رحلة نهر الغانج

Spread the love

قصة قصيرة** بقلم: ربى الشوشي* |
إن كنت تشبهني فإن الخوف يتسرب إليك بأشكال مختلفة، كالخوف الذي يصيبك وأنت تنظر الى والديك خوفاً من أن يكبرا، أو ذاك الذي يتلبسك أنت المصاب بفوبيا الظلام حين تفتح عينيك في بؤرة العتم فتغرق، أو ذاك الذي يتربص بك في الركن المقابل وأنت تحيا رغماً عن الموت، أو أن يأتي على هيئة لم تخطر لك على بال كبالون مستدير أحمر مربوط إلى دكة من الأخشاب تطفو بطيئاً على بطن نهر الغانج.
كان يوما لزجاً، يلتصق بمساماتك، يحصرك في ركن ضيق جداً منك وكأنك محاصر بك، يأتي عليك وعلى كل ما حولك، لم يكن التضرع للإله كافياً ليحمينا من كل تلك الأهوال، مستسلمين نمضي في موكب الحج، مبتلين بأدعية وآمال، ومواكب محتشدة بالبخور وحناجر لا تتوانى بأن تصدح “المجد لأمنا غانغا”، ونحن نحاول أن يعبر صوتنا الى الآلهة الى النقاء من وسط هذه المياه القذرة بالأوساخ والذنوب.
كنا خمستنا في موسم الحج هذا والداي، أختي شاندرا، داراش وأنا داكشا؛ وكأن لأهلي حس أدبي في تسميتنا، فثلاثتنا بأسمائنا مجتمعة نشكل “ضوء القمر اللامع”. كل موسم حج نتصدر الأفواج المبتهلة، لماذا ندين لأمنا غانغا بكل هذا البر؟ فلأننا بالإضافة الى الإيمان المطلق الذي نملك، فكل من أبي وأمي مزارع، تشربا نعمة الماء كالزرع تماماً.
كانت لضفاف النهر أبواغ، بشر يتكاثرون بمجرد النظر إليهم، أفواج تتوالى على المياه بمد وجزر، يشكل بعضها سلاسل بشرية تتماسك بأكفها وأفراداً متلاصقين رغماً عنهم. وليس الموتى باستثناء، فالأطواف تسبح كأسراب من السمك بألوان أقمشة زاهية بعضها يستعر فيها النار لا مجازاً والأخرى تركت للمياه تبتلعها رحمة ولطفاً.
مضينا منهكين، من الركوع وضرب رؤوسنا بصفحة الماء، أجسادنا الإسفنجية تتجفف من المياه وتعود إلى جغرافيتها الأولى من التجاعيد لتعود كرة أخرى ويغمرها العرق، وأنفاس الغرباء ودموعهم. جلسنا الخمسة على دكة أبعد من هذا التجمع إلا أنك لا تخرج من هذه المتاهة البشرية بسهولة. وحده الجوع تغلغل الى مساماتي، وطريق العودة لا يهضم ولن أستطيع تحمل ثورة معدتي التي بدأت تطال توازني، بعد محاولات إقناع طويلة، توجهت لشراء شيء بسيط أخمد به هذه الثورة، وحدي بفرح موارب بخمس روبيات في يدي. أتلفت يمنة ويسرى، ترى أي طعام أشتهي، عليه أن يكون لذيذا ودسما وبالطبع ألا يتجاوز ثمنه الخمس روبيات. أمضي متأملا اللافتات كافة، وأنسل دون وعي مني عن أهلي، كان الإنفصال عن هذ المدار خطأ فادحاً.
منهمكاً في تناول الطعام في طريق عودتي، كان ما تذوقته حقاً هو طعم كدمة قوية على رأسي، ومن ثم لدغة خفيفة على رقبتي رحت إثرها في سبات عميق. معانداً الخطة التي وضعت لي على ما يبدو، في أن أبقى مخدراً، فتحت جفنيّ ثقالاً على ضبابِ برتقالي، كغروب في غير موعده، كان نظري لا يزال ضبابياً، ينقشع رويداً، ليكشف لي أن الغروب ما هو إلا شالٍ يحيط بي من كل جانب، وبأن يديّ وقدميّ مربطة، وفمي مكمم. هناك أضلع خشبية تحتي، تمشي الهوينة تتلقفها أيدٍ خفية، أصخت السمع، هذه الأيدي هي للنهر لا غير، وأصوات الابتهالات لم تكل بعد.
صرخت بلا جدوى ليرتد الصدى بكاءً بدموع تنسكب على الجانبين كعينين جديدتين تفجرتا في وسط النهر، أستجمعت صوت دب في حنجرتي وصرخت كرة أخرى رغم ما امتلك من يقين من أن لا أحد يسمعني. “أمنا غانغا، أنا في رحمك الآن لا تجهضيني، أرجوكِ ردي ابتهالاتي نجاة”، كان جسدي ينتفض كالشال عندما تهب نسمة عنيدة فيه، وأنفاسي كلما طالت الرحلة تقصر.
مرّ النهر بطيئاً والزمن مشبعاً بالخوف، توقف الطوف لبرهة، والشال انسل ليكشف عن أني ارتطمت بصخرة، ركض ثلة من المؤمنين لينقذونني أنا الجثة من انقطاع رحلتي وأنا أحاول أن أحرك جسدي وهم مشدوهون، “يا للمعجزة!” وهم لا يعلمون بأنه من دون أن تخرج روحي من جسدي غدوت جثة، إن كان تناسخاً، فكيف لي أن أبعث كرة أخرى كجثة، ماذا فعلت لأستحق هذا العقاب.
عدت مع التيار أمضي، يتراءى لي خيال لبالون أحمر يشاركني المسيرة، مربوط الى الطوف، لا أدري لماذا، ليس لأهلي يد في هذا، لا بد بأنهم ليسوا من قاموا بطقوس إرسالي الى العالم الآخر. يا أيها البالون؛ أينا سيعمر أكثر، ربما يكون أكثر حظاً مني. استقر الطوف، وتكاثفت همسات حولي وكشف الشال البرتقالي عن وجوه صفراء:
– “اللعنة، إنه مستيقظ، أكيل الغبي!، ماذا سنفعل الآن لقد رآنا! هل نتركه ونهرب، هل نقتله”.
– “لا عليك إنه طفل صغير لن يدرك ما حصل، إن كان ولا بد فبإمكاننا التخلص منه لاحقاً”.
كنت أستصرخ وهماً يضعونني في حقيبة قماشية سوداء، هكذا يتبضعوننا لأي غاية لا أدرك، يا إلهي أهلي، كيف لطريق الجوع أن يؤدي الى الموت، هذا الإدراك يسحب أنفاسي، اللهاث للحياة يجعل قواي تخور.
– صوته يغدو مسموعاً! سيفضحنا!
– “هيي أسكت، نحتاج أن نأتي بالكلى لهم وإلا سيأخذون كلانا نحن! ألم ترَ أن البالون أحمر، لم يكن أخضر أو أي لون آخر، الأحمر يا راجيش أي أن نحضره أو نكون نحن مكانه. نحن أيضاً نتحدث عن مئة روبية، فكر بطفلك المريض. هل تريد أن تنقذه أم أن تنقذ هذا الطفل، لتسرع قبل أن ينتبه علينا أحد”.
هل هذا يعني أني لن أموت، أنا ذو البالون الأحمر، لا أفهم هل سيستأصلون أعضائي دوناً عن أستئصالي من الحياة، مازلت أتمدد، في هذه الحقيبة علّي أن أغدو أكبر منها وأخرج. بت أتخيلني ككيس جلدي مفرغ من أي شيء، ملقى لتلتهمني النيران، أو الكلاب المسعورة.
الخطوات المتسارعة لم يثنِها وزني، الا أنهم في منتصف الطريق ملوا من التلوي والهمهمة، فألقوا بي برعونة الى الأرض، وركلوني في كل الأماكن الى ما كان قريباً من كليتي، أنهم يهتمون ببضاعتهم جيداً. سكنت بلا حراك إلا أن دعائي بات أقوى وأعمق. “غانغا، أنا ابنك البار، أنقذني هذا الهميم والمقاومة الضعيفة التي أبدي لا تكفي، أخرجني الى النور، أنا اللامع لا أريد أن أنطفئ”.
أتى من بعدها صوت ضعيف، صوت معجزة ضعيف، لتفسخ جاء من الأسفل، لم يكن أنا، لم يشقوا جسدي بعد، أنه الكيس، تفتق عن أمل، خرجت منه أتكور على الطريق حتى أقدام أحدهم. رفعت رجائي قبل عينيّ..لأجد والديّ وعدد من المتطوعين الذين يبحثون عني، أمي مبللة بالدمع ووالدي مثكلاّ بالندم، يكلمان شرطياً لا مبالياً وكأنه فقد من الأطفال ألفاً. استصرخ والدي:
– داكشا! م م ماذا؟ أيها الشرطي أنظر ….أمسكوهم !
التفتوا جميعاً لحاملي الكيس، رأيتهم هذه المرة أوضح، وجوه بالية، كخرقة استعملت أكثر مما يسمح لها العمر، فاحمة من الشمس، هزيلة. لم أكن لأميزهم حتى ولو كانا أخر وجهين أراهما في حياتي.
ركض الجمع من كل مكان والشرطي اصطنع اللامبالاة وركض، بعضهم كان لا يزال يخوض في الماء لكن شعر أن هذا الأمر أكبر من الصلاة. أمسك كل منهم ما يحيط به من عصا أو زجاج، وركضوا خلفهم، ووالدي يفك وثاقي كنت أرى رؤوسهم تتحول الى بلالين حمر؛ وأكرر في نفسي “الأحمر يا راجيش أي أن نحضره أو أن نكون مكانه!”

**فازت القصة في مسابقة مجلة “شجون عربية” للقصة القصيرة بالمركز الاربع مشاركة مع فصة أخرى.
*قاصة أردنية.

Optimized by Optimole