قليلا من الأمل في قلبهم تحقق بنطق القاضي ” نظرا لإقرار مسؤول المخزن… مصحوبا بوثائق عن وجود خلط في الحسابات ووو،نعلن براءة المتّهمين والإفراج عنهم فورا”
صفّق الحضور طويلا و زغردت النّساء لكنّ مروان أوقفهم بانفجاره باكيا:
– بهذه البساطة! والضّرب ، العذاب ، التّعذيب ، الوقت ، قلب أمّي ، تديّن النّقود ، الوقت ، كلام النّاس ، السّمعة …من يُبرّئني من كلّ هذا؟
احتاجت مراسيم خروج مروان ساعتين، وبمجرّد أن أخرجه السّجان من باب السّجن الكبير أحسّ كأنّ سجّانا آخر يفتح له باب سجن أكبر كِبر وطنِه، و حتما سيَحكم مروان على نفسه بالمقصلة حين يعرف أنّ حسناء تزوّجت.

*وصلت القصة إلى القائمة القصيرة لمسابقة مجلة “شجون عربية” للقائمة القصيرة.

**قاصة جزائرية.

Optimized by Optimole