اللّبن المر

Spread the love

قصة قصيرة* بقلم: محمدو ولد بوبكر** |

على أريكة تقادم عدها، منصوبة فوق أعمدة حديدية مزركشة بنقوش تقليدية، في فناء المزل قبل الغروب بساعة، كانت أم حامد ومسعودة يخضن في أحاديث جانبية يكسرن بها رتابة الوقت وهدوء القرية السرمدي.
تلك القرية ذات المورفولوجيا الرمادية الرابضة بين التلال، على سهل صخري.
حين مالت أضواء شمس المغيب الباهته نحو الغرب وتماهت خيوطها بغنج يخنقها الظلام، لاحت في الأفق أصوات خوار البقر، في الوقت الذي كان حامد يتفقد العجول في عرسهم، يوثق أربطتهم، بينما كانت تسلم تتقدم باستحياء لتصب كاسات شاي بنكهة النعناع للنسوة.
حامد شاب قدم حديثا من الخارج، بعد أن قضى عقدا ونصف من عمره في المهجر، استطاع بعد صبر وجَلدِِ أن يجني مبلغا ماليا معتبرا، ليعود لأرض الوطن، يحدوه الأمل والشوق لوطنه حالما بمستقبل مشرق، بعد سنوات طويلة قضاها بعيدا عن أهله وأحبته، كما أن حب الوطن يتحرك في دمائه ..فلم تكن هجرته إلا على مضض بفعل البطالة.
وصل حامد مسقط رأسه فاشترى سيارة رباعية الدفع وقطيع من البقر ورمم منزل أهله المتهالك، وتزوج بنت عمه تسلم برضا منه_دون ضغط المحيط الاجتماعي الذي يشجع زواج الأقارب_بعد ماسمع من ثناء على خلقها، وحين رآها كان جمالها محفزا آخر له.
مسعودة عجوز ستينية قدمت للقرية من مضارب أهلها التي تقع غير بعيد من حي أهل تسلم، تملك هذه المرأة ذاكرة قوية ومعرفة فائقة بالأنساب، جاءت لتقضي فترة مع أخيها عبد الله، الذي يعاني من وسواس قهري وقرحة معدية مزمنة، لها فضول جامح لمعرفة كل شخص في القرية، فهي لا تملك الكثير من الوقت للزيارات والإستفسار ورغم ذلك لا تضيع فرصة للتعارف.
سلمت تسلم بأدب واحترام على العجوز وناولتها الشاي وانصرفت.
تناولت مسعودة كأس الشاي بأصابع مرتعشة ونظرت لأم حامد نظرة تحمل الكثير من الإستفهام؟
ففهمت أم حامد من فورها، وأجابتها قبل أن تنطق ببنت شفة:
_ هذه تسلم زجة ابني حامد.
لبثت مسعودة هنيهة تحتسي الشاي وتحدق في أم حامد، تسترجع ذكريات تأبطها النسيان، وهي تردد “تسلم…تسلم…تسلم” ،أين أعرف هذا الوجه والملامح؟ ثم عدلت من جلستها متسائلة من جديد:
-تسلم بنت محمد المختار؟
-“والله”..أتعرفينها؟
-(خصارتك فيه) كيف لا أعرفها، وحيهم بالقرب من حينا وبيننا وبينهم ألفة ومحبة وحسن جوار ،أبوها رجل طيب رغم صلابته وحدة طبعه أعرفه جيدا.
حين صدح المؤذن ب”حي على الصلاة”وقت صلاة المغرب، جمعت مسعودة ثيابها وأخذت عصاها ذات الرأس المقوس وقامت تقاوم فلول الهرم بصعوبة بالغة وتنهيدات متتالية..ودعت صديقتها وتوارت في ظلمة الليل البهيم.
بعد أسبوع عادت مسعودة إلى حيها واجتمعت ذات ليلة قمراء بنسوة الحي يتسامرن، وتخطّفت ألسنتهن الكثير من الشائعات ومستجدات الأحداث، فما لبثت مسعودة أن زفت لهم خبر زواج حامد من تسلم بنت محمد المختار؛ فأمطرنها بالأسئلة عن المهر والعفش و…فكانت ترد على كل سؤال بتفصيل ممل، الوحيدة التي لم تسأل عن شيئ مريم، فقد اكتفت بانصات مبهم، بل بدت شاردة عن المجلس تفكر في شيء ما؟ مما أثار فضول مسعودة فسألتها:
_مريم مابالك أسبق علمك بالخبر؟
_لا أبدا لكن الأمر لا يبدو مستساغا عندي!
-كيف ذلك؟
_ أفيكن من أخذت علي كذبا في حياتي؟
أجبنها بلسان واحد:
_ما عاذ الله ماعلمنا عليك من سوء، وما أخذنا عليك كذبا قط.
وكأنها كانت بهذا التمهيد تجهزهم لإستقبال أمر ما!
_تسلم أرضعتها أنا مع ابني سيدي ومن نفس الثدى رضع حامد مع أخيه الأكبر، كان الخبر صادما لهن..ساد المكان صمت مقيت وترسبت ظلمة الليل بعد أن ودع القمر السماء معلنا نهاية السمر.
انتشر الخبر سريعا، كانشار النار في الهشيم وبعد يومين وصل الخبر تلك القرية الوادعة بين التلال، متدثرتا بثوب السكينة والهدوء الأزلي، كانت الصدمة قوية على أحمد، الذي أراد أن يخبر زوجته(اخته من الرضاعة) بالأمر فلم يجد العبارة المناسبة للموقف.
دخل عليها في غرفتها، فإذا بها متزينة، شاح بوجهه عنها، تقدمت نحوه أخذت بيده :
_حامد مابك؟ كأنك تريد أن تقول شيئا.
_لا شي، كل ما كنت أريد أن أقلوه أنك ستلحقين بأهلك غدا.
_ماذا ؟ أهلي! خيرا هل حدث لهم شيء؟
_لا أبدا هم على مايرام لله الحمد.
_بالله عليك أخبرني مالأمر لقد روعتني؟
_لا تقلقي حين تصلين لأهلك، ستعرفين كل شيء.
باتت مريم في سهاد تلك الليلة تسامر النجوم التي ترصع قبة السماء..تدور كلمات حامد في رأسها دون أن تجد لها تفسيرا..تقول في نفسها ربما طلقني وإلا فلماذا اعتزلني لليلة..كانت الليلة طويلة عليها والمزل ضيقا حرجا، كل شي تغير في لحظة دون أن تعرف مالسبب.
صبيحة اليوم الثني استيغظ الجميع باكرا إلا تسلم فهي أصلا لم تذق للنوم طعم، جهزها حامد جهاز المطلقة فتأكدت شكوكها ..في الطريق إلتزم حامد الصمت وكانت تبدو عليه علامات الحزن، أرادت أن تكسر جدار الصمت بينهما ،فسألته بفضول:
-لمذا تفعل هذا أنا مذا فعلت لك حتى تطلقني؟
_ألم أقل لك انك ستعرفين كل شيء من أهلك.
_ولماذ لاتخبرني أنت؟
لم يد عليها.
حين وصلا وجدا الأهل في استقبالهما، لكن تسم لم تسمع صوت الزقاريد التي من عادة نسوة الحي أن يطلقنها عند وصول المطلقة، فأسرتها في نفسها ولم تبدها لهم.
حين نزلت من السيارة احتضنت امها بحرارة وهي تذرف دموع الشوق والوجد..بعد برهة أرادت أمها أن تحدثها، في الوقت الذي كان حامد في طريق عودته لأهله.
_أي بنيتي لا يخفى على شريف علمك أن أمر الله قدرا مقدورا، هذه مريم تقول أنك وحامد اخوين من الرضاعة.
_ماذا!.. أنا و حامد؟
شاحت بوجهها حياء وأجهشت بالبكاء..
كم هو غريب أن تتلاشا سعادة هذين الزوجين بهذه السرعة، تسلم مازال وشم الحناء حديثا في يدها، وحامد قفل راجعا يندب حظه التعيس، بعد أن طارت بحلمه عنقاء مغرب.
بعد أسبوع من تلك الحادثة وما أثارت من شجن في تلك الأسر، زارت مريم قرية أهل تسلم فلتقت بأمها صدفة.
فأرادت أن تستوثق من الخبر..بعد التحية والسلام استفسرت منها؟
فردت:
_أتذكرين عام (لحميرة) ، حيث لبثنا معكم زهو أسبوع بوادي (انيتي)؟
حينها كنت ترضعين تسلم وانا أرضع أبني سيدي.
_آه أذكر ذلك. لكن أبنك سيدي يكبر تسلم بثلاث سنوات، كيف يعقل أن ترضعي تسلم معه؟
-لا أعرف لكنني على يقين أن سيد أرضعت معه بنتا لك ولا أعلم أن لك بنتا غيرها.
– لعلها أختها الكبرى، التي توفيت في عامها الرابع، بمرض الكليرا الذي اجتاح المنطقة، وخلف الكثير من الضحيا، كانت ابنتي من ضحياه رحمها الله وأسكنها فسيح الجنان وأثقل بها الميزان .
_ اذا هو ذاك، والله ما كنت اعلم ان لك بنتا غير تسلم لقد أصابني الكبر وخانتني الذاكرة، فليسامحني الله على فعلتي، لقد ارتكبت اثما كبيرا.
_لاتثريب عليك يغفر الله لك.
بشر حامد وزوجته فورا بالخبر، فكان حجم فرحهما وسعادتهما بالخبر بحجم فرح مسافر أضاع دابته بأرض فلات لا ماء فيها ولا بشر، وبينما هو يصارع الفناء في طلبها إذا بها تتقدم نحوه.

*القصة فازت مشاركة في المركز الثالث من مسابقة مجلة “شجون عربية” للقصة القصيرة برعاية دار الرافدين للنشر والتوزيع.

**قاص موريتاني.

Optimized by Optimole