“رحلة نحو الآفلين”

“رحلة نحو الآفلين”
Spread the love

بقلم الكاتبة الجزائرية فاطمة حفيظ/

إلى اللقاء، أنا سعيدة بهذه الروح الجميلة والطاهرة التي وهبتني إياها، لقد انبثقت منك إلى هذه الأرض الجديدة التي أرسلتني إليها، إنها تبدو أرضا أشفقت عليها الشمس كثيرا وأشرقت عليها الكثير من الدماء و المياه أيضا والتي صاغها الله بنفس القدر، لا أحب الشمس كثيرا، ولا اعشق الزهور والمجوهرات الكثيرة، لا أحب الرجل الوسيم أيضا، ولا ابتسامات النسوة بالحفلات وهن يتبادلن لمعان الذهب وبذخ الثياب الفاخرة، كل هؤلاء من الآفلين.
لقد بدأت رحلة اكتشافي بهذه الأرض الواسعة عن شيء لا يعرف الفناء. هذه الأرض التي يملؤها الصخب والضجيج دون جدوى، لا أحد منهم يستطيع أن يفكك شيفرة الأخر ولا حتى يسمح له بمبادلة الحب كما يفترض أن يكون، إنهم يتبادلون الماديات والتي تمزق الكلمات من أيديهم العطشى والتي أصابها القحط. الكثير من هذه المخلوقات تحاول جاهدة التخلص من الوساوس الشيطانية ، ثم بلحظة ما، يسيرون خلف بوق إبليس، وبلحظة ثانية، يطبخون بطون الفقراء الجائعة على نار هادئة ولا يسمحون لجثثهم بارتداء مثقال ذرة من رحمة، وبلحظة ثالثة، يرددون إرحمنا يا أرحم الراحمين، وبلحظة رابعة، يسيرون خلف بوق إبليس مجددا بكامل قواهم العقلية.
على الأقل، كان من واجباتهم اتجاه بيت العقل الحرام أن يعيشوا بعض الصدق والمقاومة ويتخلصوا من غلاف الإفك وهفوة الاعتقاد أن كل شيء يسير وفق تقلبات الطبيعة المزاجية، والله تعالى لا يخاطب فينا شيئا إلا عقولنا. دون عقولنا، ما نحن إلا كتلة لحمية ذائبة الحركة والتي تعج بأقصى كمية من الشهوات و مدائن من الشر اللامتناهي “إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” (سورة الرعد، الآية الثالثة).
لقد مضى زمن طويل عن آخر عصر يعبق منه أريج الطيبة، الحب العذري، والصدق. كان ذلك منذ تعاقب عصور الخلافات الإسلامية المزدهرة. الآن، أغلب البشر يبيعون الابتسامة بسوق النخاسة بالتجزئة وبالجملة، ويتفاوضون على أسعار الألم بسوق الرق المركزي أين يتواجد بيت النقاهة بمعايير حديثة و متطورة؛ وإنهم كذلك يوزعون كتب التوحيد السماوية بشكل رهيب على طاولات الأشغال الحكومية الدولية، إنهم أصحاب ديانات إنسانية جدا،…إلى درجة أنهم قد أزالوا قرابة نصف ما خلقه الله بالمعاركو الحروب.
إنهم يتوددون إلى بعضهم كي لا يرحل أحدهم دون علاج أزماته التي لم يستطع شراءها، وإن ساء الأمر، سيتغير مجرى التودد، و ينقلب إلى نزاع مخضب بالاستعباد والدماء.
من هنا، مررت بين أقلامي التي أشعلتها مثل غليون قديم، وبين فضاء أوراقي المعتمة والبياض الناصع الذي يغمرني به الله كلما ناجيته، أناضل كي أحيا حياة أخرى، هنا صلبتني السماء كي يتقدس وجعي وتصبغ عذريته الأرض الرخوة تماما كمسرحيتهم العابرة للواقع، إنهم لا يدركون الحقيقة، حقيقة أنهم يشعرون بالخوف من طبيعتهم لذلك يقومون بتزيينها بما لذ وطاب من ماديات، إنهن يخفن إزالة طلاء الأظافر وبروز المخالب، إنهن بحاجة إلى زرع أنيابهن بمجالس النميمة، كي يتداولن الأنباء العظيمة ويناقشن قضايا ثياب امرأة لبستها للمرة الثانية وكررت لبس نفس الحذاء بحفلتين مختلفتين.
إنهم هناك بمجلس الرجال، يتساءلون كيف تمكن صديقهم من إنجاز الطابق الثالث رغم أنه موظف عادي؟ ذلك الخوف جعلهم ينسحبون من معالمهم البشرية ككلاب مسعورة تنتشي رائحة اللحم الساخن.
هنا، لا أحد يدرك أننا منحوتات فنية قد أودع الله فيها البلايا رفقة عقل وبعض الصبر، ولا أحد يدرك إنهم يبيعون البلايا ويشترون بثمنها القليل بعض الراحة الوجيزة، بدل شق الطريق إلى حب الله المفعم بالفضيلة، الكمالية، والأبدية. ثم يتجدد بينهم الولاء ويتجدد معه عصر السبي، لقد تم سبي الكثير من النساء والرجال إلى عالم الماديات، ولقد نسي الكثير منهم أنه تأليف إلهي بارع من عظم رغم صلابته فهو مجسد فان، وعقل عذب، رغم هندسته، فهو آفن. لم يفهم أغلبهم أن تكوينه ليس تركيبة من قطع معدنية وأن غايته ليست تحقيق فلسفة الوصول إليها بطريقة آمنة وتقنية .
إلى أين تمضي تلك الليلة بسوادها حين تمتص أجساد الجياع، ثمة رحلة ما، تقبض على محتواهم بقوة، وتهديه كزاوئد وفواكه، تتعفن بطاولة ثري آخر، لم يكن بحاجة إليها على الإطلاق. ما الذي يصنعه البريق واللمعان الذي ترتضيه حياتنا البائسة، رغم أن السواد هو الأصل على هذه الأرض الجديدة، وهو أصل كل شيء كوني حين يأخذ الله منه ما بثه فيه، وحتى كصيغة لونية، فهو إعلان جميع الألوان الرحيل إلى مكان ما.
إلى أين أستطيع الوصول بجثتي التي تتعثر بمخاوف الجوع، الاستعباد، والتحلل إلى شياطين صغيرة.
ها قد حان أمر الله برحيلي إلي جواره، وأتى ملك الموت كي يجمع أحد الآفلين ويعيدهم إلى سيرتهم الأولى.
لم نعرف قيمة ما وهبنا الله إلا بعد فوات الأوان، وتحقيق الهزيمة، الحياة أقصر بكثير من إيجاد كل الأجوبة الآفلة هي الأخرى، لا يكفي الوقت إلا لشيء واحد وهو حب الله.
مرحبا، لقد عدت إليك من الأرض الجديدة التي أرسلتني إليها، لقد أنهكتني هذه الرحلة كثيرا، وأعتقد أنني راسبة.

Optimized by Optimole