الملف الأصفر

الملف الأصفر
Spread the love

قصة قصيرة* بقلم: محمد الحريري** |

خرج تيسير من مبنى الإذاعة والتلفزيون قبل أن يقف أمام البوابة يتطلع إلى الطريق والسعادة تغمره، والشمس أوشكت على الغروب وهو يعبر الطريق إلى الكورنيش وسط زحام السيارات قبل أن يقف أمام النيل مزهواً بنصره الأخير، ويتطلع من حوله ليشعر بأن القاهرة التي كان يضيع في أضوائها ليلاً وزحامها صباحاً لا تسعه من الفرحة، وأن حلمه أصبح في عنان السماء، التفت مرة أخرى لمبنى ماسبيرو قبل أن يسير بمحاذاة الكورنيش إلى تلك الدكة الرخامية والتي جلس على أحد طرفيها رجل عجوز.
جلس وأخرج علبة السجائر وتناول واحدة وأشعلها سريعاً وسحب منها نفساً طويلاً ونفثه بقوة، قبل أن يضع ساقاً على ساق وهو يتذكر كيف تغير حاله عن الأمس القريب، حين كان ملحناً مغموراً تتقاذفه البارات والملاهي الليلية، باحثًا عن مغنٍ أو راقصة تشتري منه ألحانه الرخيصة والتي كان أحياناً يتقاضى ثمناً لها عشاء وزجاجة من الجعة، وأحياناً بضع المئات من الجنيهات إذا كان لحناً جيداً، حاول مراراً وتكراراً أن يلتقي أحد المغنيين المشهورين أو حتى أن يعرض موهبته على أحد الملحنين الكبار عسى أن يتبنوه ويقدموه إلى الجمهور من دون فائدة.
وفي إحدى الليالي كان عائداً من مدينة بنها بعد أن باع بضعة ألحان إلى ذلك المغني المحلي هناك ببضع مئات من الجنيهات، وعاد مزهواً بنفسه بعد أن أمّن لنفسه قوت أسبوعين كاملين يستطيع أن يستريح فيهما ويؤلف ألحاناً جديدة ويستمر الحال، وما أن وصل إلى موقف عبود حتى ذهب إلى السيارات المتجهة إلى إمبابة، حيث يقطن هناك، وركب في أول سيارة وكانت لا تزال خاوية. وجلس في المقعد خلف السائق بجوار النافذة وهو يؤمن على فئات صغيرة من النقود ليدفعها للسائق من دون المساس بالورقات فئة المائة بجيب قميصه بجوار قلبه، وحين حرك قدمه ليجلس مستقيماً في جلسته ارتطمت قدمه بما يشبه الأوراق لتمتد يده ويلتقطها، وإذ هي ملف أصفر عتيق ملقى أسفله، فتح الملف ليفاجأ بأنه يحتوي على نوت موسيقية مكتوبة باليد لم يستطع قراءتها، حيث كان الضوء خافتاً وانتظر حتى عاد إلى منزله والتقط ذلك الأورغ العتيق الذي فقد من أزراره أكثر مما احتفظ وبدأ في عزف تلك القطعة الموسيقية والتي سحرته نغماتها الحزينة من أول نغمة حتى أنها أدمعت عيناه وهو يقسم أنه لم يسمع لحناً بتلك الروعة في حياته، وظل طوال الليل يعزف تلك المقطوعة مراراً لا يكاد يملها قط، وكأن اللحن الذي أسره من النغمة الأولى يخاطبه ويقول له “أنا فرصتك الذهبية”.
أعاد تيسير الأوراق إلى الملف ووضعها أمامه وهو يسأل نفسه: “هل يبحث عن صاحب اللحن”.
لقد كان الملف الأصفر من دون أسماء أو عناوين تدل على صاحبه، وحين كان ضميره يبحث عن حل للوصول لصاحب اللحن، كان شيطانه يقنعه بأنها فرصته ليبيع تلك المقطوعة الرائعة بثمن جيد يؤمن له شهوراً من المعيشة الرغدة، بل سنين وربما يشتري بعض الملابس الجديدة لتليق به حين يلتقي المنتجين والفنانين وقد يشتري سيارة صغيرة تحمله في الليالي الممطرة والأيام الحارة، لا بل سيارة حديثة وهاتفاً محمولاً ذا التفاحة المقضومة وجهاز أورغ حديثاً وكمبيوتر يستطيع أن يبدع عليه ألحاناً جديدة، وتشعبت الأحلام وتخطت الحدود بعد أن قرر أن يبيع تلك المقطوعة على اسمه ويحقق أحلامه.
ولكن أولاً يجب أن يضع لمسته على اللحن حتى إذا ظهر صاحبه الأصلي لا يستطيع أن يدعي أنه لحنه ويرضي جزءاً من ضميره، وظل طوال الليل يحاول أن يضع لمسته في اللحن من دون فائدة فكل مرة يضيف أو يحذف من قلب اللحن يشز منه ويفقد روعته، حتى قرر أن يستبعد آخر ثلاث نغمات من اللحن كانت موجودة من دون أي فائدة سوى أنها ثلاث دقات متتالية على نغمة (الدو) ويكتفي بالباقي منه.
وفي اليوم التالي توجه إلى استديو الأهرام، حيث علم من أحد أصدقائه أن المخرج وليد عيد يبحث عن لحن لتتر مسلسله الجديد الذي سوف يعرض في رمضان القادم، وعلى باب الاستديو أوقفه أمن الاستديو مانعاً دخوله قبل أن ينفحهم ورقتين من فئة المائة جنيه. فقد قرر أن يجازف بكل شيء للوصول إلى هدفه، وما أن وصل إلى مكان التصوير وجد المخرج يجلس مع بطلة العمل والمنتج والمؤلف يراجعون أعمال التصوير، ليقتحم تيسير مجلسهم في لحظة سكونهم للراحة من العمل.
“أستاذ وليد تسمح لي أسمعكم حاجة على البيانو وأنتم قاعدين”.
نهره وليد بشدة: “اطلع بره يا تيسير مش ناقصة وجع دماغ”.
ليلتفت إلى البطلة ويخاطبها مستعطفاً: “يا أستاذة يا فنانة يا عظيمة هسمعكم دقايق وأمشي، ولو معجبكمش بالجزمة بره الاستديو”؟
ابتسمت له بعطف وهي تخاطب وليد: “خليه يا وليد إحنا كده كده بنستريح، شوية مزيكا ما تخسرش”.
أومأ لها وليد بالإيجاب والتفت لتيسير: “اتفضل يا زفت بس أول ما أشاورلك بإيدي توقف وتخرج بسرعة من غير كلام”.
ابتسم تيسير وتوجه للبيانو أقصى الاستديو وأخرج الملف الأصفر وبدأ في العزف، كان تيسير يشعر بأنه يطير بالنغمات فوق السحاب مع ذلك البيانو الرائع الذي أضفى سحراً رائعاً للنغمات ويترك لأنامله العنان تقفز بعذوبة فوق لوحة المفاتيح وهي تضرب الأوتار بلحن حزين خلاب، وما أن انتهى ران الصمت للحظات قبل أن يسمع همهمات بكاء صادرة من الفنانة قبل أن تقف مكانها وتصفق بحدة وراءها المؤلف والمنتج، بل وكل الحاضرين في الاستديو وأخيراً المخرج الذي لا يكاد يصدق أن تلك الألحان تخرج من ذلك الشخص المتطفل الذي كان معتاداً أن يسمِّعه ألحاناً لا ترقى أن تسمى موسيقى من الأصل.
جرى كل شيء سريعاً فقد شرع المؤلف بوضع الكلمات على اللحن والمخرج يختار مع البطلة الصوت الأمثل ليغني تلك الأغنية، والأهم المنتج يكتب شيكاً مكوناً من أربعة أصفار لتيسير كما أمرت البطلة، وعُرض المسلسل ونجحت الأغنية وقفزت إلى ما أبعد من كونها أغنية تتر لمسلسل لتصبح حديث العامة والخاصة في الشوارع والمقاهي والبيوت وتتخاطفه الاستديوهات الفنية والاجتماعية ليتحدث عن لحنه الرائع.
وها هو يجلس على شاطئ النيل يدخن سيجارته بزهو وقد نسي السبب فيما أصبح، لم يلحظ في لحظات نشوته ذلك الرجل العجوز الجالس بجواره والذي يتطلع في وجهه منذ أن جلس إلا حين التفت له وابتسم، ليباغته العجوز بسؤال: “حضرتك أستاذ تيسير غراب الملحن”.
تعجب تيسير من أن يكون قد اشتهر هكذا ليعرفه الناس في الشارع كالممثلين ولاعبي الكرة: “أيوة يا حاج أنا هو”.
“أنا من المعجبين بيك يا أستاذ”.
“أشكرك ده من ذوقك يا حاج”.
“لأ حقيقي أنت فنان ممتاز، بس كان عندي ليك سؤال مهم”.
“تحت أمرك”.
“اللحن اللي جاي هتألفوا إزاي؟”.
“مش فاهم قصدك إيه؟”.
“أفهمك، بس الأول أنت ليه شلت آخر ثلاث نغمات من اللحن؟”.
كان وقع الصدمة على تيسير رهيباً فقد أيقن أنه أمام كاتب اللحن الأصلي بلا شك فمن غيره يعرف بوجود تلك النغمات الثلاث التي رفعها من نهاية اللحن.
تلعثم تيسير محاولاً الإنكار أو الاعتذار وتحشرجت الكلمات في حلقه وهو يشعر بالضآلة أمام الرجل وأمام نفسه، ليكمل العجوز:
“النغمات دي جزء مهم من اللحن، بيها اللحن يكمل، النغمات دي كانت دموعي في لحن رثائي، أرجوك رجعهم تاني للحن، أنا مش عايز منك حاجة أنا كنت جاي أقولك كده وبس، ومتخفش سرك في بير”.
أجهش تيسير بالبكاء على وقع كلمات العجوز وهم أن يرد عليه لولا أن أوقفه العجوز مرة أخرى: “خليني أحكيلك حكاية اللحن أنا كنت عازف تشيلو في دار الأوبرا قبل ما أطلع معاش من كام سنة واللحن ده هو اللحن الوحيد اللي أنا ألفته بعد وفاة ابني الصغير بسبب داء السل من أربعين سنة لأني ما كنش معايا ثمن الدواء. وبعد ما ألفته شلته في الملف الأصفر واختفى بعدها، حاولت أكتب اللحن مرة تانية معرفتش راح اللحن من دماغي بمجرد ما حزني خف وفضلت أدور عليه أربعين سنة من غير فايدة، لحد ما لقيته صدفة في أوراق مراتي اللي ماتت من كام شهر وأخدته وكنت رايح علشان أسجله ونسيته في الميكروباص، أظن أنت ممكن تكمل القصة من هنا”.
رد تيسير بصوت يكاد أن يخرج من حلقه: “أنا آسف أنا ملقتش أي دليل على الملف يقول إنه بتاعك، وأنا على استعداد أن أدفع لك كل اللي كسبته من اللحن ده و..”.
ابتسم العجوز مرة أخرى ورد مقاطعاً: “أنا قلتلك مش عايز حاجة بس أرجوك رجع النغمات الثلاث، وفكر هتألف أغاني تاني إزاي”.
وهم العجوز بالمغادرة قبل أن يُقبّل رأس تيسير الذي ارتعد وانهار تحت وقع تلك القبلة من الرجل الذي سرق منه لحن موت ولده.
“يا عم اسمك إيه؟”.
ابتسم له العجوز: “مش مهم اسمي إيه، المهم اسم اللحن كان إيه؟”.
“كان اسمه إيه؟”.
نظر العجوز إلى القمر الذي تحول في تلك الليلة إلى قمر أحمر كبير: “ابني مات في ليلة كان القمر أحمر زي ده، علشان كده سميته دماء على سطح القمر”.
التفت تيسير ناحية القمر البدر الذي تحول إلى لون وردي للحظات قبل أن يعود محدثاً العجوز الذي كان قد اختفى بين زحام الناس.
ويعود لينظر إلى القمر الوردي وعيناه مغرقتان بالدموع وصوت العجوز يرن كالجرس في أذنيه.
“اللحن اللي جاي هتألفوا إزاي؟”.

*القصة فازت في المرتبة الثانية من المسابقة الأولى لمجلة “شجون عربية” في القصة القصيرة.

**روائي وقاص مصري.

Optimized by Optimole